المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..268

نكتة الكلمات العربية- الأردية ..2

الكلمات :صَداقة، وصَرافة

الاعتراض:

في مقالين لـ”أبو العجائب” اتهم فيهما المسيح الموعود عليه السلام بالعجمة وبالخلط بين معاني الكلمات الأردية والعربية، وانه لا يفرق بين المعنى الأردي والعربي، ويجهل المفردات العربية، وذلك في استعمال حضرته عليه السلام للكلمات التالية: صَداقة، وصَرافة. وملخص اعتراضه أن المسيح الموعود عليه السلام يستعمل هذه الكلمات الأردية في لغته العربية بمعانيها الأردية وليست العربية. فيقول المعترض في اعتراضه :

“كلمة “صداقة”:

كلمة الصداقة في الأردو تعني: الصِّدق والحقّ ( truth)

أما في العربية فتعني: ( friendship)  فهي مصدر الصَّديقِ، وقد صادَقَه مُصادقَةً أي يَصْدُقُه النصيحة والمودة. (العين 1/ 377، لسان العرب – 10/ 193)

والصَّدِيْقُ: الخَليلُ، ومَصدَرُه الصَّدَاقَةُ، وسُمِّيَ بذلك لأنَّه يَصْدُقُه النَّصِيحةَ والوُدَّ. (المحيط في اللغة 1/ 441).

وفيما يلي أخطاء الميرزا، حيث استخدمها بمعنى الصِّدْق والحقّ.

1: فأراد الله أن يأتي بصبح الصداقة، ويعين طلاب الحقيقة (التبليغ). الصحيح: الصدق والحقّ.

2: لم تخرجون مِن خُلَع الصداقة وتنسون يوم الحشر؟ (التبليغ). الصحيح: الصدق والحقّ.

3: فيكون حريصا على رد كل كلمة الحق والحكمة والصداقة التي أُعطيت لإمام الزمان (حمامة البشرى، ص 5). الصحيح: الصدق والحقّ.

4: فإنه لا يفر من قبول الحق إلا ظالم مُعتد لا يُحب الصداقة (حمامة البشرى). الصحيح: الصدق.

5: فكذلك يريد أبناء هذا الزمان ليقتلوني أو يصلبوني أو يطرحوني في غيابة جُبٍّ، ويدوسوا الصداقة بأرجلهم (حمامة البشرى). الصحيح: الصدق والحقّ.

6: وقد تحركت الأرواح لطلب صداقة الإسلام (نور الحق). الصحيح: صدق، أي الأدلة على صدقه وأنه على الحقّ.

 

كلمة صرافة:

الصِّرْفُ: الخالِصُ من كل شيء. وشَرابٌ صِرْفٌ: أَي بَحْتٌ لم يُمْزَجْ. وقد صَرَفَه صُروفاً. (لسان العرب)

أما “صرافة” في العربية فلها معانٍ أخرى، وليس منها المعنى السابق.

وكلمة “صِرف” شهيرة في الأردية، وتعني: خالص، وحيد، فقط. (معجم الألفاظ، ص 326، فيروز اللغات، ص 862) .. أي أنها تحمل نفس معناها في العربية.

ولكنّ الإشكال أنّ الميرزا قد اشتقّ منها المصدر “صرافة”!! فصارت “صرافة” تعني عنده: النقاء وعدم وجود أي شائبة. وهو معنى غير موجود فيها في اللغة العربية، واشتقاق ليس في محلّه. فالمصدر العربي منها: صُروف، أما صرافة فشيء آخر بعيد.

وفيما يلي أقواله الخاطئة:

1: كل منصف يفهم قولنا إلا الذي لم يبق إنصافه على صرافته، واختلطت به ظلمة التعصب. (حمامة البشرى)

وقد قصد أن يقول: كل منصف يفهم قولنا إلا مَن لم يبقَ إنصافه خالصا، بل اختلط بالتعصّب. والتعبير كله ضعيف ومُمِلّ حتى لو كانت الكلمة صحيحة.

2: فأولئك الذين يُملأ صدورهم من علم النبي … ويعطى لهم نصيب مِن صرافة العصمة والحكمة. (التبليغ)

يقصد: العصمة الخالصة النقية.

3: وإنه تبوّأ منْزلي، وتجلّى عليّ … وأبقى مَرعاي على صرافته. وزكّاني. (إعجاز المسيح)

يقصد: أبقى مرعاي خالصا نقيا.” ( إ،هـ النقل عن المعترض)

 

الردّ:

إن من أهم ما يجهله هذا المعترض، أن اللغة العربية وألفاظها ليست مقصورة على الألفاظ المعجمية، وما حوته المعاجم العربية. فهو يجهل أن اللغة العربية هي لغة اشتقاق وفيها الكثير من القياس الذي بناء عليه من الممكن اشتقاق ألفاظ لم تحوها المعاجم العربية ولم يتلفظ بها العرب عبر التاريخ كله.

