المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..21

حمل المثنى على معنى الجمع لكون المثنى جمعا في الأصل أو للتعظيم..


أعجمة هذه يا أعاجم العرب!؟

المقدمة:

اعترض البعض على الفقرة التالية من كتاب “إتمام الحجة” للمسيح الموعود عليه السلام:

وأما الحَكم فلا بد من الحَكمَين بعد جمع العَين… فإن جعلتَ حَكَمَين كاذبَين، فنقبلهما بالرأس والعين…وعليهما أن يحلفوا إظهارًا لصدق المقال” (اتمام الحجة)

وقيل بأن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في قوله “يحلفوا” إذ أعاد ضمير الجمع فيها وهو واو الجماعة إلى المثنى “حكمين”. وقيل أن السبب في ذلك قلة تمرس المسيح الموعود عليه السلام باللغة العربية وعدم امتلاكه لناصية اللغة وللعجمة في كلامه.

البحث والتفصيل:

الحق أنه بعد الفحص في المصادر اللغوية، يتضح أن لا خطأ في كل هذا. بل إن أسلوب معاملة المثنى كالجمع أو حمله على معناه وارد في اللغة وأقرّ به أكابر اللغويين والنحويين أمثال سيبويه والخليل والمبرّد؛ ويشهد على صحته وبلاغته القرآن الكريم بنفسه، كما سنمثّل لذلك بآيات قرآنية تضمنت نفس هذا الأسلوب.

ويعود الأمر إلى اختلاف اللغويين والنحويين حول كون المثنى جمعا أم لا، وهل المثنى أول الجمع وأقلّه، وذلك لأن المثنى ضمّ شيء إلى شيء وكذلك الجمع.

ونظرا لهذا الخلاف الدائر، نجد أن كبار النحويين مثل سيبويه والخليل يرون أن المثنى جمع، ووافقهم المبرد على ذلك بقوله أن أصل المثنى هو الجمع، بمعنى أن كلاهما جمع شيئ لآخر.فقد جاء في الكتاب لسيبويه ما يلي:

وسألتُ الخليل رحمه الله عن: ما أحسنَ وجوهَهما؟ فقال: لأن الاثنين جميعٌ، وهذا بمنزلة قول الاثنين: نحن فعلنا ذاك، ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفردا وبين ما يكون شيئا من شيء. وقد جعلوا المفردين أيضاً جميعاً، قال الله جلّ ثناؤه: ” وهل أتاكَ نبأ الخصمِ إذ تسوروا المِحرابَ. إذ دخلوا على داودَ ففزِعَ منهم قالوا لا تخَفْ خَصمانِ بَغى بعضُنا على بعض “.

وقد يثنُّون ما يكون بعضاً لشيء. زعم يونس أن رؤية كان يقول: ما أحسنَ رأسيهما. قال الراجز، وهو خِطام: ظَهرْاهما مثلُ ظهورِ التُّرسَين” (إ.ه) {الكتاب لسيبويه (2/ 48)}

وجاء في كتاب “المقتضب” للمبرّد الذي يرى أن أصل التثنية هو الجمع ما يلي:

وَلَو أَرَادَ مُرِيد فِي التَّثْنِيَة مَا يُريدهُ فِي الْجمع لجَاز ذَلِك فِي الشّعْر لِأَنَّهُ كَانَ الأَصْل لِأَن التَّثْنِيَة جمع وَإِنَّمَا معنى قَوْلك جمع أَنه ضم شَيْء إِلَى شَيْء فَمن ذَلِك قَول الشَّاعِر

(كأَنَّ خُصْيَبْهِ مِنَ التَّدّلْدُلِ … ظَرْفُ جِرَابٍ فِيهِ ثِنتْا حَنْظَلِ)” {المقتضب (2/ 156)}

ووافق على ذلك وأكّده أبو حيان في تفسيره للآية:

{قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (16)} (الشعراء 16)

حيث أقرّ بقول سيبويه مضيفا إليه سبب أخذ سيبويه بمعاملة المثنى كالجمع وهو للتشريف والتعظيم، حيث جاء:

وَمَعَكُمْ، قِيلَ:

مِنْ وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْمُثَنَّى، أَيْ مَعَكُمَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْجَمْعِ، والمراد مُوسَى وَهَارُونُ وَمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِصُورَةِ الْجَمْعِ الْمُثَنَّى، وَالْخِطَابُ لِمُوسَى وَهَارُونَ فَقَطْ، قَالَ: لِأَنَّ لَفْظَهُ مَعَ تَبَايُنِ مَنْ يَكُونُ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ اللَّهُ مَعَهُ. وَعَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ، حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَأَنَّهُمَا لِشَرَفِهِمَا عِنْدَ اللَّهِ، عَامَلَهُمَا فِي الْخِطَابِ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْوَاحِدُ لِشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ. ( إ.ه){ البحر المحيط في التفسير (8/ 144-145)}

وجاء في معاني القرآن وإعرابه للزجاج في هذا الصدد ما يؤكده:

وكان الأصل أن يقال اثْنا رِجال، ولكنْ ” رجلان ” يدل على جنس الشيء وعدده، فالتثنية يحتاج إِليها للاختصار، فإِذا لم يكن اختصار رُدَّ الشيءُ إِلى أصْله، وأصلُهُ الجمع…

قال الشاعر:

ظهراهما مثل ظهور الترسين.

فجاءَ بالتثنيةِ والجمع في بيت واحد.

وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد والذي ليس من شيء إِذا أردت به التثنية. وحُكِيَ عن العرب: ” وَضَعَا رِحالهما ” يريد رَحْلَيْ راحِلتِهما.” (إ.ه) معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 173)

ووافق الطبري على كل هذا بإقراره أن التثنية جمع عند بعض النحويي،ن حيث جاء في تفسيره للآية: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ .. (11) ما يلي:

…فقيل”إخوة” في معنى”الأخوين”، كما قيل”ظهور” في معنى”الظهرين”، و”أفواه” في معنى”فموين”، و”قلوب” في معنى”قلبين”. وقد قال بعض النحويين: إنما قيل”إخوة”، لأن أقل الجمع اثنان. وذلك أن ذلك ضم شيء إلى شيء صارا جميعًا بعد أن كانا فردين، فجمعا ليعلم أن الاثنين جمع.” (إ.هـ) {تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (7/ 43)}

وأكّد عباس حسن ما أكّده الطبري من كون المثنى جمعا عند بعض اللغويين، حيث جاء في النحو الوافي :

وقد يكون المراد عند اللغويين من الاسم المجموع- اثنين، لأن الجمع في اصطلاحهم يطلق على الاثنين، كما يطلق على ما زاد على الاثنين ويؤيد هذا شواهد كثيرة فصيحة، في مقدمتها القرآن. قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} وقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} وقول أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه الخمسة الذين ماتوا بالطاعون:

العين بعدهمو كأن حداقها … سملت بشوك، فهي عورا تدمع

فأطلق الجمع في قوله: حداقها – وهي جمع: “حدقة” وأراد الاثنين “كما جاء في حاشية ياسين على التصريج ج2 أول باب المضاف لياء المتكلم” وانظر رقم2 من هامش 137 ثم “ز” من ص160“. (إ.هـ) {النحو الوافي (1/ 119)}

وأما الدكتور ابراهيم السامرائي فقد أكّد في كتابه “فقه اللغة المقارن” بأن المثنى في النصوص القديمة لم يكن ثابتَ الصورة في إسناد الفعل إليه، إذ لم يتحمّل الفعل ضمير المسند أليه على هيأة التثنية دائما،حيث قال:

ولكننا لو فحصنا أقدم النصوص العربية التي يُطمأن إلى صحتها ومن هذه نصوص القرآن الكريم، لرأينا أن المثنى لم يكن ثابت القواعد محدود الصورة في هذه النصوص. فهناك تردد وترجح في صيغة المثنى نفسه وفي صيغة الفعل الذي أسند أليه فلم يحتمل هذا الفعل ضمير المسند إليه على هيأة التثنية..” (فقه اللغة المقارن ص 80-81)

