المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..138

كافّةُ الناس أم الناس كافّةً

الاعتراض :

  • تستعمل كلمة كافة بمعنى (كل) و(جميع) فقط إذا وقعت بعد الاسم كالقول: (الناس كافة)، وتكون بذلك حالا منصوبة، كما في الآية الكريمة {وما أرسلناك إلا للناس كافة}، أما إذا جاءت قبله (كافة الناس) فهي لا تكون بهذا المعنى، بل تعني المنع.
  • خطّأ الرضي استعمال (كافة) بمعنى (كل) عند وقوعها قبل الاسم اي (كافة الناس)، واعتبرها لغة عربية غير موثوق بها.
  • يجيز بعض اللغويين استعمال (كافة) مضافة للاسم بمعنى (كل) وليست حالا (كافة الناس)، استنادا على قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه “لكافة المسلمين” في رسالته التي أرسلها لبني كاكلة؛ إلا أن هذه الرسالة غير موثوق بها ولا يمكن الاعتماد عليها لإجازة هذه الاستعمال.
  • على اعتبار جواز هذا الاستعمال (كافة الناس) إلا انه ليس فصيحا، وليس بمستوى فصاحة القرآن الكريم. لأنها لم ترد كذلك في القرآن الكريم.
  • هذه الكلمة لا يدخلها اللام فلا يقال (جاءت الكافة).

لذا فقد أخطأ المسيح الموعود عليه السلام، في استعماله كلمة (كافة) مضافة للاسم وبمعنى (كل) كقوله (كافة الناس) ، وإن جاز ذلك فهي ليست فصيحة ولا ترقى لفصاحة القرآن الكريم. وقد جاء هذا الخطأ في المواضع التالية:

1: ووالله إني مأمور من الله الذي أرسل نبينا وسيدنا محمدا المصطفى صلى الله عليه وسلم لهداية كافة الناس. (التبليغ)

2: واعلم أن هذه القصائد معروفة بغاية الاشتهار كالشمس في نصف النهار، وقد أجمع كافة الأدباء وجهابذ الشعراء على فضلها. (نور الحق)

3: وإنه عِلْمٌ لساعةِ كافّةِ الناس كما كان عيسى عِلْمًا لساعة اليهود. (الخطبة الإلهامية)

4: فَلا تَغْفَلُوا عَنْ هذا الْمَقَامِ يَا كَافَّةَ الْبَرَايَا. (الخطبة الإلهامية)

5: ولذلك ألزمَ الله كافّةَ أهل الملّة، أن يقرأوا لفظ “الرجيم” قبل قراءة الفاتحة وقبل البسملة (إعجاز المسيح)

6: وجعلهم وُرثاء كافّةِ المرسلين. (ترغيب المؤمنين)

7: وهو يطلب عبارات من مثله من جميع الألسن وكافّة البريّة. (مكتوب أحمد)

8: فهذا إعجازُ نبيّنا ومعجزةُ الفرقان الكريم لكافّة البريّة. (نجم الهدى)

الرد:

أولا نقول إنه إذا كان من بين اللغويين من يخطّئ استعمال (كافة) مضافة للاسم بمعنى (كل) [كافة الناس] ، فهذا رأيه. إلا أننا لسنا ملزمين بالأخذ برأيه طالما أن هناك العديد من النحاة الآخرين الذين جوّزوا هذا الاستعمال كما يتبين من المصادر التالية :

يقول صاحب النحو الوافي ما يلي:

“وبمناسبة الكلام على: “كافة” يذكر أكثر اللغويين والنحاة ألفاظًا لا تستعمل إلا منصوبة على “الحال”، ومنها: “كافة” و”قاطبة” غير أن “الصبان” سجل في باب: “الحال” جـ 3 عند الكلام على الآية السابقة استعمال “كافة” مجرورة ومضافة في كلام عمر بن الخطاب ونصه:

“قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة المسلمين لكل عام مثنى مثقال ذهبًا إبريزًا”.

وعرض الصبان بعد ذلك لتفصيلات أخرى تختص بهذه الكلمة، وباستعمالها.

