ملخص خطبة الجمعة بتاريخ 18/9/2020

يتابع حضرته حديثه عن سيدنا بلال t، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَسَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى عَرَّسَ وَقَالَ لِبِلَالٍ اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ (أي أخبرنا عند وقت الصلاة وأيقظنا عند موعد صلاة الفجر) فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأَصْحَابُهُ .. فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ .. فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ بِلَالٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمْ الشَّمْسُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r أَوَّلَهُمْ اسْتِيقَاظًا … ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ r الصَّلَاةَ قَالَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ]وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي[

عندما دخل النبي r الكعبة يوم فتح مكة أعلن بين الناس أنه من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن”. وقال r: أعدُّوا راية لبلال فأعطى النبي r راية بلال لأبي رويحة وقال له: هذه راية بلال، فليقم في عارض الطريق حاملا إياها، وليُعلن أن الذي يأتي تحت راية بلال فهو أيضا آمن. كان السبب وراء ذلك أن سيدنا بلال t لم يكن لديه أقارب في مكة ولم يكن يملك أية قوة في مكة وما كان له صديق فيها، فكان هذا المسكين يُظلم بما لم يُظلم به أحد، وهكذا يكون r قد انتقم من أولئك الذين عذبوا حضرة بلال t بأن جعله اليوم سببا في لآمنهم.

وفي رواية أن نجاشي الحبشة كان قد أهدى للنبي r ثلاثة رماح فاحتفظ النبيُّ r بأحدها لنفسه وأعطى الثاني لسيدنا علي بن أبي طالب وأعطى الثالث لسيدنا عمر بن الخطاب t. والرمح الذي كان قد احتفظ به النبيُّ r كان بلال يحمله يوم العيد ويمشي أمام النبي r حتى ينصبه في ميدان صلاة العيد فيصلي r تجاهه. وبعد وفاة النبي r كان يمشي سيدنا بلال حاملا ذلك الرمح أمام سيدنا أبي بكر t.

لما مات رسول الله r كان بلال يؤذِّن، فإذا قال “أشهد أن محمداً رسول الله ” انتحب الناس في المسجد، فلما دُفن رسول اللّه r قال له أبو بكر: أذِّنْ. فقال له: إن كنت أَعتقتَني لأن أكون معك، فلك ذلك، وإن كنت أعتقتَني للّه فخلِّني ومن أعتقتَني له. فقال: ما أعتقتُك إلا لِلّه. قال: فإني لا أؤذِّن لأحد بعد رسول اللّه r. قال: فذاك إليك. فأقام في المدينة حتى خرجت بعوث الشام في عهد سيدنا عمر t، فسار معهم.

وجاء في رواية أن بلالًا مرة رأى النبي r في منامه وهو يقول: “ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا” فانتبه حزينًا، فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي r وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السَّحَر، فعَلا سطح المسجد، فلما قال: “الله أكبر، الله أكبر” ارتجت المدينة، فلما قال: “أشهد أن لا إله إلا الله” زادت رجتها، فلما قال: “أشهد أن محمدًا رسول الله” خرج النساء من خدورهن، فما رُئي يوم أكثر باكيًا وباكية من ذلك اليوم.

حدث زيد بن أسلم أن بني أبي البكير جاؤوا إلى رسول الله r فقالوا: زوِّج أختنا فلانًا، فقال لهم: “أين أنتم عن بلال؟” ثم جاؤوا مرةً أخرى فقالوا: يا رسول الله، أنكح أختنا فلانًا، فقال: “أين أنتم عن بلال؟” ثم جاؤوا الثالثة، فقالوا: أنكح أختنا فلانًا، فقال: “أين أنتم عن بلال، أين أنتم عن رجل من أهل الجنة!” قال: فأنكحوه. (تاريخ دمشق)

لقد كتب حضرة مرزا بشير أحمد: ذات مرة جاء للقاء عمر رضي الله عنه في عهد خلافته، أبو سفيان وبعض من أسياد مكة الذين أسلموا عند فتحها واتفق أن حضر في الوقت نفسه بلال وعمار وصهيب وغيرهم أيضا للقاء عمر رضي الله عنهم، وكان هؤلاء قد عاشوا عبيدا وكانوا فقراء جدا، ولكنهم كانوا من الذين أسلموا في أوائل الإسلام. ولما أُخبر عمر رضي الله عنه بذلك، دعا للقائه بلالا وغيره من هؤلاء العبيد قبْل أولئك الزعماء. ويبدو أن أبا سفيان كانت لا تزال فيه بقية من نزعة الجاهلية، فلما رأى هذ المشهد استشاط غضبا، وبدأ يقول هل كان علينا أن نرى هذا العار؟ ننتظر اللقاء ويُكرَم هؤلاء العبيد باللقاء قبلنا. فلم يلبث سهيلٌ أن ردّ على أبي سفيان وقال من المذنب في ذلك؟ لقد قام محمد صلى الله عليه وسلم بدعوتنا جميعًا إلى الله تعالى، فسارع هؤلاء إلى تلبية ندائه أما نحن فتأخرنا في ذلك، فلم لا يفضَّل هؤلاء علينا؟ فعندما انفض الجمع أتوا عمرا رضي الله عنه وقالوا له: لقد جئناك نستشير في الأذى الذي تعرضنا له في مجلسك هذا اليوم، هل من سبيل إلى غسل هذا العار؟ فلما سمع قولهم اغرورقت عيناه، وأشار بيده إلى الشام حيث كان المسلمون يقاتلون جيوش قيصر الروم، وكان رضي الله عنه يعني أن وصمة العار هذه لن تمحى إلا إذا شاركتم في ذلك القتال وضحيتم بأرواحكم. فخرجوا جميعا من فورهم وركبوا جمالهم متوجهين ناحية الشام، ويخبرنا التاريخ أنه لم يرجع أيٌّ منهم حيًّا. هكذا محا هؤلاء بدمائهم الزكية وصمة عارٍ تلطَّختْ بها جباههم نتيجة أفعالهم.

إذًا فأولاً لا بد من تقديم التضحيات لنيل المكانة العالية، وثانيا إن من تعاليم الإسلام الجميلة أن الذين يضحون ويكونون من الأوفياء من البداية، فلهم المكانة العليا في كل حال، ولو كانوا من العبيد أو من أي عرق ونسل، وقد بوأهم الإسلام هذه المكانة عن جدارة واستحقاق، وهذه المكانة ينالها كل إنسان، أيا كان، بغض النظر عن كونه من الأغنياء أم من الفقراء. فالذين يضحّون، ويكونون أوفياء، ويضحون بأرواحهم، ويبذلون كلَّ غال ورخيص، هم الذين ينالون هذه المكانة الرفيعة.