المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..222

النظرية النسبيّة في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية

مفتاح فهمها ومعيار الحكم عليها ..

هذا المقال هو عبارة عن مقدمة للنشرة الثانية من كتاب “الإيجاز في مظاهر الإعجاز” ، بيّنا فيه مفتاح فهم الظواهر اللغوية المختلفة في لغة حضرته عليه السلام ومعيار الحكم عليها، لا سيّما تلك الظواهر الغريبة التي ليست هي برائجة في اللغة العربية المعاصرة. ونظرا لأهمية هذه المقدمة أعيد نشرها كمقال منفصل مع بعض الإضافات البسيطة.

مقدمة النشرة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى عبده المسيح الموعود. أما بعد..

هذه هي النشرة الثانية لكتاب “الإيجاز في مظاهر الإعجاز”، والذي نضعه بين أيدي قرائنا الكرام لكي يتسنى لهم الاطّلاع على حقيقة الإعجاز في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية، والاطّلاع على صدقه وصدق دعواه وصدق معجزته في تعلّمه اللغة العربية من الله تعالى في ليلة واحدة؛ وكذا للاطلاع على صدق دعواه عليه السلام بأن الله خصّ حضرته بأربع آيات عظيمة دليلا على صدقه ومن بينها معجزة لغته العربية، التي جاءت كظل للقرآن الكريم وإعجازه اللغوي. حيث قال عليه السلام: لقد أُعطيتُ آيةَ الفصاحة والبلاغة بالعربية ظلّا لمعجزة القرآن الكريم، ولا يقدر أحد على مبارزتي في ذلك. (ضرورة الإمام )

لقد تسنى لنا بفضل الله تعالى وعونه بعد أن وضعنا النشرة الأولى من هذا الكتاب، أن نستمر في سبر أغوار لغة المسيح الموعود عليه السلام والاطلاع على الكثير والمزيد من الظواهر اللغوية الإعجازية الكامنة فيها. وقد وفقّنا الله تعالى- والفضل له وحده لا غير-  أن نردّ بهذه النشرة على أكثر من ألف اعتراض نحويّ وصرفيّ وتركيبيّ ساقه المعارضون للطعن في لغة حضرته عليه السلام، وأحصينا من بين ما أحصيناه ما يقارب المائة والتسعين ظاهرة ولغة عربية غريبة وليست من الظواهر الدارجة في لغتنا المعاصرة.

وقد أولينا اهتماما خاصا للحديث عن الفصاحة الكامنة في كل هذه الظواهر واللغات؛ فأفردنا في نهاية الكتاب فصلا خاصا عن الفصاحة والبلاغة فيها؛ وذلك من أجل الردّ على كل المزاعم الواهية في أنّ هذه اللغات والظواهر اللغوية ليست من الفصاحة في شيئ. وقد أثبتنا الفصاحة فيها بناء على آراء العديد من النحويين والمحققين الذين برعوا في بحث اللغات العربية القديمة، وكذا تعمّقوا في علم أصول النحو وما يعتريه من ضبابية واسعة، واختلاف كبير بين النحاة والمدارس النحوية في حكمهم على لغات العرب المختلفة وتصنيفهم لها بين الفصيح والشاذّ.

فوضعنا  إيجازا لكل ما جمعناه من دراسة وآراء ونصوص وشواهد في هذه النشرة كما فعلنا في النشرة الأولى، لتصل هذه النشرة إلى تسعة وخمسين بابا، أي بزيادة عشرين بابا عن النشرة الأولى؛ كلها تصب في دحض اعتراضات المعترضين وإثبات الإعجاز اللغوي في لغة حضرته عليه السلام، الأمر الذي ساعد على كشف الكثير من الحقائق والأسرار الكامنة في  لغته عليه السلام العربية.