وتابع الدكتور إبراهيم في عرض بعض الأمثلة من القرآن الكريم التي تم فيها المطابقة بين المثنى والضمير العائد إليه، وكذلك آيات أخرى لم تتم فيها هذه المطابقة. ومن الآيات التي لم تتم فيها المطابقة ما يلي:

{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج 20)

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (الحجرات 10)

{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (12)} (فصلت 12)

وخلص الدكتور إبراهيم السامرائي إلى النتيجة التالية:

ونستطيع أن نخلص من ذلك إلى أن العربية القديمة حتى زمن القرآن وما بعد ذلك بقليل لم تكن تراعي المثنى من حيث ما يسمى في نظام تأليف الجمل ( syntaxe). وعدم المراعاة ربما جاءت من أن المثنى داخل في حيّز الجمع وبذلك عومل في أمثلة كثيرة من القرآن الكريم كما ظهر في عرضنا للآيات.” ( فقه اللغة المقارن ص 83)

النتيجة:

– اختلف النحويون في أمر المثنى أهو جمع أم لا؟ وهل هو أول الجمع أم لا؟

– يرى كبار النحويين والمفسرين مثل الخليل وسيبويه والمبرّد وأبو حيان والطبري وبعض النحويين الآخرين، أن المثنى جمع، وأن أصل المثنى هو الجمع.

– لذلك ممكن أن يُحمل المثنى على معنى الجمع انطلاقا من أن المثنى جمع بذاته أو أن الجمع أصل له.

– كذلك يُحمل المثنى بمعنى الجمع للتشريف والتعظيم كما ذهب إليه سيبويه وأبو حيان.

– إسناد الفعل إلى المثنى وإعادة الضمير إليه لم يكن ثابت الصورة في النصوص القديمة بل كان يعاد إلى المثنى بضمير الجمع أيضا.

– معاملة المثنى بصيغة الجمع ثابت في العديد من الآيات القرآنية مما يثبت فصاحة وبلاغة هذا الأسلوب.

– وبناء على كل هذا يثبت صحة ما جاء عن المسيح الموعود عليه السلام في إعادته ضمير الجمع إلى المثنى في الفقرة المذكورة أعلاه؛ وقد جاءت صحة هذا الاستعمال من بابين: الأول من منطلق اعتبار المثنى جمعا في الأصل، ويصح التعامل معه بصيغة الجمع واسناد الفعل إليه بصيغة الجمع وإعادة الضمير إليه بهذه الصيغة. والثاني: من منطلق معاملة المثنى معاملة الجمع للتعظيم والتشريف. حيث إن الحديث في الفقرة المذكورة أعلاه من كتاب “إتمام الحجة” تتحدث عن “حكمين”، فتعظيما وتشريفا لهما أعاد حضرته عليه السلام الضمير إليهما بصيغة الجمع فقال “أن يحلفوا” بدلا من ” أن يحلفا”.

– ثبت بناء على هذا أن حمل المثنى على معنى الجمع ما هي إلا لغة عربية قرآنية بليغة وفصيحة علّمها الله تعالى للمسيح الموعود عليه السلام، مصداقا لمعجزة حضرته عليه السلام في تعلمه أربعين ألف لغة من اللغات العربية في ليلة واحدة من الله تعالى. وجاءت كشاهد آخر على قول حضرته :”وإني أُيّدتُ من الله القدير، وأُعطيت عجائب من فضله الكثير. ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين.” ( مكتوب أحمد)

– وثبت بعد كل هذا أن لا عُجمةَ قط في ما قاله المسيح الموعود عليه السلام، وأنه لن يأتي بهذه النكات الأدبية إلا الذي ملك ناصية اللغة وكان من المتبحرين في اللغة بفضل تعليم الله تعال له كل هذه الغات.

وفي النهاية نقول: أعجمة هذه يا أعاجم العرب!؟؟