المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية..66

أهي فاء عابثة أم فاء هادفة ..3

صحة وفصاحة جواب الشرط المضارع لفعل الشرط الماضي

الاعتراض:

في سياق اعتراض المعارضين على الفاء الداخلة على الفعل المضارع في جواب الشرط، في كلام المسيح الموعود عليه السلام، كما في الجملة التالية:

  • ثم إذا صبا إلى ثدي الأُمّ للرضاع، فيُسمَّى صبيًّا. (منن الرحمن)

أومأ المعارضون إلى خطأ أن يكون الفعل في جملة جواب الشرط مضارعا، في حال كون فعل الشرط الذي سبقه ماضيا؛ وقاموا بتصحيح هذه الأفعال المضارعة في الجملة أعلاه وأشباهها ووضعها بصيغة الماضي؛ كما يلي:

  • ثم إذا صبا إلى ثدي الأُمّ للرضاع، سُمّيَ صبيًّا. (منن الرحمن)

ووفق تصحيحيهم وجهلهم هذا، فلا بدّ أن يستوي فعل الشرط وجواب الشرط في زمنهما. وإن وردا متخالفين فهذا خطأ.

الردّ:

المقدمة:

لقد أثبتنا في المقال السابق صحة دخول الفاء على الفعل المضارع في جواب الشرط بشكل عام. وأما بالنسبة لورود فعل الشرط وجواب الشرط مختلفين في الزمن، فهو أمر جائز صحيح فصيح بل وبليغ لوروده في القرآن الكريم وحي الله تعالى والذي يُعد أسمى درجات البلاغة والفصاحة، وكذلك لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن زوجه عائشة رضي الله عنها. فأي حديث بعد هذا تنتظرون!؟

البحث والتفصيل:

تعالوا لندع ابن مالك يدحض هذا الاعتراض ببيت واحد من ألفيته، حيث تحدث عن فعل الشرط وجوابه من حيث زمنهما فقال:

وماضيين أو مضارعين … تلفيهما، أو متخالفين

ويدحض النحو الوافي بدوره هذا الاعتراض بما يلي: ((يُرجى التركيز على ما بين الأقواس المزدوجة))

أحكام عامة تختص بجملتي الشرط والجواب معا:

– ما يختص بهما من ناحية نوعهما، وكيفية إعراب فعلهما:

جملة الشرط لا بد أن تكون فعلية، وفعلها وحده هو فعل الشرط -كما عرفنا؛ سواء أكانت ماضوية أم مضارعية. فلها من هذه الناحية صورتان، أما جملة الجواب فقد تكون فعلية -ماضوية أو مضارعية- وقد تكون اسمية بشرط اقترانها بالفاء، أو ما يخلفها، طبقات لما سبق.

((والصور السالفة كلها صحيحة، قياسية. ولكنها -مع صحتها- مختلفة الدرجة في قوة الفصاحة والسمو البلاغي، فبعضها أقوى وأسمى من الآخر؛ تبعا لنصيبه من كثرة الاستعمال الوارد في الأساليب العالية المأثورة. وقد يختلف هذا الوارد في ضبط المضارع وإعرابه.))

… وفيما يلي ترتيب درجاتها.

الأولى: أن يكون الفعلان مضارعين أصيلين مجزومين، لفظا بأداة الشرط لأن أحدهما فعل الشرط، والثاني هو فعل الجواب المباشر؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} .

الثانية: أن يكون الفعلان ماضيين لفظا؛ فيبنيان لفظا ويجزما محلا …ومن الأمثلة: من أسرف في الأمل، قصّر في العمل، وقول الشاعر:

ومن دعا الناس إلى ذمه … ذموه بالحق وبالباطل

وقول الآخر:

إن اللئام إذا أذللتهم صلحوا … على الهوان، وإن أكرمتهم فسدوا

ويدخل في هذه الدرجة: الماضي معنى دون لفظ -وهو المضارع المسبوق بالحرف “لم”؛ نحو: إن لم تتأهب للأعداء لم تتغلب عليهم ..