ولنا بعد كل ما قرأناه ودرسناه وبحثناه وقتلناه بحثا وتنقيبا، وبعد كل ما رأيناه من ظواهر لغوية تكشّفت لنا خلال البحث في لغة المسيح الموعود عليه السلام؛ لنا أن نقرّ بالأمور التالية:

النظرية والإعجاز

إن من أهم أوجه الإعجاز في لغة المسيح الموعود عليه السلام، هو محاكاته للعديد والكثير من اللغات والأساليب اللغوية القديمة، على اختلاف قبائلها العربية المتحدثة بها واختلاف المذاهب والمدارس النحوية التي تقرّ وتأخذ بها. ذلك لأن هذه اللغات هي -كلها-  من أصل وصلب اللغة العربية وفصاحتها، وهكذا جاءت على لسان العرب الفصحاء، وخلقها الله تعالى وأجراها على ألسنتهم وسُمعت منهم. كل هذا بغض النظر عن تفسيرات وتأويلات النحاة لها، والتي جاءت بعد أن خُلقت هذه اللغات بمئات السنين، وكذلك بغض الطرف عن مدى قياسيتها واعتبارات النحاة لها ونظرتهم إليها، واختلاف المذاهب النحوية في شأنها، من حيث تصنيفها بين اللغات من الكثير والقليل والشاذ والمقيس وغير المقيس الذي يجوز لنا محاكاته أو لا يجوز؛ وذلك لأن هذه التصنيفات هي تصنيفات واعتبارات إنسانية لا تخلو من الخطأ، وكذا لأن هذه التصنيفات يعتريها الكثير – بل والأكثر من الكثير – من الاختلاف والتضارب والضبابية وحتى الخطأ وتفتقر إلى معايير واضحة قطعية،  كما يقرّ بذلك كبار المحققين والنحويين أمثال العلامة عباس حسن عضو مجمع اللغة العربية المصري ومؤلف كتاب النحو الوافي، الذي اعتمدنا عليه كثيرا، بل وكان عمدة البحوث التي قمنا بها وقدمناها في هذا الكتاب.

وكما هو معلوم فقد انقسمت المدارس النحوية إلى خمسة مذاهب أو مدارس رئيسية: البصرية، الكوفية، البغدادية، الأندلسية والمصرية، وقد كانت كل مدرسة لها نظرتها وسماتها الخاصة للحكم على المسائل النحوية أو الصرفية، أو قل للحكم على لغات العرب المختلفة. فبينما عُرفت المدرسة البصرية بتشددها في القياس على الكثرة، عرفت المدرسة الكوفية بأخذها بكل ما سمع عن العرب حتى الشاذ منه. غير أن النحاة في المدرسة الواحدة قد اختلفوا في العديد من الأمور اللغوية والحكم عليها، لدرجة أنه أصبح من الممكن اعتبار العالِم الواحد منهم وكأنه مذهب خاص بنفسه وقائم بذاته؛ فلنا أن نرى مذهبا خاصا لأبي زيد الأنصاري يقابله مذهبا خاصا للأصمعي، ونرى مذهبا لسيبويه وآخر للفراء وآخر للكسائي وآخر لابن كيسان ومذهبا خاصا بابن مالك وهكذا.

فإذا كانت الحال هذه في اختلافات النحاة وحكمهم على اللغات العربية المختلفة، وإذا كان الله تعالى قد قرّر أن يكلّم أو يعلّم مسيح آخر الزمان أربعين ألفا من اللغات العربية، وأن يحاكي بوحيه له لغات العرب الفصيحة القديمة، فهل يا تُرى كان الله مقيدا بآراء النحاة هذه وتصنيفاتهم!؟ أو هل كان ملزما بالتقيد بما اختلفوا فيه وصنّفه البعض منهم على أنه الأفصح الذي لا بدّ من الأخذ فقط به ولا بدّ من ترك غيره!؟ أو هل كان الله تعالى ملزما باستشارة النحاة واستئذانهم فيما يكلّم به رسله ومن بينهم مسيح آخر الزمان!؟ أكان الله تعالى ملزما بكل هذا وهو أعلم العالمين وأعلم من النحاة كلهم بلغات العرب التي خلقها بنفسه وأجراها على ألسنة الفصحاء منهم، وهو الأعلم بمدى فصاحتها  وصحتها!؟ كل ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار اعتراف  النحاة – على بكرة أبيهم- بأن ما وصلَنا من اللغة العربية هو أقلُّها وأما أكثرها فقد ضاع، وأن استقراء اللغة قد جاءنا ناقصا، أُهدرت فيه الكثير من اللغات العربية والظواهر الأساليب اللغوية!؟

ولنا أن نضرب مثالا على كل هذا: فمثلا، نرى النحاة في الموضوع الواحد ينقسمون إلى ثلاث فرق، الأولى تمنع القياس عليه مطلقا، والثانية تجيز القياس عليه مطلقا، والثالثة تجيزه بشروط، فبأي هذه الآراء نأخذ بالله عليكم، وإذا كان الله تعالى – فرضا- ملزما في وحيه – والعياذ بالله – بآراء النحاة وتصنيفاتهم فبأي هذه الآراء يأخذ!؟

والجواب على كل هذه التساؤلات واضح لكل ذي بصيرة!

