المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..126
جواز استعمال (هل) للتصور كما في الحديث الشريف وبتصديق ابن مالك
الاعتراض:
يقول المعترضون إن أداة الاستفهام (هل) تستعمل فقط للتصديق، أي للسؤال الذي يطلب الجواب بـ نعم أو لا؛ ومن الخطأ استعمالها لهدف التصور أي التعيين في الاستفهام كباقي أدوات الاستفهام. ولذا فقد أخطأ المسيح الموعود عليه السلام في الفقرات التالية لأنه استعمل فيها (هل) للتصور. الفقرات هي:
- فانظرْ إلى كل جهة هل صدقنا في قولنا هذا أم كنا من الكاذبين (حمامة البشرى)
- هل سيرجع إلى الدنيا ثانية أم لا؟ (تذكرة الشهادتين)
- فما تقولون في هذا الرجل؟ هل هو صادق أو كاذب، (الاستفتاء)
- هل أتى وقت قدومِ كاسر الصليب أو ما أتى؟ (التبليغ)
- هل جاء وقت آخر الزمان أو في مجيئه حقب وقرون؟ (التبليغ)
- هل شاعت وغلبت مثل هذه الفتن العظيمة على وجه الأرض؟ أو هل سمع نظيرها ونظير نوادرها في شيع الأولين؟ (التبليغ)
- هل هو فعلُ الله تعالى أو كيد المفترين؟ (كرامات الصادقين)
- وتأمّلْ في هذه الألفاظ .. أعني التوفي .. هل تجد معناه الإماتة في هذه الآيات أو معاني أخرى؟ (حمامة البشرى)
- ألا ينظرون إلى الذين خلوا من قبلهم، هل هم غلبوا وأعجزوا رسل الله؟ أو كانوا من المغلوبين؟ (الهدى والتبصرة لمن يرى)
- هل هو مسلِمٌ أو خرّ من منار الملّة؟ (الاستفتاء)
- هل الوقت يقتضي دجالاً يُشيع الضلال، أو مصلحًا يحيي الدين، ويردّ إليكم ما زال؟ (الاستفتاء)
- فانظر هل مطَر سحاب الرحمة أو لا. (الاستفتاء)
الرد:
معروف وفق القاعدة الرائجة أن (الألف) التي من أدوات الاستفهام، تستعمل للتصديق والتصور. و(هل) تستعمل فقط للتصديق، وأما باقي أدوات الاستفهام تستعمل فقط للتصور.
لقد بنى المعارضون اعتراضهم بشكل إجمالي ،على أن (هل) لا يصح استعمالها بدلا من (الألف) للتصور والتعيين في الاستفهام وفق القاعدة الرائجة.ويظهر من تصحيحات المعترضين، أنهم يظنون بأن كل هذه الفقرات هي مواضع للتعيين، حيث استبدلوا العطف بـ أم بالعطف بـ أو في تصحيحاتهم الوهمية.
ومن اعتراضاتهم وتصحيحاتهم الوهمية يظهر أن اعتراضهم ينقسم إلى قسمين كما يلي:
- لا يصحّ استعمال (هل) في مواضع التعيين والتصور هذه بدلا من الهمزة
- كما لا يصح العطف بـ (أو) في مثل هذه المواضع، لأنها مواضع للتعيين لا بدّ من العطف فيها بـ (أم).
فلا بدّ في كل هذه المواضع استعمال ألف الاستفهام والعطف بعدها بـ أم بهدف طلب التعيين على حد زعمهم.
للرد على الجزء الأول من هذا الاعتراض، نقول إن المعارضون يجهلون أن (هل) من الممكن أن تأتي بمعنى ألف الاستفهام وأن تحلّ محلها للتصور وطلب التعيين، وقد ورد ذلك في الحديث الشريف على لسان سيد الخلق محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا } (صحيح البخاري, كتاب الجهاد والسير).
