المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..125
فنون التذكير والتأنيث الإعجازية .. 24
تذكير الفعل مع المؤنث الحقيقي الظاهر والمضمر دون وقوع فاصل بينهما لغة من لغات العرب
(ملحوظة: هذا هو البحث الشامل والتفصيلي للمقال السابق. من يشق عليه قراءة البحث كله بإمكانه قراءة التلخيص والنتيجة)
الاعتراض:
اعتُرض على المسيح الموعود عليه السلام، لتذكيره الأفعال مع كون فاعلها مؤنثا، وذلك فيما جاء في الفقرات التالية:
- بل أعطانا ملِكةً راحمةً التي تربينا بوابل الإحسان والإكرام، … ورحمها (الله) كما ((هي رحمنا)) (نور الحق)
- ولا نجد سبيلا إلى حمل مريم من النكاح، فإن أُمّها كانت عاهدتِ الله ((أنها يتركها)) محرَّرةً سادنة، وكانت عهدها هذا في أيام اللِّقاح . (مواهب الرحمن)
- وتقرأُ [الملكة] بعض كتب لساننا من مسلم ((آواه عندها)) (حمامة البشرى)
الردّ:
المقدمة:
كنا قد ذكرنا في مقالات سابقة جواز تذكير الفعل، إذا كان فاعله مؤنثا مجازيا ليس مفصولا عنه (طلع الشمس)[ ينظر مظاهر الإعجاز 88 على الرابط]، أو إذا كان الفاعل مؤنثاحقيقيا أو مجازيا مفصولا عن الفعل المتقدم له بفاصل (جاءكم موعظة/ جاء القاضيَ بنتٌ)[يُنظر: مظاهر الإعجاز 86 على الرابط]. كما ذكرنا أن ابن كَيسان يجيز تذكير الفعل المسند إلى ضمير عائد إلى مؤنث مجازي (كالقول :الشمس طلع) (ينظر مظاهر الإعجاز 101 على الرابط).
إلا أننا نرى بأن الفقرات الثلاث المعترض عليها أعلاه، لا تندرج تحت هذه اللغات والقواعد التي أثبتناها، وذلك لكون الفاعل فيها مؤنثا حقيقيا ليس مفصولا عن فعله بفاصل، ولأن الفعل متأخر عن المبتدأ (الذي هو الفاعل حقيقة وكني عنه بالضمير المتصل بالفعل)،فهذه الحالة لا تندرج تحت الحالات التي أثبتناها.
وبكلمات أخرى، لم نثبت بعد إمكانية تذكير الفعل، إذا كان الفاعل مؤنثا حقيقيا، سواء تقدم الفعل عن الفاعل أو تأخر عنه. وهذا هو هدف هذا المقال والبحث.
البحث والتفصيل:
يقرّ سيبويه بأن العرب قد ذكّرت الفعل للمؤنث الحقيقي حيث قالوا: قال فلانة. وجاء هذا في كتابه حيث قال:
“وقال بعض العرب: قال فُلانةُ.
وكلما طال الكلام فهو أحسنُ، نحو قولك: حضر القاضي امرأةٌ؛ لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، …وإنما حذفوا التاء لأنهم صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء، كما كفاهم الجميعُ والاثنان حين اظهروهم عن الواو والألف.
وهذا في الواحد من الحيوان قليل، وهو في المَوات كثير، فرقوا بين المَوات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم. … وهذا النحو كثيرٌ في القرآن، وهو في الواحدة إذا كانت من الآدميين أقل منه في سائر الحيوان.” [الكتاب لسيبويه (2/ 39-38)]
إذن، يقر سيبويه بأن تذكير الفعل المتقدم على الفاعل المؤنث الحقيقي، لهي لغة صحيحة من لغات العرب، ولكنها قليلة خاصة إذا كان الفاعل من الآدميين.