والحق أنه عندما يصل الأمر إلى عتبة الحضرة الإلهية والوحي الربانيّ الذي يكلم به رسلَه، فإن هذه القيود والشروط المتضاربة تسقط دفعة واحدة، ليبقى الوحي الإلهي منزها عن هذه الاعتبارات الإنسانية، وليأتيَ الوحي خالصا وفق علم الله الأزلي الذي لا تشوبه شائبة، ولتكون اللغة العربية فيه لغة عربية خالصة أصيلة، تحاكي لغات العرب والقبائل العربية كما جاءت على سليقتها، بعيدا عن اعتبارات النحاة لها، ووفق ما يشاؤه ويبغيه الله تعالى ويصطفيه لنفسه من هذه اللغات. ومن كان يبحث عن دليل لما نقوله، نذكّره بأن القراءات القرآنية جاءت بهذه اللغات المختلفة قبل أن يولد النحاة بأنفسهم. وكفى بهذا شاهدا على صحة ما نقول!

وعليه، فقد جاءت لغة المسيح الموعود عليه السلام – من بين  ما جاءت به –  جامعة بين طياتها للكثير من اللغات والأساليب والتراكيب والألفاظ العربية الأصيلة والقديمة، وجامعة للعديد من المذاهب والآراء اللغوية والنحوية، التي ليست هي مما نعهده في اللغة العربية المعاصرة، بل بقيت مقصورة على النصوص القديمة كالقرآن الكريم وقراءاته، والحديث الشريف برواياته المختلفة، وكتب المتقدمين أمثال الإمام الشافعي وغيره؛ وبقيت مطمورة في طيّات كتب النحو والصرف مع اختلافات النحاة في شأنها؛ ليكون هذا الأمر أحد أهم أوجه الإعجاز في لغته عليه السلام، ولتشكل دليلا على إلمام حضرته عليه السلام بكل هذه اللغات على اختلاف قبائلها ومذاهبها ومدارسها، ولتشكل دليلا على امتلاك حضرته عليه السلام لناصية اللغة، وليكون كل هذا آية واضحة على صدق دعواه عليه السلام، في أن الله تعالى هو الذي علّمه هذه اللغة العربية بفضل الوحي الإلهيّ المتنزل عليه، وذلك لأن الإلمام بكل هذه اللغات ودقائقها أمر مستحيل، لا سيما على إنسان أعجمي كمثل حضرته عليه السلام، ولتتحقق بذلك في شأنه مقولة أو نبوءة الإمام الشافعي الذي قال بأن اللسان العربي لا يحيط به أو لا يعلمه إلا نبي.

ومن بين الظواهر واللغات العربية التي عثرنا عليها ووجدناها في لغة المسيح الموعود عليه السلام، كان ما يلي:

1: لغات القبائل العربية القديمة: كإلزام المثنى الألف في جميع حالات إعرابه، وكذلك ما سُمي تعسفا بلغة أكلوني البراغيث، والتي هي لغة  فصيحة كما يقرّ بذلك عباس حسن في نحوه الوافي، وهي رائجة في قبائلها والمصادر القديمة، خاصة في الحديث الشريف.

2:  اللغات والظواهر والأساليب العالية التي بقيت محصورة في المصادر العربية القديمة كالقرآن الكريم، ومن هذه الأساليب التضمين وأساليب الحمل على المعنى، من تذكير المؤنت وتأنيث المذكر حملا على المعنى.

3: جزء من هذه اللغات قد يعود إلى عصر متقادم من العصر الجاهلي، لم تكن فيه اللغة العربية قد تطورت بعد وأخذت لها منحى موحدا في بعض نواحيها، لنرى فيها ظاهرة ولغة لا تُلحق علامة التأنيث بالفعل وإن كان الفاعل مؤنثا حقيقيا فتقول: جاء هند أو هند جاء.

