#فصل الكلام في غريب ألفاظ الإمام..(2)

توكيد النكرة بين المنع المطلق والجواز المطلق والحمل على غير التوكيد..2

التخريج الأول لتوكيد النكرة:

ذكرنا في الحلقة الماضية الفقرات التالية من كتابات سيدنا أحمد عليه السلام المسيح الموعود والمهدي المعهود:

  • وإذا غلب المسيح فاختتم عند ذلك ((محارباتٍ كلها)) التي كانت جارية بين العساكر الرحمانية والعساكر الشيطانية. (الخطبة الإلهامية)
  • رؤوفٌ رحيمٌ كهفُ ((أممٍ جميعها)). (كرامات الصادقين)
  • وكان قوله خيرا من ((أقوال كلها)). (حمامة البشرى)
  • قد سمع مني هذا الكشف بمقام “هوشياربور” قبل موت “أحمد”، بل قبل إشاعة ((واقعاتٍ كلّها))، رجلٌ مِن وُلْدِ شيخ صالح غزنوي. (مكتوب أحمد)

وقلنا إن التعابير الواردة فيها بين أقواس مزدوجة تبدو غريبة وخارجة عن المألوف في لغتنا العربية الفصحى الرائجة في عصرنا هذا، من حيث توكيد النكرة فيها بألفاظ التوكيد المعنوي ” كل” و” جميع”، وهو أمر لا يتفق مع قواعد النحو المعروفة لنا.

وكنا قد أثبتنا أنه لا يمكن أن تكون هذه التعابير نابعة من تأثير العجمة أو اللغة الأردية والفارسية، وقلنا إن أقصى ما يمكن “لمسيئ الظن” أن يعزو هذه الغرابة إلى السهو والغفلة من الكاتب أو الناسخ. وأقوال “مسيء الظن” وليس ” محسن الظن”، لأن الذي يعزو هذه التعابير الغريبة إلى السهو بتسرع  ودون تفحص وتحرٍّ فإنه قد يقع في سوء الظن من حيث لا يدري.

فأقول للإخوة الأحمديين: حذار ثم حذار من التسرع في الحكم على غريب اللفظ من كتابات حضرته عليه السلام، بالقول إن مردّها إلى السهو دون تفحص الأمر، إذ إن الذي يحسن الظن بالمسيح الموعود عليه السلام، لا بدّ له بادئ الأمر أن يعتبرها صحيحة ويعزوها إلى تخريج لغويّ غير مألوف في عصرنا هذا، أما السهو فهو آخر ما يمكن اللجوء إليه في تبرير هذه الغرابة في هذه الألفاظ، إذا لم نستطع بعد جهد جهيد من تخريج هذه الألفاظ لغويا.

وأما رأيي في الفقرات التي أوردناها والتي هي قيد البحث، هو أنه لم يحدث أي خطأ في هذه الفقرات وهذه الألفاظ، لا خطأ متعمَّد ولا عفوي، لا خطأ في النقل والنسخ من الكاتب ولا غفلة من الكاتب، بل إن كل هذه الألفاظ لهي ألفاظ عربية صحيحة تندرج تحت لغة من لغات العرب، التي يأخذ بها بعض النحويين وإن لم يكن جميعهم.

فماذا يكون تخريجها إذن؟

أولا تخريجها على التوكيد:

لقد اختلف النحاة في مسألة توكيد النكرة، وقد ظهر هذا الاختلاف بجلاء بين البصريين والكوفيين وقد لخّص هذا الاختلاف ابن مالك في ألفيته حيث قال:

وإن يُفِد توكيد منكور قُبِل … وعن نحاة البصرة المنع شمل

وقد فسر  المالكي قول ابن مالك هذا في كتابه “ توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك ” حيث جاء فيه :

مذهب الكوفيين والأخفش جواز توكيد النكرة إذا كانت مؤقتة “وأجاز بعض الكوفيين مطلقا مؤقتة كانت، أو غير مؤقتة”، ومنع ذلك البصريون وإلى الجواز ذهب المصنف؛ لإفادته ولورود السماع به.