الثالثة: ((أن يكون فعل الشرط ماضيا -ولو معنى (يقصد المضارع المسبوق بلم الجازمة الذي تحوّله ماضيا معنى)- وفعل الجواب مضارعا أصيلا كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} . فالماضي مبني في محل جزم، والمضارع المجرد مجزوم مباشرة. ومثل؛ من لم يغتنم الفرصة يعاقب بالحرمان، ويجوز رفع المضارع، وهذا حسن، ولكن الجزم أحسن …))

الرابعة: أن يكون فعل الشرط مضارعا أصيلا مجزوما، وفعل الجواب ماضيا -ولو معنى- وهذه الصورة أضعف الصور؛ حتى خصّها بعض النحاة بالضرورة الشعرية، ولكن الصحيح أنها ليست مقصورة على الشعر، وإنما تجوز في النثر مع قلتها. ومن أمثلتها نثرا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له”. وقول عائشة عن أبيها وهي تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن أبا بكر رجل أسيف؛ متى يقم مقامك رق”. ومن أمثلتها شعرا قول القائل يمدح ناصره:

من يكدني بسيئ كنت منه … كالشجا بين حلقه والوريد

وقول الآخر في أعدائه:

إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا … مني، وما يسمعوا من صالح دفنوا … ” (إ.هـ){“النحو الوافي (4/ 473- 47)}

الخلاصة والنتيجة:

وبناء على ما أوردناه من النحو الوافي يتضح ما يلي:

– ورود جواب الشرط مضارعا مع فعل الشرط الماضي، جائز صحيح فصيح وبليغ؛ لوروده في القرآن الكريم، وإن كان تصنيف هذه الحالة ثالثة بين الدرجات الأربع من حيث قوة بلاغتها وفصاحتها ورواجها.

– من الأمثلة القرآنية عليها: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (الشورى 21) والآية: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } (المائدة 96)

– إذا كانت هذه الصيغة واردة في القرآن الكريم، أعلى مستويات البلاغة والفصاحة، فمن ذا الذي يجرؤ على القدح في فصاحتها وبلاغتها؛ إلا جاهل بعيد كل البعد عن القرآن الكريم وأسراره ولغته وبلاغته وفصاحته.

– وكما رأينا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة رضي الله عنها، قد تكلما باللغة الرابعة التي تُعد أدنى درجة في الفصاحة مقارنة بالحالات الثلاث الأولى، ووفق هذه اللغة الرابعة يكون فعل الشرط مضارعا وجوابه ماضيا؛ فهل يحق لأحد أن يقدحَ بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تحدث بهذه اللغة؟ الحقيقة أنه لا يجرؤ على ذلك إلا جاهل متهور لا يفقه معنى الفصاحة والبلاغة البتة.

– وبذلك يثبت من جديد صحة وفصاحة وبلاغة الفقرات من كلام المسيح الموعود عليه السلام، والتي اعترض عليها من غرق في بحر الجهل، والتي جاء فيها جواب الشرط مضارعا لفعل شرط ماض، وهي الفقرات التالية.

  • ثم إذا صبا إلى ثدي الأُمّ للرضاع، فيُسمَّى صبيًّا . (منن الرحمن)
  • ثم إذا فكرت في سورة ليلة القدر فيكون لك ندامة وحسرة أزيد من هذا. (حمامة البشرى، ص 138)
  • ثم إذا ظهرت براءته وأنارت حجته، فيرجعون إليه متندمين. (حمامة البشرى)
  • ثم إذا دقّقتَ النظر وأمعنت فيما حضر، فيظهر عليك أن … (نور الحق)
  • فإذا رزقوا من تلك الحواس فيتحلون بحلل مبتكرة، ويسمعون أغنية جديدة. (التبليغ)
  • فإذا ظهر لأحد منهم أن تلك الشرور والمفاسد من بغي أمّته، فيضطر روحه اضطرارًا شديدًا. (التبليغ)
  • “فإذا تم أمر التوهين والتحقير والإيذاء، فيتموّج حينئذ غيرةُ الله لأحبّائه من السماء” (حجة الله، ص 111).
  • “إذا كانت مغمورة في حُبّ شيء من المطلوبات، فتنسى أشياء يخالفه (سر الخلافة، ص 5).
  • وإذا رسخوا في جهلهم فتدخُل العثرات في العادات” (سر الخلافة، ص 6).
  • وإذا كُشف عليهم مِن سرٍّ فتزدري أعينهم ويظنون ظن السوء ويكفرون (التبليغ، ص 50).
  • – إذا تقرر هذا فيلزم منه أن تبقى كل سماء من العرش إلى السماء الدنيا خالية عند نزول الله تعالى على الأرض (حمامة البشرى، ص 145).

وقد أقر المعارضون بأن أمثال هذه الفقرات قد يبلغ المئات في كلام المسيح الموعود عليه السلام وقد لا تحصى الأمثلة عليها؛ فبذلك نكون قد دحضنا مئات الاعتراضات التي لا تُحصى في هذا الصدد.

ويثبت أن هذه اللغة، من وقوع جواب الشرط مضارعا لفعل الشرط الماضي لهي مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي في لغة المسيح الموعود العربية، ولغة من أربعين ألف لغة تعلمها حضرته عليه السلام في ليلة واحدة من الله العلام، وتجل جديد لمعجزة حضرته اللغوية.