4: بعض من هذه اللغات لغات عربية قديمة، لم تنقلها إلينا الكتب النحوية، وإنما رأينا لها أمثلة في بعض الكتب كرسالة الإمام الشافعي، وذلك كاللغة التي تعتبر “شبه الجملة” مبتدأ واسما للنواسخ، على النقيض من إحدى أكبر مسلمات صناعة النحو المعروفة.

5: لغات وألفاظ نادرة جدا حتى في الكتب والمصادر القديمة، لأنها متعلقة في علم اشتقاق الألفاظ والمفردات التي لم تشملها المعاجم العربية، والتي لا يجرؤ على اشتقاقها إلا من علم دقائق هذه القواعد وامتلك ناصية اللغة وبحق؛ وذلك في اشتقاق المصادر المختلفة وقياسيتها. فبينا نرى اختلاف النحاة في قياسية اشتقاق المصادر على الأوزان التي وضعوها هم بأنفسهم، نرى المسيح الموعود يأخذ بهذا القياس وصحته ليشتق المصدر من الفعل الثلاثي على وزن (فَعالة) ليأتي لنا بمفردات لم تحوها المعاجم العربية مثل كلمة (هَلاكة وخَجالة)، وليأتي مجمع اللغة العربية المصري بعد حضرته عليه السلام بأكثر من نصف قرن، ليجوّز ويقرّ بصحة هذه الاشتقاقات.

6: لغات ومسائل نحوية أو صرفية انفرد فيها مذهب معين من مذاهب المدارس النحوية أو أحد علمائها على اعتبار هذا العالم مذهبا خاصا بذاته، أو أخذت بها بعض المذاهب دون غيرها، كالأخذ والاحتجاج بالقراءت القرآنية وشواذها وهو ما كانت سمة المدرسة الكوفية والأندلسية على وجه الخصوص، أو الأخذ بلغات الحديث الشريف والاحتجاج به على مذهب ابن مالك خاصة، أو صرف الممنوع من الصرف على مذهب الكسائي والأخفش وغيرهما، أو نصب كلمة (أجمعين) على مذهب ابن كيسان وابن مالك، أو إضافة مضافين إلى نفس (المضاف إليه) على مذهب الفراء، وتذكير الفعل مع الفاعل المؤنث الحقيقي على مذهب ابن كيسان، ودخول (كلّما) على الفعل المضارع على مذهب سيبويه؛ وغيره الكثير مما تميّزت فيه بعض المذاهب عن غيرها.

هذا بالإضافة إلى العديد من الظواهر اللغوية التي أشرنا إليها في مقدمة النشرة الأولى، واحتواها هذا الكتاب في أبوابه وفصوله المختلفة.

المسيح الموعود عليه السلام الحكم العدل في اللغة والنحو:

ولعل ما يعبر عن عظيم الإعجاز في لغته عليه السلام وفي كل ما بيّناه في هذا الكتاب، هو أن المسيح الموعود عليه السلام سابق علماء عصره وأدبائه في تجويز ومحاكاة هذه اللغات والظواهر اللغوية، فهو سابقٌ لمجامع اللغة العربية في تجويز مثل هذه الأمور اللغوية؛ كل ذلك بفضل تعليم الله تعالى له لهذه اللغات. فلولا هذا التعليم، لتطلب الأمر من حضرته أن يقضي حياته كلها وكل وقته في البحث في هذه اللغات من أجل التحقق من صحتها وتجويزها.
فقد بدأ المسيح الموعود عليه السلام كتابة كتبه الإعجازية باللغة العربية في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، أي بعد سنة 1890 وقد استمرت هذه الكتابة حتى وفاته عليه السلام  سنة 1908 ، وخلال هذين العقدين من الزمن نرى أن مظاهر الإعجاز اللغوي هذه قد ضُمنت في كتبه عليه السلام .