وعلى هامش القاموس المحيط جـ 3 مادة: “كف” نص منقول عن شرح القاموس يجيز استعمال هذه الكلمة مقرونة بأل، أو مضافة، وأن رفض هذين الاستعمالين لا مسوغ له، ونصّ كلامه: “ما رفضوه ردّه الشهاب في شرح الدرة، وصحح أنه يقال، وإن كان قليلًا”. ا. هـ.. [النحو الوافي (2/ 379)]

وجاء في حاشية الصبان :

“لكن اعترض بأن كافة مختص بمن يعقل وبالنصب على الحال كطرّا وقاطبة. وأجيب بنقل السيد عبد الله في شرحه على اللباب عن عمر بن الخطاب أنه قال: قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا كتبه عمر بن الخطاب. ختمه كفى بالموت واعظا يا عمر. قال: وهذا الخط موجود في آل بني كاكلة إلى الآن.”[حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 263)]

ويلخص لنا الدكتور إميل بديع يعقوب مسألة (كافة الناس) في معجم الخطأة والصواب ويقول:

“يخطّئ الحريري وإبراهيم المنذر وعباس أبو السعود ومازن المبارك وأمين آل ناصر وغيرهم، من يضيف “كافة” إلى ما بعدها، أو يستعملها معرفة بـ “أل” كأن يقول: “جاء كافة الناس” أو “حضرت الكافة”، بحجة أن كلمة “كافة” لم تستعمل بالعربية إلا منصوبة على الحال، استنادا إلى الآية: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (سبأ 29)، والآية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ك} (التوبة 36)، وغيرها.

ولكن وردت الكلمة (كافة) مضافة في رسالة عمر بن الخطاب إلى بني كاكلة حيث يقول:” قد جعلت لآل بني كاكلة على ((كافة المسلمين)) لكل عام مئتي مثقال ذهبا إبريزا “. ولما آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب، عرض عليه الكتاب، فنفذ لهم ما فيه، وكتب بخطه:” لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون. أنا أول من اتبع أمر من أعز الإسلام، ونصر الدين والأحكام، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورسمت لآل بني كاكلة بمثل ما رسم”. ذكر ذلك سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد، وقال: “الخط موجود في بني كاكلة إلى الآن” . ويكفي أن يستعمل عمر بن الخطاب كلمة “كافة” مضافة، ثم يقرّه على هذا الاستعمال علي بن أبي طالب وهو إمام الفصاحة والبيان، كي نجوز استعمال الكلمة مضافة.

وكثير من اللغويين استخدموا كلمة “كافة” مضافة ومحلاة بـ “أل”، ومنهم الحريري نفسه الذي خطأ استعمالها مضافة وذلك في قوله: “وتشهد الآية باتفاق كافة أهل الملل” وقال الزبيدي نفسه الذي خطأ إدخال أل عليها:” كما ذهبت إليه الكافة” . وذكر لسان العرب أن “الكافة” هي الجماعة من الناس. وقد استخدمها مضافة أيضا أو محلاة بـ (أل) كل من الزمخشري وثعلب وأبي بكر بن قريعة. كما سوغ استعمالها مضافة أو محلاة بـ “أل” الشهاب الخفاجي والصبان وعباس حسن، ومحمد علي النجار، ومحمد العدناني. [معجم الخطأ والصواب في اللغة 231-233 ]

ومن كل هذا نخلص إلى ما يلي:

1: مجرد ورود هذه الكلمة (كافة) مضافة بمعنى (كل)، عن أئمة الفصاحة والبلاغة كالخليفة عمر بن الخطاب، وأقرار الخليفة علي بن أبي طالب بها؛ لهو دليل كاف على صحة وفصاحة هذا الاستخدام لهذه الكلمة، بالقول: كافة الناس أو كافة المسلمين. وبورودها عن أئمة الفصاحة من قريش لا مجال للقول بأها لغة عربية غير موثوق بها.

2: يقرّ بصحة هذا الاستخدام ثلة من النحاة واللغويين، مثل: الزمخشري، ثعلب، أبي بكر بن قريعة، الشهاب الخفاجي، الصبان، عباس حسن، محمد علي النجار، محمد العدناني، سعد الدين التفتازاني، السيد عبد الله في شرح اللباب ، والدكتور إميل يعقوب. وتكفينا ثلة العلماء هذه لترجيح كفة هذا الاستعمال على من منعه.