ومن هذه الاشتقاقات هي اشتقاق المصدر! فالكلمات (صَداقة وصَرافة) هي مصادر مشتقة قياسا على وزن (فَعالة ) من الفعل الثلاثي اللازم مضموم العين (فَعُل). وهو ما كنا قد فصّلنا الحديث عنه بالنسبة للكلمات (هَلاكة وخَجالة)، التي أفردنا لها مقالات خاصة.

فهذا الاشتقاق أقرّ بصحته مجمع اللغة العربية المصري، ولا بأس في أن نعيد ما قلناه هناك لنطبّقه على الكلمات صَداقة وصَرافة أيضا.

فقد جوّز مجمع اللغة العربية المصري، صوغ المصادر على وزن (فَعالة) قياسا على الكثير المسموع من اللغة على هذا الوزن في مختلِف أبواب الفعل، وذلك بتجويز المجمع تحويل كل فعل ثلاثي إلى باب (فَعُل) بضم العين، إذا احتمل دلالة الثبوت والاستمرار، أو المدح والذم، أو التعجب، وقد جاء هذا في قرار المجمع من الدورة الأربعين ونصّه كما يلي:

” جواز صوغ “فِعالة” و”فَعالة” و” فُعولة”

يُجاز ما يُستحدث من الكلمات المصدرية على وزن الفِعالة – بكسر الفاء- إذا احتملت دلالتُها معنى الحرفة، أو شبهها من المصاحبة والملازمة، وعلى هذا لا مانع من قبول الكلمات الشائعة التالية:

القِوامة، الهِواية، اللِّياقة، العِمالة، العِمادة، النِّيافة، البِداية.

وكذلك يُجاز ما يُستحدث من الكلمات المصدرية على وزن الفَعالة- بالفتح- والفُعولة- بالضم- من كل فعل ثلاثي بتحويله إلى باب فعُل بضم العين، إذا احتمل دلالة الثبوت والاستمرار، أو المدح والذم، أو التعجب.

وعلى هذا لا مانع من قبول الكلمات الشائعة التالية على وزن الفَعالة- بالفتح:

الزَّمالة، القَداسة، الفَداحة، النَّقاهة، العَراقة، السَّماكة.

والكلمات الشائعة التالية على وزن الفُعولة – بالضم-.

السُّيولة، اللُّيونة، المـُيوعة، الخُصوبة، الخُطوبة، الخُطورة، العُمولة ” [ في أصول اللغة، ج 2/ص9- 8]

وفي الهامش من هذه الصفحات جاء ما يلي:

“.. عرض الأستاذ محمد شوقي أمين خبير اللجنة عليها، أن ثمة كلمات مصدرية شاعت في الاستعمال على وزن الفعالة بفتح الفاء وكسرها وعلى وزن الفُعولة، وهذه الكلمات ليست من مسموع اللغة، ولذلك ينكرها النقاد ، بناء على أن صوغ هذه الأبنية غير قياسي في بعض أبواب الفعل أو معانيه…. وعرض خبير اللجنة أن مسموع اللغة حافل بالكلمات المصدرية على هذه الأوزان الثلاثة (الفِعالة، والفَعالة، والفُعولة)، من مختلف أبواب الفعل، وكثرة الوارد على هذه الأوزان يبيح قبول ما استُحدث من الكلمات.”

ومما أورده المجمع في الهامش ما يلي:

“أن النحاة أجازوا تحويل كل فعل ثلاثي متصرف مثبت قابل للتفاضل إلى باب فعُل – بضم العين- ليلتحق بالغرائز أو للدلالة على أن مفاده صار كالغريزة، وعلى هذا يكون قاصرا. وقد وضح الأستاذ عباس حسن ذلك في مذكرة له في الدورة الرابعة والثلاثين، يضاف إلى ذلك أن المجمع في قراراته الخاصة بتكملة فروع مادة لغوية لم تُذكر بقيتُها، قرر أن الفعل إذا كان على وزن فعُل -مضموم العين- فمصدره على فَعالة بالفتح، أو فُعولة بالضم.”

وبناء عليه، نرى أن المجمع يبيح صوغ المصدر على وزن (فَعالة)  في أي فعل ثلاثي، إذا احتمل دلالة الثبوت والاستمرار أو المدح والذم أو التعجب، وذلك بناء على أمرين :

1: كثرة السماع لهذه الصيغة (فَعالة) في مختلِف أبواب الفعل، مما يجعلها أمرا قياسيا من الممكن القياس عليه.

2: لتجويزه إمكانية تحويل أي فعل ثلاثي إلى وزن (فعُل)، إذا احتمل دلالة الثبوت والاستمرار أو المدح والذم أو التعجب.

وقد قيّد المجمع هذا التجويز باحتمالية دلالة الفعل على الثبوت والاستمرار أو المدح والذم أو التعجب، أو باحتمالية نقله إلى هذه المعاني والدلالات، كما أقر النحاة بنقله إلى معاني الغرائز للُّحوق بها أيضا. وهذا ما نراه منطبقا على المصادر (صَداقة) و(صَرافة) التي جاءت في فقرات المسيح الموعود عليه السلام؛ فبالرجوع إلى سياقات هذه الفقرات التي وردت فيها هذه الكلمات، يظهر بوضوح هذه الدلالات من الثبوت والاستمرار أو الغريزة. فاستعمال المسيح الموعود عليه السلام لهذه المصادر بالذات بهذا الوزن، جاء ليومئ ويشير إلى دلالة الثبوت والاستمرار والملازَمة في هذه الصفات لتصبح كالغريزة الثابتة؛ أو بكلمات أخرى لينقلها إلى هذه المعاني والدلالات، مما يجعلها من أرقى اللفتات البلاغية في كلام حضرته عليه السلام.