أما مجامع اللغة العربية فقد تأسست في بداية القرن الماضي فقط، وأوّل هذه المجامع كان مجمع اللغة في دمشق، الذي تأسس سنة 1919 أي بعد أكثر من عشر سنوات على وفاة المسيح الموعود عليه السلام.  وكان من بين أهم مهام هذه المجامع اللغوية، هي البتّ في العبارات والألفاظ والتراكيب اللغوية من أجل الحكم عليها بالصحة أو الخطأ. ومن أجل أن تقوم هذه المجامع بتصحيح أو تجويز لفظ أو أسلوب معين، فإن الأمر يتطلب منها عملا شاقا يبدأ في توظيف كبار العلماء من أجل البحث في أي موضوع والوصول إلى نتائج فيه، ولهذا الهدف  فإنها تقوم بتعيين لجنة خاصة من هؤلاء العلماء أو تعهد إلى عالم لغوي خاص ليُعنى ببحث المسألة بشكل جذري، والنظر فيما إذا كان الأسلوب أو اللفظ وارد في النصوص القديمة الفصيحة، وللنظر في رأي اللغويين والنحاة فيه، والنظر في مدى صحة أراء النحاة هذه، حتى يخلص أو تخلص اللجنة إلى قرار بهذا الشأن؛ وهذه اللجنة تقوم بدورها بتقديم توصياتها لمجلس ومؤتمر المجمع، فإذا وافق عليها المؤتمر يصبح الأمر جائزا بقرار خاص من المجمع. فلنا أن نتخيل المشقة والعمل الدؤوب والوقت الذي يستغرقه هذا العمل من أجل البتّ والفصل في مثل هذه المواضيع؛ في الوقت الذي فيه لم يكن الأمر يكلّف المسيح الموعود عليه السلام سوى لحظات من تعليم الوحي الربانيّ له من أجل تجويز ومحاكاة هذه اللغات والأساليب والألفاظ.

ولو اعتمدتْ هذه المجامع على لغة المسيح الموعود عليه السلام، لوفّرت على نفسها الكثير من العناء والتعب والبحث. ومن بين الأمور التي سبق فيها وفي تجويزها المسيحُ الموعود عليه السلام مجامعَ اللغة، كانت المسائل اللغوية التالية:

_ استعمال أسلوب التضمين والأخذ به على أنه قياسي.

_ تجويز العطف بـ (أو) بدلا من أم بعد كلمة سواء كالقول: سواء عليهم أأنذتهم أو لم تنذرهم.

_ تجويز استعمال كلمة كافة مضافة لما بعدها كالقول: (كافة الناس) .

_ تجويز استعمال (قطّ) للدلالة على زمن الحال والاستقبال وليس فقط الماضي.

_ تجويز جمع صيغة فعيل التي بمعنى مفعول جمعا سالما كالقول (غريقون).

_ تجويز صِيَغ جمع الجموع والقياس عليها كالقول (تجّارون) .

_ تجويز دخول (كلّما) على الفعل المضارع كقول سيبويه: كلما تأتيني آتيك

_ تجويز إكمال الاشتقاق في المواد التي لم تشملها المعاجم.

_ تجويز قياسية اشتقاق المصادر ومن بينها اشتقاق المصدر على وزن (فَعالة) من أي فعل ثلاثي بتحويله إلى وزن (فَعُل).

_ تجويز قياسية الانتقال من صيغة (فَعَل) المخفّفة إلى صيغة (فعّل) المضعّفة بهدف التعدية والتكثير والمبالغة أو حتى للدلالة على نفس المعنى.

وغيرها من الأمور التي عثرنا عليها، وأمور كثيرة أخرى قد تكون غابت عن أنظارنا ولم نعثر عليها بعد.

وكل هذا يدل على أن لغة المسيح الموعود عليه السلام لغة إعجازية بتعليم الله عز وجل له عليه السلام، فالأمور التي تحتاج مجامع اللغة فيها أن تصرف الكثير من البحث والوقت والطاقة وتكرس من أجلها لجانا من العلماء للقيام بهذا البحث، قد علّمها الله تعالى للمسيح الموعود عليه السلام بسهولة ودون أي بحث، وهذا من عظيم الإعجاز في لغة حضرته عليه السلام، وهذا مما يجعل لغة حضرته مذهبا لغويا خاصا ويجعله مجمعا لغويا قائما بحد ذاته، بل ويجعله وبحق أعلى مرتبة من علماء عصره وأدبائه ويرقى به ليكون حكما عليهم! وأي حكم غير الحكم العدل إذا كان الله تعالى هو الذي يعلمه!؟