ويقرّ ابن مالك أن معنى (هل) في هذا الحديث كمعنى ألف الاستفهام فيقول في هذا الصدد:
“قلت: في “هل تزوجت بكرًا أم ثيبا” شاهد على أن “هل” قد تقع موقع الهمزة المستفهم بها عن التعيين، فتكون “أم” بعدها متصلة غير منقطعة، لأن استفهام النبي – صلى الله عليه وسلم – جابرًا لم يكن إلا بعد علمه بتزوجه إما بكرًا و إما ثيبًا، فطلب منه الأعلام بالتعيين، كما كان يطلبه ب “أيّ”.
فالموضع إذن موضع الهمزة، لكن استغني عنها ب “هل”…. [شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (ص: 265)]
ويخرِّج ما ذهب إليه ابن مالك، الأستاذ داود بن سليمان الهويمل في كتابه ” المسائل النحوية في كتاب (التوضيح لشرح الجامع الصحيح) لابن المُلقِّن”، على أن (هل) مساوية للهمزة في الدخول على الأسماء والأفعال، فيقول:
“أما قولُ ابن الملقن إن (أم) لا يُعطف بها إلا بعد همزة الاستفهام، فذلك على مذهب جمهور النحويين، لكن يرى ابنُ مالك وغيره أنها تجيءُ عاطفة إن سبقتها (هل)، ومن ذلك قولُه – عليه السلام -: ” .. هل تزوجتَ بكرًا أم ثيبًا .. “، ويرى صاحبُ (فيض الباري) أن ذلك مما تفرَّد به ابن مالك.
ويمكن تخريجُ هذا على أن (هل) مساويةٌ (للهمزة) في الدخول على الأسماء والأفعال.
غير أن (الهمزة) تفرَّدت بمعادلة (أم) المتصلة، فيُطلب بها تعيينُ أحد الأمرين، و (هل) لا يطلب بها ذلك.
وما ذهب إليه ابنُ مالك جارٍ على طريقته في الاحتجاج بالحديث النبوي -كما سنورد ذلك لاحقًا- وأما ما ذهب إليه ابن الملقن فهو المقرر عند النحويين.” [المسائل النحوية في كتاب التوضيح لشرح الجامع الصحيح (ص: 170)]
كما ويؤكد ذلك الصّبّان في حاشيته وفق ما أورده النحو الوافي عنه:
“ قال الصبان في باب العطف عند آخر الكلام على همزة التسوية وما يتصل بها ما نصه: “قد تكون “هل” بمعنى “الهمزة” فيعطف “بأمْ” بعدها؛ كحديث: “هل تزوجت بكرًا أم ثيبًا”؟ ” ا. هـ كلام الصبان. {النحو الوافي (3/ 590)}
إذن، فجاءت (هل) في مثل هذا الحديث بدلا من الهمزة وبمعناها طلبا للتعيين والتصور، كما يؤكد ذلك الصبان في موضع آخر ويقول:
“نقله الدماميني على الله لمغني واستحسنه وذكر في محل آخر أن (هل) أتت لطلب التصور ندورا كما في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لجابر بن عبد الله: “هل تزوجت بكرا أم ثيبا” ثم أورد على قولهم بقية الأدوات لطلب التصور أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أو الهمزة فقط فإنها لطلب التصديق” [حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 106)]
وما يؤكد هذا أيضا وقوع (هل) بدلا من الهمزة في الحديث الشريف التالي من صحيح البخاري: {أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ} (صحيح البخاري، كتاب الإيمان) حيث ورد هذا الحديث بروايات مختلفة منها (أيزيدون أم ينقصون ؟)
وفي تفسير معناها وتأكيد ورودها بمعنى الألف للاسفهام جاء من شراح هذا الحديث ما يلي:
“(سألتُك هل يزيدون أم ينقصون). فإن قلتَ: أم متصلة أو منفصلة؟ قلتُ: متصلةٌ. فإن قلتَ: أم المتصلة تكون مع الهمزة دون هل. قلت: تقدم في أول الكتاب بالهمزة، وهنا بهَلْ موضع الهمزة، ولا ضَرَرَ في ذلك، فإن كلًّا منهما تستعمل للتصديق. فإن قلتَ: هل يجوزُ حملُها على المنقطعة؟ قلتُ: لا لأنها للإضراب ولا وجه له؛ لأنَّ هرقل بصدد الاستعلام وشرحِ الحال. [الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/ 126- 127)]
فصاحب الكوثر الجاري يأخذ (أم) على أنها متصلة ويجيز مجيئها بعد (هل).