وقد أكّد هذه اللغة وهذه الإمكانية وجوازها ابن مالك في ألفيته حيث قال:
والحذف قد يأتي بلا فصل ٍ ومع … ضمير ذي المجاز في شعر ٍ وقع [ألفية ابن مالك (ص: 25)]
فبينما تقول القاعدة الرائجة بجواز تذكير الفعل للمؤنث الحقيقي، فقط عند وجود فاصل بين الفعل والفاعل (جاء القاضيَ هندٌ)، نرى أن ابن مالك في هذا البيت، يقول بإمكانية تذكير الفعل، حتى دون الفصل بين الفعل والفاعل المؤنث الحقيقي كالقول:(جاء هندٌ).
وبينما تقول القاعدة الرائجة بوجوب تأنيث الفعل وظهور تاء التأنيث فيه، إذا كان فاعله ضميرا عائدا على مؤنث حقيقي أو مجازي ( البنت جاءت/ الشمس طلعت)؛ نرى أن ابن مالك جوّز في الشعر، تذكير الفعل في هذه الحالة مع المؤنث المجازي (الشمس طلع)؛ وهو ما أقرّه وجوّزه ابن كيسان نثرا وشعرا كما أسلفنا في مقالات سابقة.
وقد أجزل شراح الألفية في شرح هذا البيت، وإليكم بعض ما قالوه ويهمنا في البحث:
- يقول القاضي ابن عقيل في شرحه:
“والحذف قد يأتي بلا فصل ومع … ضمير ذي المجاز في شعر وقع
وقد تحذف التاء من الفعل المسند إلى مؤنث حقيقي من غير فصل وهو قليل جدا حكى سيبويه قال فلانة وقد تحذف التاء من الفعل المسند إلى ضمير المؤنث المجازي وهو مخصوص بالشعر كقوله:فلا مزنة ودقت ودقها … ولا أرض أبقل إبقالها
وحذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى مؤنث قد يجئ في كلام العرب من غير فصل بين الفعل وفاعله، وقد وقع ذلك الحذف في الشعر مع كون الفاعل ضميرا عائدا إلى مؤنث مجازي التأنيث.” [شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (2/ 91- 92) ]
- ويقول الاشموني :
“والحذف قد يأتي بلا فصل ومع … ضمير ذي المجاز في شعر وقع
“والحذف قد يأتي” مع الظاهر الحقيقي التأنيث “بلا فصل” شذوذا؛ حكى سيبويه “قال فلانة”.” [شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 399)]
- يقر الوقاد في شرح التصريح، أن ظاهر كلام ابن مالك في ألفيته، هو جواز وقياسية هذا الحذف، وقد جاء مثيله في الكلام الفصيح فيقول:
“وشذ قول بعضهم: قال فلانة”، حكاه سيبويه عن بعض العرب، “وهو رديء لا ينقاس”، فيقتصر فيه على السماع، وظاهر قول الناظم: والحذف قد يأتي بلا فصل…
أنه ينقاس على قلة، “وإنما جاز في” الكلام “الفصيح، نحو: نعم المرأة” في المدح، “وبئس المرأة” في الذم بترك التاء فيهما؛” [شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو (1/ 408)]
- وجاء في كتاب المدارس النحوية تأكيد على تجويز ابن كيسان لهذه اللغة في النثر حيث جاء:
“ولابن كيسان بجانب ذلك آراء اجتهادية كثيرة انفرد بها، فمن ذلك أنه كان يجوِّز تذكير الفعل مع المبتدأ المؤنث المجازي مثل: “الشمس طلع” لمجيء ذلك على لسان الشعراء في مثل:
ولا أرض أبقل إبقالها
كما جوز تذكير الفعل مع الفاعل المؤنث الحقيقي بدون فاصل لقول بعض الشعراء:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
واستدل أيضا بأن سيبويه حكى عن بعض العرب: “قال فلانة”. [المدارس النحوية (ص: 251)]
- واما أبو حيان الأندلسي فيذكر أن ممن جوز هذه اللغة كان الأخفش والرّماني فقال:
“وقولهم: قال فلانة قيل: لغة، وقيل شاذ لا يقاس عليه، وأجازه الأخفش، والرماني، ورده المبرد..“ [ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي (2/ 734)]
- ويقول أبو حيان الأندلسي في التذييل، أنه ما دام ثبت أن حذف التاء مع المؤنث الحقيقي لغة للعرب، فلا بد أن يقاس عليها ولو على قلة، حيث جاء:
“وقول المصنف “وعلى هذه اللغة جاء قول لبيد” أثبت أنها لغة وبعض أصحابنا جعل ما حكى س (يقصد سيبويه) من قولهم “قال فلانة” شاذًا، ولا يجوز إلا حيث سمع، ولا يقاس عليه. وإن ثبت أنها لغة فينبغي أن يقاس وإن كان قليلًا.” [التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل (6/ 197)]
- وأما أبو السعيد السيرافي فقد انتصر لسيبويه مدافعا عنه في تجويزه لهذه اللغة رغم عدم ورودها في القرآن، فيقول إنه ليس كل لغة عربية توجد في القرآن الكريم؛ كما يلي:
“قال أبو سعيد: قد ذكر سيبويه عن العرب حذف علامة التأنيث من الحيوان مع قلته، وكان أبو العباس محمد بن يزيد ينكر ذلك أشد الإنكار، ويقول:
لم يوجد ذلك في قرآن، ولا في كلام فصيح وشعر، والذي قاله سيبويه أصحّ لأنه حكاه عن العرب، وهو غير متهم في حكايته، واحتج له بما لا مدفع له وقد قال جرير فيه في قوله ما يوافق حكاية سيبويه، وهو:
لقد ولد الأخيطل أمّ سوء … على باب استها صلب وشام
وليس كل لغة توجد في كتاب الله عز وجل ولا كل ما يجوز في العربية يأتي به القرآن أو الشعر، ولأبي العباس مذاهب يجوزها لم توجد في قرآن ولا غيره، من ذلك إجازته:
إن زيد قائما، قياسا على: ما زيد قائما، ولا أظن الاستشهاد عليه ممكنا في شيء من الكلام.” [شرح كتاب سيبويه (2/ 369)]
وقد وردت هذه اللغة في كتب الحديث ومنها على لسان عائشة رضي الله عنها حيث جاء:
- “(كانت إحدانا) وقَع في “مسلم”: (كان إحدانا)، وتخريجُه على حكاية سيبويهِ عن بعضِ العربِ: قالَ فلانةُ.“ [اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (2/ 461)]
“عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشَرَةَ امْرَأَةً. فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِن شَيئًا
..وأما تذكير فعل جلس مع أن القياس أن يكون مؤنثًا لكونه مسندًا إلى المؤنث الحقيقي بلا فاصل، فوجهه أنه على حد قولهم قال فلانة، كما حكاه سيبويه عن بعض العرب استغناءً بظهور تأنيثه عن علامته، وقيل: إنه روعي فيه معنى الجمع لا الجماعة كذا في جمع الوسائل لعلي القاري [2/ 48] [الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/ 573)]
كل هذه الشواهد تؤكد صحة تذكير الفعل للفاعل المؤنث الحقيقي، عندما يكون الفعل متقدما على الفاعل، وتؤكد أنها لغة عربية صحيحة يجوز القياس عليها، ولو على قلة بتجويز جهابذة اللغة والنحو.
ابن كيسان يكسر القاعدة الرائجة ويجيز تذكير الفعل للفاعل المضمر المجازي التأنيث:
إلا أن هذه الشواهد التي ذكرناها أعلاه، لم تتطرق إلى الحالة الثانية، والتي فيها يكون الفعل متأخرا عن الفاعل (أو المبتدأ) المؤنث الحقيقي كالقول: هندٌ جاء.