نداء إلى مجامع اللغة العربية:

وهنا لا يسعنا إلا أن ندعو علماء اللغة ومجامعها إلى أن تطلع على لغته عليه السلام، وتقوم بدراستها لكي تستفيد من كل ما فيها من مظاهر ودرر لغوية قيّمة ونادرة. ولنا بناء على كل هذا، مما ثبت لدينا من صحة وفصاحة وبلاغة لغة المسيح الموعود عليه السلام، أن نُجمل القول لنقول: بأن ما نجده في لغته عليه السلام شاذا أو غريبا عن القواعد المعروفة في العربية، أو كان على لغة من لغات العرب، لا يمكن حمله على الخطأ، بل لا بدّ من جعله شاهدا لما استُعمل فيه، وحجة في صحته، ومن أجل استنباط العديد من المسائل اللغوية على اعتباره وجها من وجوه اللغة العربية.

مفتاح الحكم على لغة المسيح الموعود عليه السلام:

لن يصعب على المرء المتفتح ذي الأفق البعيد والصدر الرحب، فهم كل ما أوردناه أعلاه، وما فصّلناه في هذا الكتاب، إذا وضع نصب عينيه أمرين هامين وهما:

أولا: معيار الحكم على اللغات العربية:

هذا المعيار الذي وضعه عبقري اللغة، وواحد من أئمة عصره في النحو والصرف، العلّامة ابن جنيّ المتوفي سنة 392 هجرية، والذي أفرد للغات العرب بابا خاصا في كتابه الخصائص، وأسماه: باب اختلاف اللغات وكلّها حجة. فهو يقرّ في عنوان بابه، أن كل لغات العرب على اختلافها حجّة في اللغة ولا يمكن تخطئتها، حيث قال في سياق المقارنة بين اللغة التي كثر استعمالها واللغة المكثورة:

” إلّا أن إنسانًا لو استعملها (اللغات المكثورة أو الواردة بقلة) لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئًا لأجود اللغتين. فأمَّا إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير منعيّ عليه. وكذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا، ويقول على مذهب من قال كذا كذا.”

وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغةٍ من “لغات العرب” مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه. “ [الخصائص (2/ 14)]

ثم قال وأعاد هذا المعيار في كتابه المحتسب: ” ليس ينبغي أن يُطْلَق على شيء له وجه في العربية قائم -وإن كان غيره أقوى منه- أنه غلط “ [المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/ 236)]

ويؤيده أبو حيان حيث يقول: وإذا كان لغة لقبيلة قِيسَ عليه. (التذييل والتكميل في شرح التسهيل، 28/ 2)

فمفهوم كلام ابن جني هذا، أنه لا يمكن أن نخطّئ من يتكلم على لغة من لغات العرب، بالذات إذا لجأ إليها في شعر أو سجع، أو إذا صرّح بجانبها أنه يتحدث على لغة كذا وكذا أو مذهب كذا وكذا. وهذا تماما ما ينطبق على المسيح الموعود عليه السلام، حيث صرّح حضرته بشكل واضح أنه يتحدث بلغات العرب المختلفة، بقوله عليه السلام إن الله تعالى قدّ علمه أربعين ألف لغة من اللغات العربية. وهذا التصريح جامع للّغات العربية المختلفة على اختلاف القبائل الناطقة بها أو المذاهب النحوية الآخذة بها والمجوزة لها.

كما أن هذا المعيار الذي وضعه ابن جنيّ، يحتم أن الحكم بالصحّ والخطأ عل اللغات العربية هو حكم نسبيّ؛ فإذا ما نُسبت اللغةُ إلى لغات العرب المختلفة ومذاهبهم اللغوية المختلفة، بتصريح وإقرار من الناطق بهذه اللغة، فلا يمكن أن يعزى له الخطأ بمحاكاته لهذه اللغات؛ لأن معيار الحكم لا بدّ أن يكون نسبة إلى هذه اللغات والمذاهب المختلفة، وعلى اعتبار أنّ ما جاء في هذه اللغة جاء على وجوه مختلفة من أوجه اللغة العربية الواسعة. وليس نسبة لمنهاج كذا أو كذا من مناهج اللغة الضيقة.

