المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..261

فنون التذكير والتأنيث الإعجازية ..34

اكتساب المضاف التذكير والتأنيث من الضمير المضاف إليه

الاعتراض:

يدّعي المعارضون وقوع الخطأ في قول المسيح الموعود عليه السلام التالي:

_ إنكم ترون امرأة تموت بعلها ويتركها حاملة ضعيفة، فترى حولها نكبة ومصيبة (مكتوب أحمد، ص 10).

والصحيح وفق زعمهم القول (يموت بعلها) بتذكير الفعل لتذكير البعل وليس بالتأنيث.

الردّ:

لا خطأ في هذا التعبير، إذ له وجه في اللغة العربية، وما له وجه في اللغة العربية ليس ينبغي أن يُطلق عليه بأنه غلط، على حدّ قول ابن جني. أما وجهه وتوجيهه فعلى اكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه؛ ومنه جواز هذا الاكتساب إن كان المضاف إليه ضميرا، وذلك كما في قراءة الآية : لا تنفع نفسا إيمانُها.

وقد أفردنا لهذا التوجيه مقالان تفصيليان (مظاهر الإعجاز 99 و100) يمكن الرجوع إليها والنظر في تفصيلاتها. ولكن رأينا أن نخصّ هذا المقال، لإعادة بعض ما قلناه هناك، وتبيين كيفية ووجوه انطباقه على الفقرة قيد البحث.

 

فخلاصة ما قلناه هناك ما يلي:

يجوز أن يكتسب المضاف التأنيث من المضاف إليه وذلك وفق الشروط التالية:

1: أن يكون المضاف بعض المضاف إليه، أو كبعضه، أو منه أو به، أو أن تجمعهما صلة غير صلة الجزئية تدل على اتصالهما

2:  أو أن يكون المعنى مشتملا عليه، (أي على المضاف إليه)

3:  وأن يصح الاستغناء بالمضاف إليه عن المضاف، فيصح حذفه دون أن يؤثر في المعنى، أي أن يصح المعنى مع هذا الحذف ولو مجازا.

4: يجيز بعض النحاة مثل ابن جني وابن سيده سريان التأنيث من المضاف إليه إلى المضاف، حتى لو كان المضاف إليه ضميرا، كما في الآية القرآنية {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء 5) ، وكما في قراءة الآية القرآنية (لا تنفع نفسًا إيمانُها) حيث اكتسب الإيمان التأنيث من الضمير (الهاء)، رغم أنه في هذه الآية لا يجوز حذف المضاف وفق رأي ابن مالك .

فهذه هي عمدة التوجيه الذي نذهب إليه في الفقرة  المذكورة أعلاه، في تأنيث كلمة (البعل) حيث اكتسب التأنيث لإضافته إلى الضمير (الهاء). ولنا أن نبيّن الآن كيفية انطباق هذه الأمور على هذا التوجيه، والاعتبارات الأخرى التي تسوغه.

1: تجويز النحاة اكتساب التأنيث من الضمير، وهو ما هو واقع حقيقة في هذه الجملة.

2: تجويز هذا الاكتساب من الضمير، إذا كان المضاف بعض المضاف إليه أو منه أو به، أي بوجود الصلة القوية بينهما.

كقول ابن جني في الاكتساب من الضمير:

“ومن ذلك قراءة أبي العالية: “لا تَنْفع نفسًا إيمانُها” بالتاء فيما يروى عنه، قال ابن مجاهد: وهذا غلط.

قال أبو الفتح: ليس ينبغي أن يُطْلَق على شيء له وجه في العربية قائم -وإن كان غيره أقوى منه- أنه غلط، وعلى الجملة فقد كثر عنهم تأنيث فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه أو منه أو به. …. فهذا وجه يشهد لتأنيث الإيمان؛ إذ كان من النفس وبها.” {المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/ 236)}

وهنا في الفقرة قيد البحث، جعل المسيح الموعود عليه السلام، المرأة وبعلها كالشيء الواحد مبالغة، أو جعل البعل جزءا لا يتجزا من المرأة مبالغة، لوجود العلاقة والصلة الوثيقة بينهما، فكأن حياته حياتها وموته موتها.