لا بدّ أولا من الإشارة مرة أخرى، بأن القاعدة المتبعة هي بوجوب تأنيث الفعل وإلحاق تاء التأنيث به إذا كان فاعله ضميرا مضمرا يعود على مؤنث حقيقي أو مجازي.فيجب القول: هند جاءت والشمس طلعت، ولا يجوز وفق القاعدة أن نقول: هند جاء والشمس طلع.
إلا أن ابن كيسان قد كسر هذه القاعدة، وأجاز تذكير الفعل في هذه الحالة إذا كان الضمير عائدا إلى المؤنث المجازي كمثل : الشمس طلع؛ فقد جوّز ابن كيسان هذا الأمر في الشعر والنثر على السواء. وهذا ما يؤكده ابن مالك في شرحه للكافية فيقول:
“يحذف بلا فصل مع كون التأنيث حقيقيا.
من ذلك ما حكاه سيبويه من قول بعض العرب: “قال فلانة”.
والتزموا لحاق التاء إن كان الفاعل مضمرا، ولو كان مجاز التأنيث نحو: “الشمس طلعت”.
ولا يجوز “الشمس طلع” إلا في الشعر كقوله:
فلا مزنة ودقت ودقها … ولا أرض أبقل إبقالها
ولا يجوز مثل هذا في غير الشعر إلا عند ابن كيسان. ” [شرح الكافية الشافية (2/ 597-596)]
شواهد على جواز تذكير الفعل للفاعل المضمر الحقيقي التأنيث:
- ابن مالك يشير إلى هذه اللغة:
ولكن هل هذه القاعدة التي اتبعها ابن كيسان، تسري على المؤنث الحقيقي أيضا، بحيث يصح أن نقول : هند جاء.؟
أرى بأن ابن مالك قد أومأ إلى هذه الإمكانية في شرح التسهيل حيث قال:
“وجعلوا إلحاقها (يقصد تاء التأنيث) في اللغة المشهورة لازما إن كان المسند إليه ضميرا متصلا حقيقي التأنيث أو مجازيّه كهند قامتْ والدار حَسُنتْ، أو كان ظاهرا متصلا حقيقي التأنيث مفردا أو مثنى أو مجموعا جمع تصحيح كقامتْ هندُ وقعدتْ بنتاها وذهبتْ عمّاتُها.
… واحترزتُ بقولي “ولا تحذف غالبا” من نحو قول بعض العرب قال فلانة، وذهب فلانة، حكاهما سيبويه. وعلى هذه اللغة جاء قول لبيد:
تمَنَّى ابنتايَ أنْ يعيشَ أبُوهما … وهلْ أنا إلا من رَبيعةَ أو مضرْ” [شرح التسهيل لابن مالك (2/ 111)]
نجد أن ابن مالك يقول بأن إلزام تاء التأنيث للفعل المتأخر المسند إلى ضمير حقيقي أو مجازي التأنيث قد جاء في اللغة المشهورة؛ مما قد يدل على أن هنالك لغة غير مشهورة لم يلتزم العرب فيها إلحاق التاء في الفعل المسند إلى ضمير مجازي التأنيث وكذلك حقيقي التأنيث.