ومن هنا، فتصبح هذه اللغات التي تحدث عنها ابن جني هي المحك والمعيار الذي يُثبت أن كل اللغات التي تحدث بها المسيح الموعود عليه السلام ،كلها صحيحة ولا يمكن أن يُعزى إليها الخطأ. وذلك لتصريح المسيح الموعود عليه السلام أنه يتحدث على لغات العرب المختلفة.

ومن هنا من الضروري أن لا يغيب عن منظارنا ما صرح به المسيح الموعود عليه السلام بنفسه وهو الأمر الثاني الذي لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار، وهو:

ثانيا : أقوال المسيح الموعود عليه السلام التالية:

1: “وإن كمالي في اللسان العربي، مع قلة جهدي وقصور طلبي، آيةٌ واضحة من ربي، ليُظهِر على الناس علمي وأدبي، فهل مِن مُعارِض في جموع المخالفين؟ وإني مع ذلك عُلِّمتُ أربعين ألفًا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطةً كاملة في العلوم الأدبية، مع اعتلالي في أكثر الأوقات وقلّة الفترات، وهذا فضل ربي أنه جعلني أبرَعَ مِن بني الفُرات،  وجعلني أعذبَ بيانًا من الماء الفُرات. وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. فكمْ مِن مُلح أُعطيتُها، وكم من عذراءَ عُلِّمتُها! فمن كان مِن لُسْنِ العلماء، وحوَى حُسْنَ البيان كالأدباء، فإني أستعرضه لو كان من المعارضين المنكرين.” (مكتوب احمد )

2: وإني أُيّدتُ من الله القدير، وأُعطيت عجائب من فضله الكثير. ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين. (مكتوب احمد)

3:  فلا تستطلعوني طِلْعَ أديبٍ، وما أنا في بلدة الأدب إلا كغريبٍ. (إعجاز المسيح )

4: إنكم حسبتموني أُمّيًّا ومن الجهلاء، والأمر كان كذلك لولا التأييد من حضرة الكبرياء، فالآن أُيّدتُ من الحضرة، وعلّمني ربي من لدنه بالفضل والرحمة، فأصبحت أديبا ومن المتفرّدين، (نجم الهدى )

5: لقد أُعطيتُ آيةَ الفصاحة والبلاغة بالعربية ظلّا لمعجزة القرآن الكريم، ولا يقدر أحد على مبارزتي في ذلك. (ضرورة الإمام )

وهنا أقول، إن أول هذه التصريحات لحضرته عليه السلام، بأنه يتحدث بلغات العرب الأربعين ألف، والذي هو تعبير مجازي يعبّر عن لغات العرب المختلفة التي لا يمكن إحصاؤها، هو جامع للّغات العربية المختلفة على اختلاف القبائل الناطقة بها أو المذاهب النحوية الآخذة بها والمجوزة لها. ولذا فهذا التصريح يحل كل إشكال قد ينشأ في مسألة فهم بعض الظواهر الغريبة في لغة حضرته عليه السلام؛ لأنه يتلاءم مع المعيار الذي وضعه ابن جني في صحة كل هذه اللغات على اختلاف قبائلها الناطقة بها أو المذاهب الآخذة بها، وعدم إمكانية تخطئتها وتخطئة من يصرح بجانبها أنه يتحدث بها وعلى قياسها.

كذلك فإن تصريح حضرته عليه السلام بأن لا يُستطلع طِلع أديب وأنه غريب في بلدة الأدب، بالإضافة إلى تصريحه بأن الله تعالى قد علّمه نكاتا أدبية وعذراوات لغوية، كل هذا دليل على أنه لا بدّ أن نجد في لغته عليه السلام نوعا من الغرابة المتمثلة ببعض الظواهر والمظاهر واللّغات والأساليب الغريبة نسبة إلى اللغة المعاصرة السائدة في هذا العصر. وأن هذه الغرابة تحتّم أن يكون معيار الحكم على لغة حضرته ليس كمعيار الحكم العادي الرائج المتبع عند الأدباء العاديين في اللغة المعاصرة، بل لا بدّ من الرجوع إلى ذلك المعيار الذي أقره ابن جني، وإن لم يسِر عليه ويطبّقه الكثير من اللغويين والنحاة والأدباء. فهنا وبهذا تكمن الغرابة والتفرد عن باقي الأدباء في هذا العصر.

