المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية .. 175

إلهام “رجل من قريتين عظيم” بين التعريف وتنكير التعظيم

الاعتراض:

اعترض المعارضون على المسيح الموعود عليه السلام لتنكيره كلمة (قريتين) في إلهامه التالي:

لولا نُزّل على رجل من قريتين عظيم (البراهين الأحمدية)

وقال المعارضون بأن المسيح الموعود عليه السلام ذكر هذا “الوحي” في: ( البراهين)1883، (عاقبة آتهم) 1896، 1900(الأربعين). ولكنه في عام 1907 (الاستفتاء) ذكره بكتابة (أل) التعريف. وفي هذا الصدد يتهم المعارضون المسيح الموعود عليه السلام أنه لا يحفظ الآية القرآنية التالية:

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف 31). عدا عن دلالة وحيه على جهله بالستعمالات (أل) التعريف.

الرد:

بالنسبة لإلهام المسيح الموعود عليه السلام: لولا نُزّل على رجل من قريتين عظيم.(البراهين الأحمدية) فلا بدّ لنا من وقفة خاصة، نقدم لها بما يلي:

كلمة (القريتين) الواردة في الآية الكريمة: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (32) } (الزخرف 32) يُقصد بها (مكة والطائف)، نظرا لأهمية القريتين بالنسبة للعرب في الوقت الذي بُعث فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فال (أل) في كلمة القريتين هي (أل) العهدية.

لذا ففي تفسير وتأويل وحي المسيح الموعود عليه السلام نحن أمام عدة إمكانيات وأسباب تأويلية وتفسيرية في تنكير كلمة (قريتين)، كما يلي:

السبب الأول: تنكير كلمة (قريتين) لمنع اللبس مع الوحي القرآني المشابه له

بما أن الله تعالى في وحيه هذا للمسيح الموعود عليه السلام لم يقصد من كلمة القريتين مكة والطائف معا بالذات، فكان لا بد من تنكير كلمة قريتين لكي لا يلتبس هذا الوحي مع الوحي القرآني، ولا يُظن بأن القصد من القريتين هما مكة والطائف بالذات؛ لأن أهمية الطائف اليوم في عصر المسيح الموعود عليه السلام لم تعد كما كانت للعرب عند بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بل احتلت مكانها في الأهمية بالنسبة للمسلمين قرى ومدن أخرى؛  وكأن معنى هذا الوحي يقول:لولا نُزل على رجل من قريتين أُخريين -غير تلك التي في القرآن الكريم-.

ولذا فسّر المسيح الموعود عليه السلام هذا الوحي في هامش حقيقة الوحي سنة 1907 بأن القصد من القريتين هما مكة والمدينة. حيث قال في تفسيره:  (أي شخص يسكن في قرية قاديان الصغيرة في البنجاب يدّعي أنه المهدي الموعود. لِمَ لَم يُبعث المهدي المعهود في مكة أو المدينة التي هي أرض الإسلام؟( حقيقة الوحي 1907)

ولا يمكن التذرع بتفسير المسيح الموعود عليه السلام هذا للوحي، من أجل الطعن والقول بأن هذا التفسير يحدد القريتين فأصبحتا معهودتين ووجب تعريف القريتين في الوحي، فهذا الطعن يبطل من أوجه:

الوجه الأول: أن المتكلم في الوحي هو الله تعالى، والوحي لم يشأ أن يحدد القريتين بل أبقاها للمتلقي أو للسامع أن يفسرها ويؤولها، وكلام المسيح الموعود عليه السلام هو فقط تفسير للوحي وليس بالضرورة أنه يحصر القريتين بشكل قاطع فقط في مكة والمدينة. لأنه من الممكن أن يعترض الناس بنفس هذا الاعتراض قاصدين من القريتين قرى أخرى إسلامية كما سيأتي، فاعتراض الناس وفكرهم الذي ينص عليه الوحي ليس مقيدا بتفسير المسيح الموعود عليه السلام.

الوجه الثاني:  أن هذا التأويل للوحي جاء متأخرا جدا سنة 1907 بينما الوحي نفسه نزل عدة مرات منذ 25 سنة سبقت، أي سنة 1883 و1896 و1900 . ففي كل هذه الفترة كان للوحي أن يفسر ويؤول بتأويلات مختلفة كما سيتضح من الفقرات التالية.

السبب الثاني:  تنكير كلمة قريتين لإطلاق المعنى

تنكير كلمة قريتين في هذا الإلهام قد جاء قصدا وعمدا ليدل على أن القصد هو أي قريتين في العالم الإسلامي مثلا (مكة والمدينة) أو (مكة والقدس ) أو (مكة والطائف) أو (القدس والشام) ، وليس بالضرورة قريتين معهودتين محددتين. والسبب في هذا الإطلاق أنه لا قيد على أفكار الناس واعتراضهم المنصوص عليه في الوحي. فكل شخص قد يعترض على المسيح الموعود عليه السلام بهذا الاعتراض بطرق مختلفة، فأحدهم يقول لولا بعث هذا المسيح من مكة أو المدينة، وآخر قد يعترض ويقول لولا بعث هذا المسيح من القدس أوالشام مثلا. ( الاعتراض على يعث المسيح الموعود أو على نزول الوحي عليه هو نفس الاعتراض حقيقة)