إلحاق تاء التأنيث في الفعل للفاعل المؤنث ليس أصيلا في اللغة العربية:
ومن الشواهد المؤيدة والتي لا شك في أنها تضفي توضيحا وتسعف في الإجابة على هذه المسألة، هو ما ورد عن الدكتور إبراهيم السامرائي العضو المرافق في مجمع اللغة العربية الأردني، في كتابه “النحو العربي نقد وبناء” صفحة 143 حيث قال:
“وإذا جئنا للفعل في العربية، واتصاله بتاء التأنيث لأن فاعله مؤنث، وجدنا هذه الحقيقة واضحة كل الوضوح، وهي أن العلامة ليست شيئا لازما، وأن ذلك يوضح شيئا من التطور التاريخي في تقرير هذه المادة اللغوية…” [نقلا عن كتاب ابن كيسان النحوي ص 294]
ويؤكد الدكتور إبراهيم السامراءي قوله هذا في بحث آخر له بعنوان “في التذكير والتأنيث:نظرة تاريخية في هذه المسألة” صفحة 13، وهو بحث منشور في مجلة مجمع اللغة الأردني العدد 28-29 لسنة 1985 ، ويقدم لهذا الكلام ويقول:
“قلت: إن المسألة تثير كثيرا من المسائل، وذلك لأنها تبرز شيئا من التاريخ اللغوي. لكأن العربية القديمة كانت قد مرت بمرحلة تاريخية لم تكن فيها مسألة الجنس في التذكير والتأنيث واضحة تمام الوضوح. وسأعرض لما يدلنا على وجود هذه المرحلة كما لا نعدم النظر في اللغات السامية لنتبين ذلك” [ في التذكير والتأنيث، ص3]
ويتابع في هذا ويقول:
“ وكأني ميال إلى أن أقرر أن التأنيث بالعلامة طارئ في العربية من الناحية التاريخيةكما هو طارئ في غير العربية من اللغات الساميةكما سنرى، وعلى هذا نستطيع فهم كثير من أبنيتهم التي عريّت عن العلامة من صفات المؤنث كقولهم: امرأة رداح ورداحة وردوح.” [ في التذكير والتأنيث ص 12]
ثم يعرض الدكتور ابراهيم السامرائي في نفس البحث العديد من الأمثلة القرآنية مستشهدا بها على قوله ويخلص ويقول:
“ أجتزئ بهذا القدر من شواهد لغة التنزيل، لأتخذ منها أمثلة على عدم لزوم هذه التاء لبيان المؤنث لزوما مطلقا مطردا، وفي هذا دليل على حدوث هذا وعدم أصالته. غير أن النحويين قد قرروا ما وجدوه في العربية فأفادوا منه قواعدهم في وجوب تأنيث الفعل وجوازه،كما حاولوا أن يكون استقراؤهم في هذه المسألة مستوعِبا جميع الأحوال” [في التذكير والتانيث 13-14]
وفي كتابه “الفعل زمانه وأبنيته” يقول الدكتور ابراهيم السامرائي: “ويدل الاستقراء على أن التانيث في العربية حتى عصر القرآن الكريم لم يكن على شيء من الاستقرار“[ الفعل زمانه وأبنيته ص 216]
وقد ذكر الدكتور عمر رشيد شاكر السامرائي في كتابه “العربية المشتركة دراسة في ضوء المنهج اللغوي التأريخي” ذكر ما قاله الدكتور ابراهيم السامرائي ثم فسره قائلا:
“ولكننا نجد باحثين آخرين نظروا إلى هذا الذي عرضناه في الآيات الكريمة في أول هذا المطلب ودرسوه دراسة لغوية تاريخية، وأكدوا أن ما في هذه الآيات الكريمات وما يشبهها دليل على أن العربية في عصر نزول القرآن لم تكن قد التزمت بعد بظاهرة إلحاق الفعل علامة تدل على أن الفاعل مؤنث“ واستشهد بأقول الدكتور ابراهيم السامراءي وبحثه التي ذكرناها أعلاه ليؤكد قوله هذا. [ العربية المشتركة 431]
إذن، نرى أن الدكتور إبراهيم السامرائي يقرّ بالأمور التالية:
- اللغة العربية مرت في مرحلة لم تكن فيها مسألة الجنس واضحة تمام الوضوح
- اللغة العربية القديمة حتى عصر القرآن الكريم لم تكن قد التزمت بعد إلحاق علامة التأنيث (تاء التأنيث) في الفعل للدلالة على أن الفاعل مؤنث.
- لحوق هذه العلامة في الفعل للدلالة على أن الفاعل مؤنث هو أمر وحدث طارئ وليس أصيل في اللغة العربية.