ثم جاء في كتاب : “شرح شذور الذهب للجوجري” ما يلي:

“اختلف هل يجوز توكيد النكرة أم لا؟

وفي الحاشية قال المؤلف:

في هذه المسألة ( يقصد توكيد النكرة) ثلاثة أقوال، ذكر منها الشارح قولين ( يقصد منع البصريين المطلق، والجواز عند الكوفيين إن أفادت النكرة) والثالث هو جواز تأكيد النكرة مطلقا، وهو قول بعض الكوفيين.

وقد جاء تأكيد ما ذُكر أعلاه في كتاب “الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين” للأنباري كما يلي:

“وقد بيّن ابن هشام الصحيح من المذهبين بإيجاز في قوله: “وإذا لم يفد توكيد النكرة لم يجز باتفاق، وإن أفاد جاز عند الكوفيين، وهو الصحيح، وتحصل الفائدة بأن يكون المؤكد محدودًا والتوكيد من ألفاظ الإحاطة، كاعتكفت أسبوعًا كله، وقوله:

يا ليت عدة حول كله رجب.ا. هـ.”

فمما جاء في هذه الاقتباسات نخلص إلى ثلاثة أقوال في توكيد النكرة وهي:

  • عند البصريين لا يجوز توكيد النكرة مطلقا.
  • عند الكوفيين والأخفش وابن مالك وابن هشام يجوز توكيد النكرة بشرط الإفادة ، وتتحقق الإفادة بكون النكرة محدودة ولفظ التوكيد المعنوي يفيد الإحاطة والشمول مثل، كل وجميع وعامة.
  • أجاز بعض الكوفيين توكيد النكرة على الإطلاق سواء أفادت أم لم تفد، وهو القول الأقل شيوعا.
  • وهنا نقول: بما أن هناك عددا من نحويي الكوفة أجازوا توكيد النكرة على الإطلاق دون قيد أو شرط، فقد قُضي الأمر الذي فيه تستفتون من ناحية أُولى ووفق تخريج أوّل. وثبُت أن توكيد النكرة مطلقا، سُمع عن العرب وأجازه بعض النحويين وإن كانوا قلة، وثبُت أنها لغة من لغات العرب وإن لم تكن شائعة.
  • وثبت بذلك صحة العبارات الغريبة التي أوردناها أعلاه من كتابات المسيح الموعود عليه السلام، والتي أُكّدت فيها النكرة توكيدا معنويا، وثبت أنها لغة من أربعين ألفا من اللغات العربية التي علمها الله تعالى للمسيح الموعود عليه السلام.
  • وثبت بذلك صدق المسيح الموعود عليه السلام بقوله إن الله تعالى علمه أربعين ألفا من اللغات العربية، وثبتت معجزة المسيح الموعود في تعلمه اللغة العربية من الله تعالى في ليلة واحدة.

ومما يجدر الإشارة إليه هو أن من أدلة الكوفيين على إمكانية توكيد النكرة إذا أفادت هو ورودها في الأبيات التالية:

يا ليت عِدَّةَ حَوْلٍ كلِّهِ رَجَبُ

يومًا جديدًا كله مطردًا”

قد صَرَّتِ البكرة يومًا أجمعا

ورغم ذلك، استماتَ البصريون في ردّ هذه الأبيات جملة وتفصيلا والتشكيك فيها وفي رواياتها من أجل الدفاع عن موقفهم الصارم المتزمت وغير العقلاني، الذي لا يجيز توكيد النكرة إطلاقا. ورغم استماتتهم هذه فلم يقتنع بأقوالهم لا ابن مالك ولا ابن هشام ولا الأخفش ولا نحويو الكوفة حيث أجازوها عند إفادة النكرة.

ولعل هذا الاختلاف عيّنة بسيطة، تُظهر مدى صدق المسيح الموعود عليه السلام، الذي قال بأن مذهبه هو أن علماء الصرف والنحو غير معصومين عن الخطأ، ولم يصِلوا إلى كل القواعد الصرفية والنحوية الصحيحة، وفي قوله إن قواعد الصرف والنحو بحر لا شاطئ له.