وأما تصريح حضرته عليه السلام بأن الله تعالى جعله أديبا ومن المتفردينن وفضّله على العالمين المعاصرين، وأن لغته العربية هي آية وظلّ لمعجزة القرآن الكريم، وأنه لن يستطيع أحد أن يبارزه فيها؛ فكيف يمكن أن يتحقق كل هذا إذا ما جاء حضرته عليه السلام بنفس اللغة المعاصرة وكتب بنفس الأسلوب والقواعد واللغات والمستوى، الذي كتب فيه علماء وأدباء هذا العصر أمثال طه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم من أفذاذ اللغة!؟ وكيف يمكن أن يكون حضرته من المتفردين وأفضل من أدباء عصره وأن تكون لغته إعجازية إذا لم تأت بما لم يأت به هؤلاء من مظاهر لغوية !؟

لذا أقول وبكل بساطة: إنه كان لا بدّ من أجل إراءة كل هذا التفرد والغرابة والإعجاز والأفضلية على باقي أدباء هذا العصر، كان لا بدّ أن تشمل لغة حضرته عليه السلام نوعا من الغرابة والمظاهر اللغوية غير الاعتيادية وغير المعهودة في لغة هذا العصر، ولذا فإن المظاهر اللغوية التي جاءت في لغة حضرته عليه السلام، والتي تبدو غريبة نسبة للغة العربية المعاصرة، هي من أهم المظاهر الإعجازية في لغته عليه السلام، لأنها تشكّل دليلا واضحا على إلمام حضرته بهذه اللغة واتساع بسطته فيها وامتلاكه لناصيتها، بما لا يمكن أن يجتمع في شخصٍ أعجميٍّ – بالذات-  إلا بفضل تعليم الله تعالى له كل هذه اللغات، وإلا لتطلب الأمر من الباحث العربي -ناهيك عن الأعجمي- أن يقضي كل حياته في البحث والتنقيب عن هذه الدرر والنكات الأدبية من أجل تجويزها وكتابتها، هذا إن استطاع في نهاية الأمر أن يجدها  ويعثر عليها كلها مجتمعة، ولن يجدها ولن يعثر عليها مجتمعة، لأن جزءا من هذه المظاهر التي جاء بها المسيح الموعود عليه السلام  لم تنقلها إلينا الكتب العربية، ولن تجد كتابا واحدا يتحدث عنها، كاعتبار شبه الجملة مبتدأ واسما للنواسخ، أو قد نجدها بندرة كبيرة في بعض المراجع دون أن تشملها المعاجم اللغوية مثل كلمة (هلاكة).

ويجب هنا أن لا ننسى عامل الوقت أيضا، لأن الوقت الذي ظهر فيه المسيح الموعود عليه السلام قبل مائة وخمسين سنة،كانت فيه  إمكانيات البحث والتنقيب في شتى المراجع والمصادر كانت شبه مستحيلة، وذلك لعدم توفر الكتب والمراجع والمكتبات والجامعات والكليات ووسائل الاتصال والتواصل المختلفة، كما هو الأمر متوفر في هذا الزمن بكل تسهيلاته البحثية الإلكترونية. فهذا أمر يجب أن لا يغيب عن بال المتفكر في أحوال المسيح الموعود عليه السلام وكيفية تعلمه لكل هذه اللغات والمظاهر الإعجازية النادرة.

وبعد كل هذا التقديم نعرض لقرائنا الكرام هذا الكتاب: الإيجاز في مظاهر الإعجاز بنشرته أو طبعته الإلكترونية الثانية، وهو في الحقيقة تلخيص لكل المقالات التي كتبناها في هذا الموضوع؛ لكي يكون دليلا واضحا، وإثباتا لكل هذه النظرية التي شرحناها، ولنؤكد على أنها لم تبق في عداد النظرية، بل جاءت كحقيقة علمية تطبيقية في لغة حضرته عليه السلام، بمظاهرها الإعجازية ودررها ونكاتها اللغوية والأدبية المختلفة.

وفي النهاية ندعو الله عز وجل أن يكون هذا الكتاب مصدر هداية للكثير من خلقه، وتثبيتا لنفوس المؤمنين بالمسيح الموعود عليه السلام، وعونا لهم في التشبث بصدق دعواه  عليه السلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.