- لحوق هذه التاء في الأفعال نتيجة للتطور التاريخي للغة العربية.
وكل هذا يؤكد أن تذكير الفعل المسند إلى ضمير حقيقي التأنيث (هند جاء) لا بد أن تكون هي الأخرى لغة من لغات العرب، كما أومأ إليه ابن مالك أعلاه، وشبيهة بأختها مما أثبته سيبويه في لغات العرب، من تذكير الفعل المسند إلى ظاهر حقيقي التأنيث (جاء هند).
جواز هذه اللغة – تذكير الفعل مع المضمر الحقيقي التأنيث- على مذهب ومنطق ابن كيسان:
وإذا ما نظرنا إلى السبب الذي جوّز فيه ابن كيسان تذكير الفعل المسند إلى ضمير مجازي التأنيث، نرى بأنه قد جوّز ذلك لإيمانه أن لا فرق بين الظاهر والمضمر، وهذا ما جاء في كتاب “ابن كيسان النحوي” حيث يقول الكاتب، بعد ما انتصر لابن كيسان في تجويزه القول:الشمس طلع، قال ما يلي:
“وبما أن النحاة أجازوا تذكير الفعل وتأنيثه مع المؤنث المجازي الظاهر، لذا فلا أرى مانعا يمنع منه مع ضميره، لأنه لا فرق بين المضمر والظاهر كما يقول ابن كيسان “.
وبناء على نفس هذا المنطق نقول: بما أن النحاة قد أقروا وجوزوا تذكير الفعل مع المؤنث الحقيقي على قلة، ولا فرق بين الفاعل الظاهر والمضمر وفق ابن كيسان، فلا مانع أيضا من تذكير الفعل المسند إلى ضمير حقيقي التأنيث على قلة ،كالقول : فلانة جاء، وهند قال. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار ما أقرّ به الدكتور ابراهيم السامرائي بعدم لزوم تاء التأنيث مع الفعل في العربية إلا كنتيجة للتطو رالتاريخي للغة، وإمكانية كون هذه اللغة (هند جاء) لغة للعرب كما أومأ إليه ابن مالك .
ويبدو لي أن ابن كيسان لم يتطرق إلى هذه الجزئية (أي تذكير الفعل مع المضمر الحقيقي التأنيث)، لعدم تجويز النحاة تذكير الفعل مع المؤنث الحقيقي الظاهر إلا على قلة، مقارنة مع المجازي الظاهر الذي جوزوه على الإطلاق. أو لربما تطرق إليها وجوزها، إلا أن هذا التفصيل لم يصل إلينا، نظرا لكزن الكثير من مؤلفات ابن كيسان قد اندثرت ولم تصلنا.
فوفق منطق ابن كيسان نخلص إلى النتيجة التالية:
إذا كان تذكير الفعل مع المؤنث المجازي المضمر جائزا على الإطلاق (الشمس طلع)، لكون التذكير مع المؤنث المجازي الظاهر جائزا على الإطلاق ولأنه لا فرق بين الظاهر والمضمر(طلع الشمس)؛ لذا فلا بدّ أن يكون تذكير الفعل مع المؤنث الحقيقي المضمر جائزا على قلة (هند جاء)، لجواز هذا التذكير على قلة مع المؤنث الحقيقي الظاهر ولأنه لا فرق بين الظاهر والمضمر وفق ابن كيسان (جاء هند).
المذهب الكوفي يؤيد هذه اللغة ومنطق ابن كيسان:
ولعل ما حدى بان كيسان أن يقرّ بأنه لا فرق بين الظاهر والمضمر هو تأثره من المذهب الكوفي الذي لا يفرق بين الجملتين (جاء محمد) و(محمد جاء) من حيث الإسناد. حيث عندهم الجملتان فعليتان أسند فيها الفعل (جاء) إلى الفاعل (محمد)، سواء تقدم أو تأخر هذا الاسم عن الفعل؛ ولا يقول الكوفيون بأن في الجملة (محمد جاء) قد اُسند الفعل إلى ضمير مضمر يعود على محمد.
