المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..248

نكتة عدم التطابق بين الحال وصاحبها والمبتدأ وخبره

تنزيل الجمع منزلة الفرد مبالغة وتشبيها

الاعتراض:

يدّعي المعارضون وقوع الخطأ في الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام، نعرضها مع تصحيحات المعارضين المزعومة، كما جاءت في اعتراضهم:

1: فعَلَّم الله تعالى عباده أن يفروا إليه بالدعاء عائذا من شرورها ودواهيها. (كرامات، ص 68). الصحيح: عائذين.

2:  وكانوا ينظرون إلى سلسلة الله مغاضبًا، ويؤذون عباد الله بحديث يُفترى (الاستفتاء، ص 24). الصحيح: مغاضبين.

3: والآن نذكر قليلا من الشواهد، متوكّلاً على الله الواحد (سر الخلافة، ص 91). الصحيح: متوكلين. أو أذكر متوكلا.

4: ونعلم مستيقنا أنّ العلماء أخطأوا في فهم تلك الأحاديث (حمامة البشرى، ص 77). الصحيح: مستيقنين.

5: وقوموا متوكلا على الله وقَدِّموا من خير ما استطعتم (نور الحق، ص 15). الصحيح: متوكلين.

6: ويأتونه راغبا في أنواره (التبليغ، ص 85). الصحيح: راغبين

7: وإنّا نكتب قصّتكم متجرّعًا بالغصص (إتمام الحجة، ص 73). الصحيح: متجرّعين. وهي مسروقة من الحريري سرقة فاشلة في قوله: فوَلجْتُ الدّارَ متجرِّعاً الغُصَصَ. (المقامة الصورية)

8: فما لبثوا أن رجعوا متدهدهًا إلى خميلتي (التبليغ، ص 145). الصحيح: متدهدهين. وسبب الخطأ أنه سرقها من دون أن يفهمها من الحريري القائل: فما لبِثَ أنْ رجَعَ مُتَدَهْدِهاً. (المقامة الإسكندرية)

9: وتراهم مسلوبَ الهمّة (الهدى والتبصرة). الصحيح: مسلوبي الهمة.

10: حتى وجدتُهم فاسدَ النيّة والعمل (حجة الله، ص 85). الصحيح: فاسدي.

11: والسر في ذلك أنه ما رآهم حرِيًّا بالأسرار الإلهية (حمامة البشرى، ص 34). الصحيح: حَرِيّين.

12: فسيُضرَب عليهم الذلّة ويُمْسُون أخا عَيلة (حجة الله، ص 105). الصحيح: إخوة عَيلة.

فموقع الخطأ وفق زعمهم يكمن في عدم تطابق الحال مع صاحبها والخبر مع مبتدئه من حيث الإفراد والجمع، فرغم وجوب هذا التطابق وفق القواعد المعروفة، إلا أنها في هذه الفقرات جاءت الأحوال والخبر مفردة بينما صاحب الحال والمبتدأ جمع.

 

الرد:

كنا قد رددنا على هذا الاعتراض في مقال سابق، وقلنا أن لا خطأ في كل هذا، حيث توجيه هذه الفقرات على “الحمل على المعنى في اللغة”، ففي هذه الفقرات حمل الجمع على معنى الفرد، فجاءت الحال والخبر مفردة على معنى الجمع الذي سبقها في صاحب الحال والمبتدأ. (يُنظر: مظاهر الإعجاز 20 على الرابط التالي: https://wp.me/pcWhoQ-3p3 )

وإضافة إلى ذلك التوجيه، لنا أن نذكر توجيها آخر مما يذكره النحو الوافي في النص التالي، في سياق الحديث عن عدم تطابق المبتدأ والخبر فيقول:

 

“وقد تختلف المطابقة بين المبتدأ المتعدد الأفراد والخبر المفرد إذا كان المبتدأ متعدد الأفراد حقيقة، ولكنه يُنَزَّل منزلة المفرد؛ بقصد التشبيه، أوالمبالغة، أونحوهما؛ سواء أكان بمنزلة المفرد المذكر أم المؤنث، وقد اجتمعا فى قولهم: المقاتلون فى سبيل الله رجل واحد وقلب واحد، وهم يد على من سواهم، وقولهم: التجارب مرشد حكيم، والمنتفعون بإرشاده قلعة تَرتدّ دونها الشدائد، ومن أمثلة التعدّد الحقيقى أيضًا، قول الشاعر:

المجْد والشَّرف الرّفيع صحيفةٌ … جُعِلتْ لها الأخلاق كالعنوان” [النحو الواف (1/ 459)]

والنحو الوافي في هذا النصّ وافي في تفصيله، بأن الخبر قد يجيئُ مفردا لمبتدئه الجمع، فينزّل هذا الجمع منزلة الفرد؛ وما ذلك إلا ضربا من التشبيه والمبالغة.

ولا شك أن عدم التطابق هذا يسري على النعوت والأحوال أيضا، لأنها تسير عليها نفس المبادء من حيث المطابقة، وقد كرر النحو الوافي هذا المبدأ في الكثير من المواضع المتعلقة بهذه المطابقة، كما يلي:

منها في سياق تفصيله عدم التطابق في الجمع بين النعت والمنعوت فقال:

_ “وهذا جار في الصفات والأخبار، والأحوال” [النحو الوافي (3/ 446)]

_ ” يجوز في نعته -وكذا في خبره وحاله … و…. و …” [النحو الوافي (3/ 448)]

_ ” وهذا الحكم -بصوره المختلفة السالفة -ليس مقصوراً على النعت وإنما يشاركه فيه الخبر والحال -كما سلف-؛ بشرط أن يكون المبتدأ وصاحب الحال جمعين لذكر غير عاقل كما في المنعوت. “راجع حاشية ياسين في هذا الموضع”. [النحو الوافي (3/ 448)]

وعليه فإن الأخبار والأحوال والنعوت متشابهة في أحكام التطابق هذه والحديث عنها في هذا السياق سواء.