وجاء أيضا:
“فَنَقُول قَوْله: (هَل يزِيدُونَ) وَقع هُنَا: (أيزيدون) ، بِالْهَمْزَةِ وَكَانَ الْقيَاس بِالْهَمْزَةِ، لِأَن: أم، الْمُتَّصِلَة مستلزمة للهمزة، وَلَكِن نقُول: إِن: أم، هَهُنَا مُنْقَطِعَة لَا مُتَّصِلَة، تَقْدِيره: بل ينقصُونَ حَتَّى يكون إضرابا عَن سُؤال الزِّيَادَة، واستفهاما عَن النُّقْصَان، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا مُتَّصِلَة لَكِنَّهَا لَا تَسْتَلْزِم الْهمزَة بل الِاسْتِفْهَام، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أم، لَا تقع إلاَّ فِي الِاسْتِفْهَام إِذا كَانَت مُتَّصِلَة، فَهُوَ أَعم من الْهمزَة، فَإِن قيل: شَرط بعض النُّحَاة وُقُوع الْمُتَّصِلَة بَين الإسمين. قلت: قد صَرَّحُوا أَيْضا بِأَنَّهَا لَو وَقعت بَين الْفِعْلَيْنِ جَازَ اتصالها، لَكِن بِشَرْط أَن يكون فَاعل الْفِعْلَيْنِ متحدا كَمَا فِي مَسْأَلَتنَا. فَإِن قلت: الْمَعْنى على تَقْدِير الِاتِّصَال غير صَحِيح، لِأَن: هَل، لطلب الْوُجُود، و: أم: الْمُتَّصِلَة لطلب التَّعْيِين، سِيمَا فِي هَذَا الْمقَام فَإِنَّهُ ظَاهر أَنه للتعيين. قلت: يجب حمل مطلب: هَل، على أَعم مِنْهُ تَصْحِيحا للمعنى، وتطبيقا بَينه وَبَين الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي أول الْكتاب “[عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 295)]
فصاحب عمدة القاري يرجّح كون (أم) أنها منقطعة، ولكن لا يدحض كونها متصلة ويجوّز مجيئها بعد (هل) في الاستفهام، توسعا بمعنى (هل) وأخذها على معنى الألف.
فيثبت من كل هذا جواز وصحة مجيئ (هل) بمعنى الألف للتصور والتعيين، ومجيئ أم بعدها في مثل هذه المواقع، بكونها أم المتصلة التي تفيد طلب التعيين. وعليه يثبت صحة الفقرتين الأوليين من الفقرات المعترَض عليها، على اعتبار أنها للتصور وطلب التعيين بمجيئ (أم) بعد (هل) فيها.
وأما الفقرات العشر الأخرى، فعلى فرض أنها للتعيين والتصور فيثبت كذلك من كل ما تقدم جواز وصحة استعمال (هل) فيها لهذا الغرض.