وهذا ما ذكره الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه ” الفعل زمانه وأبنيته” حيث قال: ” وقد اختصر الكوفيون هذه المسألة فقالوا بأن الفاعل هو الاسم المتقدم للفعل الذي تأخر عنه. وعندهم أن (سافر محمد) لا تختلف نحوا عن قولهم (محمد سافر) والخلاف بين الجملتين لا يمكن أن يكون مادة نحوية فهي من مسائل الأسلوب، والتقديم والتأخير من مواد النقد البلاغي، والعناية بلفظ من الألفاظ تقتضي تقديمه عندهم.” [ الفعل زمانه وأبنيته 205]
ونقل السامرائي عن الجارم قوله: “حقا إن الكوفيين أجازوا تقديم الفاعل على الفعل، وإن مثل قولك:الرجل قام ، لا يتضمن الفعل فيه ضميرا على رأيهم وأنه كقولك (قام الرجل) تماما” [الفعل زمانه وأبنيته 209]
وهنا نقول، لا شك: أن لهذا المذهب الكوفي الذي لا يفرق بين (قام الرجل) و(الرجل قام) من حيث الإسناد أثر بالغ في ابن كيسان وقراره أن لا فرق بين الظاهر والمضمر، وجاز عنده (الشمس طلع) كما جاز (طلع الشمس).
وبناء على المذهب الكوفي هذا نقول: إذا كان لا فرق بين (جاء محمد) و(محمد جاء) ، فلا فرق أيضا بين (جاء هند) و(هند جاء)؛ فكلتاهما جملتان فعليتان وفق المذهب الكوفي أُسند فيهما الفعل (جاء) إلى الفاعل المتقدم أو المتأخر (هند).
الخلاصة والنتيجة:
لغة تذكير الفعل للفاعل الظاهر الحقيقي التأنيث كـ (جاء هند)
- تذكير الفعل للفاعل الظاهر المؤنث الحقيقي دون الفصل بين الفعل والفاعل، لهي لغة من لغات العرب أقرّها سيبويه ومثل لها بقول العرب: قال فلانة.
- أكّد هذه اللغة العديد من جهابذة اللغة، مثل: السيرافي وابن كيسان وابن مالك والأخفش والرماني وأبو حيان الاندلسي والعديد من شراح ألفية ابن مالك، مثل: القاضي ابن عقيل والأشموني.
- أقرّ ابن كيسان جواز هذه اللغة والقياس عليها في النثر، كما أقر أبو حيان الأندلسي هذا القياس على قلة، لمجرد ثبوت أنها لغة من لغات العرب، وأكّد الوقاد أن مفهوم كلام ابن مالك في ألفيته، هو جواز هذه اللغة والقياس عليها على قلة.
- وأما أبو السعيد السيرافي فينتصر لهذه اللغة ويقول: عدم ورود هذه اللغة في القرآن الكريم لا يعني أنها لغة خاطئة، فليس كل لغات العرب يحويها القرآن الكريم .
- ورد مثل هذه اللغة في الحديث الشريف، في صحيح مسلم على لسان عائشة رضي الله عنها، مما يؤكد أنها لغة للعرب لا بدّ من القياس عليها ولو على قلة .
تذكير الفعل للفاعل المضمر الحقيقي التأنيث كـ (هند جاء):
- أومأ ابن مالك أن تذكير الفعل للفاعل المضمر الحقيقي التأنيث لغة من لغات العرب غير المشهورة إلا أنه لم يفصل الحديث فيها.
- يقرّ الدكتور ابراهيم السامرائي العضو المرافق في مجمع اللغة العربي الأردني، أن لزوم تاء التأنيث في الفعل للدلالة لعى الفاعل المؤنث ليس أصيلا في اللغة العربية، بل حدث طارئ اقتضاه التطور التاريخي للغة العربية.