لذا فكما أن المبتدأ الجمع من الممكن أن ينزّل منزلة المفرد ليُخبر عنه بالمفرد، كذلك الأمر في صاحب الحال حيث تأتي حاله مفردة تنزيلا له منزلة الفرد. وكل ذلك كما أسلفنا بلاغة ومبالغة وتشبيها.

وقد تكون المبالغة على اعتبار وتأكيد أن الوصف المترتب من الخبر أو الحال يسري على كل فرد من أفراد المبتدأ أو صاحب الحال متعدد الأفراد، كما قيل في الآية الكريمة: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (75)} (الفرقان 75) فلم يقل تعالى “أئمة” بل إماما، حملا على معنى: اجعل كل واحد منا إماما.

ولا بد أن ننوه إلى أن مع هذا التوجيه، فإن توجيه الحمل على المعنى في اللغة يسري على هذه الجمل أيضا، وذلك بحمل الألفاظ المجموعة الواقعة في هذه الفقرات على معنى (الجمع)، فمثلا تكون الجملة : فيفروا إلى الله عائذا، أي: يفروا إلى الله جمعا عائذا. وهذا ما يتفق مع رأي الكوفيين الذي ذكرناه أكثر من مرة بتذكير كل الجموع على معنى الجمع ، وتأنيثها على معنى لجماعة.

وبناء على كل هذا يكون تأويل الفقرات أعلاه كما يلي:

1: فعَلَّم الله تعالى عباده أن يفروا إليه بالدعاء عائذا من شرورها ودواهيها.

أي : عائذا كل واحد منهم.   أو : جمعا عائذا..

2:  وكانوا ينظرون إلى سلسلة الله مغاضبًا، ويؤذون عباد الله بحديث يُفترى .

أي: ينظرون مغاضبا كل واحد منهم          . أو : ينظرون ..جمعا مغاضبا

3: والآن نذكر قليلا من الشواهد، متوكّلاً على الله الواح.

حمل اللفظ(نذكر) على معى الفرد لأنه يتحدث عن نفسه فقال(متوكلا).

4: ونعلم مستيقنا أنّ العلماء أخطأوا في فهم تلك الأحاديث.

حمل اللفظ (نعلم) على معى الفرد لأنه يتحدث عن نفسه فقال (مستيقنا).

5: وقوموا متوكلا على الله وقَدِّموا من خير ما استطعتم.

أي: قوموا متوكلا كل واحد منكم . أو: قوموا جمعا متوكلا

6: ويأتونه راغبا في أنواره .

أي: راغبا كل واحد منهم . أو: جمعا راغبا.

7: وإنّا نكتب قصّتكم متجرّعًا بالغصص.

حمل اللفظ (إنا) على معى الفرد لأنه يتحدث عن نفسه فقال (متجرعا).

8: فما لبثوا أن رجعوا متدهدهًا إلى خميلتي.

أي: متدهدها كل واحد منهم . أو: جمعا متدهدها

9: وتراهم مسلوبَ الهمّة .

أي :تراهم مسلوب الهمة كل واحد منهم. أو: جمعا مسلوب الهمة

10: حتى وجدتُهم فاسدَ النيّة والعمل .

أي: وجدتهم فاسد النية كل فرد منهم . أو: جمعا فاسد النية.

11: والسر في ذلك أنه ما رآهم حرِيًّا بالأسرار الإلهية.

أي: ما رآهم حريا كل واحد منهم . أو: جمعا حريا.

12: فسيُضرَب عليهم الذلّة ويُمْسُون أخا عَيلة.

أي: أخا عيلة كل فرد منهم. أو:  جمعا أخا عيلة.

وهنا لا بدّ أن نذكر بعض الأمثلة من القرآن الكريم، والتي لم يتطابق فيها الحال مع صاحبه منها:

1: في قراءة قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (الحشر 6) حيث قرئت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمًا عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (الحشر 6) حيث حمل الاسم الموصول (ما) على معنى التأنيث في (تركتموها) مع أن اللفظ مذكر، ثم عاد إلى اللفظ المذكر مباشرة وقال (قائما). فلم يتطابق الحال (قائما) مع صاحبه في (تركتموها) من حيث التذكير والتأنيث.

2: في الآية الكريمة: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} (الطَّلَاق 12) أفرد على اللفظ، ثم جمع على المعنى، ثم أفرد على اللفظ. فلم يتطابق الحال (خالدين) مع صاحبه في (يدخله) من حيث الإفراد والجمع.

وعليه فإن عدم التطابق بين الحال وصاحبها وارد في كلام الله تعالى.

وبناء على كل هذا، نخلص إلى أنه لا خطأ في عبارات المسيح الموعود عليه السلام المعترض عليها، بل جاء فيها الحال أو الخبر مفردا تنزيلا للمبتدأ وصاحب الحال منزلة الفرد مبالغة وتشبيها؛ وما هذا إلا قمة التفنن في اللغة وامتلاك ناصيتها.