وعليه فيكون المسيح الموعود عليه السلام قد اشتق هذه المصادر بتحويله الأفعال (صَرَف و صَدَق) إلى من الأفعال الثلاثية اللازمة مضمومة العين (صرُف وصدُق)، ليكون الفعل (صَرُف) بمعنىى : صرُف الشيء، أي: كان خالصا نقيا بحتا، حاملا معنى الثبوت على هذه الصفة.

وليكون معنى الفعل (صَدُق) : صَدُق الرجل، أي كان صادقا ، حاملا معنى ثبوت هذه الصفة فيه؛ كأنها كالغريزة المتأصلة فيه.

وبهذا التحويل إلى (صدُق) و (صرُف)  يكون وفق القياس وزن مصادرها (الصَرافة والصَداقة)  على وزن فَعالة. [ينظر : النحو الوافي (3/ 198-193) حيث الحديث عن أوزان المصادر المشتقة من الأفعال المختلفة].

وذكر النحو الوافي قرار الصرفيين في موضع آخر حيث جاء:

إقرار الصرفيين:

ويؤيد كل هذا ما أقرّ به النحو الوافي في سياق الحديث عن الأفعال التي تجري مجرى نعم وبئس، في إمكانية تحويل أي فعل إلى وزن (فعُل) للدلالة على المدح والذم الخاصّين مع إضفاء معنى التعجب عليه، حيث قال:

“ج- بمناسبة ما تقدم يقول الصرفيون إن أبواب الفعل الثلاثي المستعملة أصالة -بحسب حركة العين في الماضي والمضارع- ستة، الخامس منها هو باب: “فعُل يفعُل” بضم العين فيهما معًا؛ كحسُن يحسُن، وشرُف يشرُف أو كرُم يكرُم … و … ويردفون كلامهم بتقرير أمرين:

أولهما: أن هذا الباب “الخامس” مقصور في أصله على الأوصاف الفطرية والسجايا الخلقية الدائمة أو التي تلازم صاحبها زمنًا طويلًا.

ثانيهما: صحة تحويل كل فعل ثلاثي من الأبواب الأخرى إلى هذا الباب ليدل الفعل بعد هذا التحويل على أن معناه صار كالغريزة والسجية في صاحبه. [النحو الوافي (3/ 389)]

وفي الحقيقة يكفينا هذا الإقرار من قبل النحاة دون اللجوء إلى أي إقرار آخر، لنثبت صحة كلام المسيح الموعود عليه السلام. فما دام يجوز تحويل أي فعل ثلاثي إلى باب (فَعُل) جاز القول (صَدُق) و(صَرُف) واشتقاق مصدرهما قياسا على وزن (فَعالة) كـ (صَداقة) و (صَرافة)، ولتكون هذه  الكلمات متضمنة للفتة بلاغية تومئ إلى أن هذه الأوصاف أصبحت كالغريزة وكالسجايا والأوصاف الثابتة الدائمة في صاحبها أو الملازمة لصاحبها زمنا طويلا. ووفق هذا يكون معنى هذه الكلمات في فقرات المسيح الموعود عليه السلام متضمنا معنى :الصدق الثابت المتأصل، في المواضع التي ذكرت فيها الصَداقة؛ وكذا معنى الخلوص والنقاء الثابت في المواضع التي ذكرت فيه الصَرافة.

وبذلك فإن استعمال المسيح الموعود عليه السلام لهذه الكلمات :صَداقة وصَرافة، على معنى الصدق والنقاء، هي وفق المعاني العربية الأصيلة المبنية على الاشتقاق، وليس بناء على معانيها الأردية، فهي إن دخلت الأردية بهذه المعاني فلأن أصلها العربي يعطي نفس المعنى، ولا خلط وارد في هذه الألفاظ ولا تأثر باللغة الأردية.

ومن هنا تثبت عظمة المسيح الموعود عليه السلام، في امتلاكه ناصية اللغة وتطييعها وفق ما يشاء من التفنن في ألفاظها.

بقي أن ننوّه إلى أن وجود مصادر أخرى مسموعة للأفعال (صدق) و (صرف)، لا يمنع اشتقاق مصادر أخرى قياسا على الأوزان القياسية، وهذا ما صرّح به النحو الوافي في مواضع عدة، مشيرا إلى أن السماع لا يمنع القياس على أوزان أخرى للمصدر واشتقاقه، وهو رأي كبار النحويين لا سيما فحول اللغة من المدرسة الكوفية. [يُنظر البيان الخاص بهذا في هامش الصفحات التالية من النحو الوافي (3/187-193)]