- يقرّ الدكتور السامرائي ويقول بأن اللغة العربية قبل القرآن الكريم لم تلتزم تاء التأنيث في الفعل للفاعل المؤنث.
- يؤكد بحث الدكتور إبراهيم السامرائي ما أوما إليه ابن مالك بإمكانية كون لغة (هند جاء) لغة من لغات العرب غير المشهورة. أي يؤكد جواز هذه اللغة على لغات العرب.
- الجمع بين مذهب سيبويه ومذهب ابن كيسان يؤكد صحة هذه اللغة:
- يجيز سيبويه وغيره من النحاة ولو على قلة كما أثبتنا أعلاه تذكير الفعل للمؤنث الحقيقي الظاهر: “قال فلانة.
- يقول ابن كيسان: لا فرق بين الفاعل الظاهر والمضمر . {فبما ان النحاة يجيزون تذكير الفعل للمؤنث الظاهر المجازي (طلع الشمس)، فيجوز عنده تذكير الفعل للمؤنث المجازي المضمر (الشمس طلع)}
- فبالجمع بين المذهبين نستنتج وفق مذهب ابن كيسان: جواز تذكير الفعل للفاعل المضمر الحقيقي التأنيث على قلة والقول: فلانة قال. لأنه لا فرق بين الظاهر والمضمر عنده؛ فإن صحّ:قال فلانة؛ لا بد أن يصح أيضا :فلانة قال؛على قلة.
- يقر المذهب الكوفي أنه لا فرق بين (جاء محمد) و (محمد جاء)، فكلتاهما جملتان فعليتان أُسند فيهما الفعل (جاء) إلى الفاعل المقدم أو المؤخر (محمد). وهذا المذهب يؤكد قول ابن كيسان أنه لا فرق بين الظاهر والمضمر.
- بالجمع بين مذهب سيبويه (قال فلانة) والمذهب الكوفي نستنتج صحة القول (فلانة قال) لأنه لا فرق بين الجملتين نحويا وفق المذهب الكوفي، وفي كلاهما أُسند الفعل إلى الفاعل (فلانة). فوفق هذا الجمع بين المذهبين يصحُّ القول بجواز تذكير الفعل للمضمر الحقيقي التأنيث على قلة (جاء هند)، كما جاز للظاهر حقيقي التأنيث(هند جاء).
- وبناء على كل هذا تثبت صحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه، والتي جاء فيها الفعل مذكّرا للفاعل المضمر الحقيقي التأنيث. وذلك على لغات للعرب أقر بها النحاة، ووفق مذهب ابن كيسان الذي لا يفرق بين الفاعل الظاهر والمضمر والمذهب الكوفي الذي لا يفرق بين الفعل المتقدم و المتأخر عن الفاعل .
نتابع عد الفقرات من حيث وصلنا. فيصح القول وفق هذه اللغات:
- بل أعطانا ملِكةً راحمةً التي تربينا بوابل الإحسان والإكرام، … ورحمها (الله) كما ((هي رحمنا)) (نور الحق)
- ولا نجد سبيلا إلى حمل مريم من النكاح، فإن أُمّها كانت عاهدتِ الله ((أنها يتركها)) محرَّرةً سادنة، وكانت عهدها هذا في أيام اللِّقاح . (مواهب الرحمن)
- وتقرأُ [الملكة] بعض كتب لساننا من مسلم ((آواه عندها)) (حمامة البشرى)
وجدير بالذكر أن تأنيث الفعل (كانت) في الجملة الثانية قد جاء حملا لكلمة (عهد) على معنى (الوصية) فهما ذات المعنى حقيقة.
وفي هذه اللغة تثبت عظمة المسيح الموعود عليه السلام، في إلمامه بهذه اللغات العربية القديمة، ويثبت الإعجاز اللغوي عنده في تعلمه هذه اللغات من الله العلام.