3: جواز هذا الاكتساب من الضمير بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه مع صحة المعنى ولو مجازا. كقول ابن سيده  عن الاكتساب من الضمير : ((وَالصَّحِيح عندنَا جوازُه )) وَذَلِكَ أَن التَّأْنِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ لأنْ تَجُوزَ العبارةُ عَنهُ بِلَفْظ الْمُؤَنَّث الْمُضَاف إِلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ لَغْوٌ وَقد تَجُوزُ العبارةُ بِلَفْظ الْمُؤَنَّث عَن ذَلِك الْمُذكر وَإِن كَانَ لفظُها مَكْنِيًّا أَلا ترى أَنا نقُول إنّ الرِّيَاح آذَتْنِي وَإِن أصابعي ذهبتْ وَأَنا أُرِيد البعضَ والهُبُوبَ” {المخصص (5/ 182)}

وعن الحذف مع صحة المعنى ولو مجازا جاء في أوضح المسالك:

“أي مع صحة المعنى ولو مجازا، وعدم تغييره في الجملة. ويشترط أن يكون المضاف جزءا من المضاف إليه، أو مثل جزئه؛ وذلك بأن تجمعه بكله صلة قوية غير صلة الجزيئة، تدل على اتصاله به؛ كاللون، أو الثوب، أو الخلق، أو الحب … إلخ { أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (3/ 86)}

وهنا، في الجملة قيد البحث، جعل موت الرجل موتا للمرأة مبالغة ومجازا كأنه قال : تموت هي مجازا لموت بعلها .  فيجوز هنا التعبير عن المضاف بلفظ المؤنث مجازا.

4:تجويز هذا الاكتساب من الضمير، على أن يكون المعنى مشتملا على المضاف إليه.

وفي هذا جاء في كتاب الحمل على المعنى في العربية ما يلي:

” من الأمور التي يكتسبها المضاف من المضاف إليه التأنيث وهو كثير والتذكير وهو قليل. وليس كل مضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه، بل هناك شروط لذلك وهي: أن يكون المضاف بعض المضاف إليه، أو كبعضه، أو منه أو به، أو أن يكون المعنى مشتملا عليه، وأن يصح الاستغناء بالمضاف إليه عن المضاف، فيصح حذفه دون أن يؤثر في المعنى. { الحمل على المعنى 216-217}

وهو ضرب من التوسع في الكلام جاء عنه:

“فما يؤديه التوسع في المعنى، وذلك أنه إذا أجرى حكم المضاف إليه على المضاف في التذكير والتأنيث، فإنه يريد بذلك أن ينتظمهما معا في الحكم، ولا يخص المضاف وحده به.

فمن المعلوم أنك إذا قلت: (جاء غلام سعيد) كان الجيء للغلام وحده، ولكن إذا قلت: (أفنَتنا تتابع السنين) كان في تأنيث الفعل إشارة إلى أنك تريد السنين أيضا فكأنك قلت: (أفنتنا السنون وتتابعها) وهذا توسع في المعنى، لأنه كسب معنيين في تعبير واحد.” {معاني النحو (3/ 135)}

وهنا توسع المسيح الموعود عليه السلام في المعنى، وشمل المرأة في الموت لموت بعلها، مبالغة تعبيرا عن شدة مصابها.

فباختصار، نستطيع القول أن المسيح الموعود عليه السلام، أراد من قوله (تموت بعلها) ولِلفتة بلاغية تعبّر عن هول المصاب الذي ألمّ بالمرأة بموت بعلها، أراد أن يشمل المرأة في معنى الموت مجازا كموت معنوي، فجعل من بعلها جزءا منها أو جعلهما كالشيء الواحد نظرا للاتصال الوثيق بينهما، فيكون موت البعل بمثابة موت للمرأة أيضا. ولهذا أنّث البعل بتأنيث الفعل؛ ليشمل المرأة في هذا الكلام ويؤدي كل هذه المعاني مجتمعة.

وفي الجملة انتقال من حمل على معنى التأنيث للإضافة،  إلى حمل على اللفظ، حيث قال بعدها (ويتركها)؛ ومن هنا نقول في توجيه هذه الجملة:

{ أنّث البعل لإضافته إلى الهاء، فقال (تموت) حملا على معنى التأنيث، ثم بعدها عاد وذكّره، حملا على اللفظ الأصلي للبعل. أما التأنيث للإضافة فيُحتمَل هنا على شمل المضاف إليه في الموت مجازا، كأنه يقول إن المرأة تموت هي الأخرى (مجازا)، وهو يقصد هذا المعنى ويريده، فكأن موت الزوج هو موت للمرأة أيضا، فبذلك قصد معنيين في تعبير واحد، وهذا شبيه بقراءة الآية: لا تنفع نفسا إيمانها؛ وشبيه بالآية: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء 5).

وعليه نرى أن لهذه الفقرة من كلام المسيح الموعود وجه من وجوه اللغة العربية يسوغها ويؤكد صحتها، فلا يمكن القول بتخطيئها.