ويدعم هذا كله أن المسيح الموعود عليه السلام في تفسيره للوحي من سنة 1900 في كتاب الأربعين لم يحدد ولم يقيد هاتين القريتين،- وذلك قبل تفسيره للوحي بمكة والمدينة الذي صرح به سنة 1907-؛ حيث قال:

“وقالوا لولا نزل على رجل من القريتين عظيم””أي سيقول البعض إن رجلا فلانيا يمكث في مكان كذا وكذا أحق بهذا المنصب والدرجة” [أربعين (2/ 25)/سنة1900]. فلم يحدد حضرته هاتين القريتين وأبقى الكلام على إطلاقه. وتفسير حضرته لهذا الوحي بمكة والمدينة والذي جاء لاحقا في حقيقة الوحي سنة 1907، وذكرناه أعلاه إنما هو أحد التأويلات وليس بالضرورة اقتصار التأويل عليه.

السبب الثالث: أن التنكير جاء للَفتات بلاغية أهمها التعظيم .

وبناء على كل ما تقدم ففي هاتين الإمكانيتين يكون التنكير مقصودا جيء به لنكات ومعان عظيمة وغزيرة غابت عن أعين المعترضين. وهذا ما يؤكد بلاغة وفصاحة هذا الكلام كله. فمعروف بلاغةً أن التنكير يستعمل لأغراض بلاغية مختلفة، منها ما يفسر تنكير كلمة القريتين في هذا الإلهام، إذ جاء عن أهداف التنكير وأغراضه البلاغية ما يلي:

” للتنكير أغراض بلاغية كثيرة تستدعيها المقامات المختلفة لللمخاطبين، نذكر منها: 1: التعظيم: قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة 180) أي: حياة عظيمة حري بأن نحافظ عليها…7: التعميم..9: إرادة المتكلم لشيئ غير معين من جنس معروف” [ البلاغة العربية مقدمات وتطبيقات ص 131-132]

وهذا بالفعل ما نراه ينطبق على أغراض التنكير في هذا الإلهام كما بيّناه من التعميم وإرادة الله عز وجل لشيء غير معين، هذا بالإضافة إلى التعظيم وإظهار الأهمية لهاتين القريتين؛ أي: لولا نزل على رجل من قريتين عظيمتين أو مهمتين ك (مكة والمدينة) / (مكة والقدس)/ ..ألخ.

وبناء على كل ما تقدم يثبت أنه من الجائز أن نقول تصرفا بآية القرآن الكريم ما قاله المسيح الموعود عليه السلام: لولا نُزّل على رجل من قريتين عظيم.

فلا خطأ ولا عجمة في حذف هذه الـ (أل)، فالكلام صحيح لفظا ولغة ومعنى وفصاحة وبلاغة، وهو في الحقيقة تصرف بآيات القرآن الكريم، كما ادّعى المسيح الموعود عليه السلام، بأن في وحيه الذي يتلقاه شبه آيات قرآنية مع شيء من التصرف. فلا يمكن الطعن بالمسيح الموعود عليه السلام بأنه لا يحفظ النصّ القرآني للآية ذات الصلة.

ومن الجدير ذكره أن المسيح الموعود عليه السلام ذكر هذا الوحي بتعريف كلمة القريتين في مواضع مختلفة، الأول في كتاب (أربعين) سنة 1900 وكذا في حقيقة الوحي سنة 1907 بالإضافة إلى كتاب الاستفتاء سنة 1907 أيضا. وهذا يدل على أن الوحي الذي ينزل على المسيح الموعود عليه السلام ينزل بصيغ مختلفة في كل مرة، وكلها صحيحة لا خطأ ولا عجمة فيها. ولا يمكن الادعاء كما يقول المعارضون بأن المسيح الموعود عليه السلام صحّح هذا الوحي سنة 1907، فهو وارد بتعريف كلمة القريتين منذ سنة 1900 في كتاب “الأربعين”؛ فالقضية ليست تصحيحا بل تنويع وتصرف كما هو حال الوحي القرآني حيث يقول تارة: (الصابئين) كما في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} (البقرة 63) وتارة يقول: الصابئون، كما في {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ } (المائدة 70).

ففي بادئ الأمر نزل هذا الوحي عليه منكّرا لألّا يختلط مع الوحي القرآني ويُفهم من القريتين نفس ما عُني به في القرآن الكريم، ثم بعدها وبعد أن دلّ هذا الوحي الأولي أن القصد مغاير عما هو في القرآن الكريم، جاء الوحي معرفا بال التعريف التي للعهد الذكْري، على اعتبار أن القريتين أصبحتا معروفتين، أي تلك القريتان المذكورتان في الوحي الأول سابقا، والتي قد تؤول بتأويلات مختلفة،  كتأويلها بمكة والمدينة أو أي مدينتين مهمتين للعالم الإسلامي.

فيا أيها البشر إنها ليست أخطاء ولا تعارض ولا اختلاف في كل هذا، بل إنها عظمة اللغة العربية في مرونتها واتساعها، وبعدها كل البعد عن الجمود والتحجر والتزمت.