3: إن معنى (كافة) لا يقتصر على (المنع) بل من أحد معانيها (الجماعة من الناس) وفق لسان العرب، حيث جاء فيه: والكَافَّةُ: الْجَمَاعَةُ، وَقِيلَ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وعليه فيجوز استعمالها محلاة بأل التعريف كالقول: جاءت الكافة. ولا مجال بعد هذا لمنع هذا التركيب.

4: لا مجال للقدح بصحة الرسالة التي كتبها سيدنا عمر بن الخطاب لبني كاكلة ، حيث إن هذا الخط حُفظ عبر التاريخ، وكان من الممكن فحصه والتحقق من مصداقيته. وإن كان موضع شك لرفضه سيدنا علي بن أبي طالب ولتحرى أمره وحقق فيه، وهو الخليفة الذي ائتُمن على أموال المسلمين ، ولكنه قبِلَه على الفور وعمل حسبه.

5: لذا لا مِراء ولا شك في فصاحة التعبير (كافة الناس) لوروده عن فصحاء العرب كالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. وإن قيل بأنه لا يرقى لمستوى فصاحة القرآن الكريم فلا اعتراض على ذلك، إذ كلنا نقرّ بأن القرآن الكريم أعلى مستويات الفصاحة والبلاغة.

6:  أما القول بأن هذه اللغة غير فصيحة لأنها غير واردة في القرآن الكريم، فهو قول لا أساس له، وينمّ عن جهل المعترض بمعنى الكلام الفصيح ومصادره التي يُستقى منها. ففصيح الكلام ليس مقصورا على القرآن الكريم، بل له مصادره الأخرى أيضا، من كلام العرب المنظوم والمنثور، بالذات ممن يُحتج بلغتهم وعُرفوا بفصاحتهم ونقاء لغتهم. وفي هذا يقول أبو السعيد السيرافي:

” قد ذكر سيبويه عن العرب حذف علامة التأنيث من الحيوان مع قلته، وكان أبو العباس محمد بن يزيد ينكر ذلك أشد الإنكار، ويقول:لم يوجد ذلك في قرآن، ولا في كلام فصيح وشعر، والذي قاله سيبويه أصحّ لأنه حكاه عن العرب، وهو غير متهم في حكايته، واحتج له بما لا مدفع له وقد قال جرير فيه في قوله ما يوافق حكاية سيبويه، وهو:

لقد ولد الأخيطل أمّ سوء … على باب استها صلب وشام

وليس كل لغة توجد في كتاب الله عز وجل ولا كل ما يجوز في العربية يأتي به القرآن أو الشعر، ولأبي العباس مذاهب يجوزها لم توجد في قرآن ولا غيره، من ذلك إجازته:

إن زيد قائما، قياسا على: ما زيد قائما، ولا أظن الاستشهاد عليه ممكنا في شيء من الكلام.

قال: (وهو في الموات كثير)، يعني: حذف التاء من فعل الموات الماضي” [شرح كتاب سيبويه (2/ 369)]

فها هو السيرافي يدافع عن سيبويه في تجويزه تذكير الفعل للمؤنث الحقيقي كالقول: جاء فلانة. على لغة للعرب رغم عدم وجودها في القرآن الكريم. ويحاجج المبرّد في تجويزه هو ما ليس في القرآن والشعر.

7: أما القول بأنه ليس فصيحا لأن استعماله قليل فهو أمر لا أساس له، إذ هناك الكثير من الأمثلة للغات قليلة الاستعمال إلا أنها تعتبر من فصيح الكلام، وقد ذكرنا العديد منها في مقالاتنا، كإهمال إن الشرطية في الجزم بتقارضها الحكم مع لو الشرطية، وكذا  فقد اعتبر ابن مالك  قليل الاستعمال أنه فصيح أيضا كما في جاء في شواهد التوضيح: “وأمر المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيح قليل في الاستعمال، ومنه قوله تعالى {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (1262).(شواهد التوضيح1/243). سنخصّص لهذا الموضوع مقالا منفردا مستقبلا إن شاء الله تعالى.