غير أننا لا نرى بالضرورة أن هذه الفقرات قد جاءت لطلب التعيين والتصور، بل قد تكون جاءت بهدف التصديق بنعم أو ولا، ولذا جاء فيها العطف بـ (أو) على اعتبار أن المسيح الموعود عليه السلام لا يدّعي مسبقا (على سبيل الفرض والجدل) وقوع أي جزء من أجزاء السؤال، أو أنه ينزله منزلة ما لم يتحقق فيعطف بأو طلبا للتعيين. وقد أسهبنا الإجابة على هذا الموضوع في جواز العطف بأو بعد ألف الإستفهام في مقالات سابقة يمكن الرجوع إليها وهي مظاهر الإعجاز 78 و79 على الروابط التالية:
جواز العطف بـ (أو) في الاستفهام في كل حالة جاز بها الاقتصار على أحد الأمور التي بعد أداة الاستفهام
نكتة الخلط بين أم التعيينية وأو التشكيكية..4
وملخصها، جواز العطف بأو في كل استفهام جاز فيه الاقتصار على أحد الأمور المذكورة بعد الهمزة أو (هل)، ليكون معنى السؤال:أحدث/ هل حدث شيء من هذه الكينونات؟ وذلك عندما لا يجزم السائل بوقوع أحدها مسبقا، فيسأل عن حدوث أحدها.
فعلى سبيل المثال، عندما يقول المسيح الموعود عليه السلام :
- هل هو فعلُ الله تعالى أو كيد المفترين؟ (كرامات الصادقين)
فإن حضرته يتخذ موقف الحياد مسبقا ولا يجزم (على سبيل المحاججة والجدال) أن الأمر هو أحد الأمرين:فعل الله أو كيد الكائدين؛ ليدَعَ المخاطب يقرر هل أحد هذين متحقق، وكأنه يسأل سؤالين من الممكن الاقتصار على أحدهما فيقول:هل هو فعل الله؟ هل هو كيد الكائدين؟ وما على المخاطب إلا أن يجيب بنعم أو لا. فالموضع إذن، قد يكون موضع تصديق وليس تصور.
ومن الممكن أن يكون هدف المسيح الموعود عليه السلام طلب التعيين، بإقراره وقوع أحد الأمرين مسبقا ولكنه ينزّله منزلة ما لم يحدث ولم يتحقق لسبب أو آخر عنده، وفي هذه الحال يجوز العطف بـ (أو) أيضا.
فالأمر متعلق بنية المسيح الموعود عليه السلام.
وفي ما يماثل هذا جاء عن أبي السعيد السيرافي مفسرا أقوال سيبويه:
“وقوله: ” هل تأتينا أو تحدثنا؟ بمنزلة: ” هل تأتينا؟ ” لأنه سؤال واحد.
فإذا قلت: ما أدري هل تأتينا أو تحدثنا؟ أو: ليت شعري هل تأتينا أو تحدثنا؟
فكأنك قلت: هل تأتينا؟ وسكت لأنها كلام واحد.
وفي دخول هل في: ليت شعري هل تأتينا؟
أو في: ما أدري هل تأتينا؟ حدوث معنى ” أخبرني ” أو ” أعلمني ” كما أن قولك:
هل تأتينا بمعنى أخبرني و ” أعلمني “. {شرح كتاب سيبويه (3/ 422)}
ويقول:
“وإنما يريد أن (أو) يُعطف بها في هذه المواضع، لأنه قد يجوز الاقتصار على الكلام الأول لو قلت: ليتَ شعري هل تأتينا، جاز…. ثم قال سيبويه: فجرى هذا مجرى قوله عزْ وجل (هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون). وقال زهير:
(ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى … من الأَمرِ أو يبدو لهم ما بدا ليا) ” {شرح أبيات سيبويه (2/ 117 – 116)}
فمتى جاز الاقتصار على الكلام الأول جاز العطف بـ (أو). وهو ما ينطبق على الفقرات أعلاه.
ومن هنا يتضح أن اعتراض المعترضين مبني على جهل مدقع في فقه هذه اللغة. فقد ظنوا أن الفقرات العشر الأخيرة هي مواضع تصور وتعيين ولكنها ليست بالضرورة كذلك. ولكننا نقول: إن كانت مواضع تعيين وتصور فقد أثبتنا جواز وصحة وقوع (هل) فيها بدلا من الهمزة بناء على كل ما تقدم أعلاه.