المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية.. 162

الفصاحة في لغات المسيح الموعود عليه السلام..9

لا فرق بين الفصيح والشاذ فكلها لغات عربية فصيحة أصيلة

نتابع ما أورده العلامة عباس حسن في سلسلة مقالاته: “صريح الرأي في النحو العربي داؤه ودواؤه” :

9: من بين ما تطرق له عباس حسن في مقالاته هذه هو موضوع ال”القياسي والسماعي ” في اللغة ، وبيّن أوجه اللغط والفوضى القائمة فيه. فبعد أن عرّف القياسي والسماعي بقوله:

ومن ثم يتردد على ألسنة النحاة وفي كتبهم كلمتا: ” القياسي والسماعي ” يريدون بالأول هنا ما جرى على كثير ما نطقت به العرب، وساير الشائع من لغتهم، ولو لم يكن الناطق به عربياً أصيلا. ويجعلون حكمه حكم الكلام العربي الأصيل في كل ما يختص به. ويريدون بالثاني: ما ورد من كلام بعض العرب الخلّص مخالفاً للكثرة في بعض النواحي، ويحكمون عليه بأنه ” يحفظ ولا يقاس عليه ” كما أشرنا.

((فكلا النوعين: ” المقيس عليه، والمسموع ” كلام عربي أصيل، ))غير أن الأول فاز بالشيوع والكثرة، والاشتراك بين ألسنة عربية كثيرة أصيلة، وحُرم الثاني تلك الخصيصة؛ فلم يجر إلا على ألسنة أصيلة قليلة، ولم يسمح بمحاكاتها.” [إ.هـ]

أقول: يكفينا هذا القول لنحكم على السماعي الذي مُنعت محاكاته بأنه كلام عربي فصيح، لأنه كلام عربي أصيل صادر من العرب الخلّص الفصحاء. إلا أن منع محاكاته جاء لعدم شيوعه ولقلته، أي أن ما حَكم عليه “بالإعدام” هو مسألة الكثرة!

فكيف إذا ثبت كما اثبت عباس حسن نفسه أن مسألة الكثرة هذه يشوبها غموض واسع وخُلف كبير !؟ وأنى لها -والحال هذه- أن تكون هي الحَكم في هذا الأمر ، دون أن يكون لها معايير واضحة متفق عليها!؟ فما هي هذه الكثرة!؟ وما حدودها!؟ أهي كثرة اللغة بين أفراد القبيلة الواحدة!؟ أم كثرتها بين القبائل المختلفة!؟ وما عدد الشواهد على لغة معينة لنحكم عليها بالكثرة!؟ كل هذا لا اتفاق عليه!!

فيقول عباس حسن إن مخالفة قبيلة لأخرى، أو فرد أو قلة من الأفراد لقبيلتهم لا مشكلة فيه، “فالعربي الخالص لا يخطئ” فهو رب اللغة ومالكها وله أن يرتجلها ويخلقها وينشئها، وأن يتصرف بها في مفرداتها وتراكيبها وضبط حروفها، كما تمليه عليه فطرته.

وقد بين عباس حسن أمثلة للتضارب في هذا الموضوع، فمن ناحية يُحكم على لغة بأنها مقيسة في نفس الوقت التي يُحكم عليها بالرداءة! ويحكم على أخرى بأنها كثيرة شائعة إلا أنه رغم هذا الشيوع لا يقاس عليها! فكيف يستقيم كل هذا!؟ وما هذا اللغط وما هذه الفوضى؟

ثم ما يدرينا فلعل لغة يُحكم عليها بالندرة والشذوذ، إلا أنها كانت شائعة في عصرها وووقتها وبين أبناء قبيلتها أو قبائلها المختلفة، التي لم يصلنا الاستقراء عنها. وهذا ما كنا قد ذكرناه في مقال سابق ونرى أن عباس حسن يؤيدنا فيه بقوله ما يلي:

ومن يدري فقد تكون الألفاظ المرتجلة في زعمنا ليست في الحق والواقع جديدة، وإنما هي بعض تراث لغوي زال أكثره، وبقي أقله لدى فريق من الناس ” فحفظوا قّلَّ ذلك أو غاب عنهم أكثره، كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه … وكما يقول أبو عمرو بن العلاء: ” ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير، ويقول القاضي الجرجاني: ” إذا سمعنا عن العربي الفصيح الذي يعتد حجة، كلمة اتبعناه فيها، وإن لم تبلغنا من غيره، ولم نسمع بها إلا في كلامه “[ إ.هـ]

ومن كل هذا يخلص عباس حسن إلى النتيجة الحتمية التالية:

فأذا كان الأمر ما وصفناه ونقلناه عن الأعلام فكيف تتحقق القلة والكثرة، وتتحقق تبعاً لهما إباحة القياس والمحاكاة حينا أو تحريمهما؟ كيف يقع الاطراد والشذوذ؟ لم أجد لشئ من ذلك رداً مقنعاً، ولا جواباً شافياً. ولطالما قرأت في مطولات النحو تعليقاً على شاهد مخالف للقاعدة: ” إنه لغة ” أو ” إنه لغية ” أو ” إنه شاذ ” فلم أفهم الفرق النحوي الدقيق بين هذه الأوصاف، ولا أثر كل منها” [ إ.هـ]

وحقيقة ما يقوله عباس حسن هنا أن مسألة الكثرة والقلة، التي بُنيت عليها وتدور حولها مسألة الفصاحة في اللغة، لهي أمر تعسفي عبثي لا قوام له ولا دعائم نقلية أو عقلية تعضده، ولذا فقد أحسن الكوفيون وغيرهم ممن لم يفرّق بين الشاذ والكثير ، واعتبره في نفس الإطار ، كالإمام أبو زيد الأنصاري شيخ سيبويه، فقال عباس حسن:

أما الكوفيون فقد أجازوا القياس على المثال الواحد المسموع ” وهم يعتبرون اللفظ الشاذ فيقفون عليه، ويبنون على الشعر الكلام من غير نظر إلى مقاصد العرب ولا اعتبار بما كثر أو قل “. وكذلك الإمام أبو زيد الأنصاري شيخ سيبويه ورائده يجعل الفصيح والشاذ سواء “[ إ.هـ]

وهنا أقول: إذا كان لا فرق بين الفصيح والشاذ عند ثلة العلماء هذه ، فلم يبق سوى الإقرار بأن الشاذ فصيح ومن فصيح الكلام.

كما أقول ، إذا لم يفرق هؤلاء الأفذاذ بين الفصيح والشاذ، فهذا يدل على أن كل هذه النعوت من (فصيح، شاذ، قليل، ضعيف…) ما جاءت إلى لوصف الكثرة والقلة ، ويفقد عندها الوصف بـ “الفصيح” معناه الحقيقي بكون الفصيح من الكلام هو العربي الصحيح الذي جاء من فصحاء اللغة. فلا يعني الفصيح في هذه النعوت سوى الكثير ، ولم يسم الفصيح بهذا الاسم سوى للقول بكثرته عند من ارتضى هذا الوصف له.

وأما البصريون، أرباب القياس والتشدد فيه، فلا يُعلم عندهم ما هي الكثرة وحدودها التي يصح القياس عليها أهي 10 أمثلة أو 20 أو 30 مثالا. كما عاب عباس حسن على ابن جني عدم قياسه على ما ورد منه 20 مثالا أو اكثر، وانتقد وصفه بالشذوذ لما جاء في القرآن الكريم في أحدى قراءاته، رغم اعتبارنا القرآن الكريم أسمى لغة عربية بيانية، فكيف يوصف بالشذوذ!؟ وانتقد عباس حسن عدم قبول ابن جني للقياس على ما صنفه هو بنفسه “بأنه شاذ سماعا مطرد قياسا ” و ما صنفه “بالشاذ قياسا مطرد سماعا”، وأقر عباس حسن بوجوب القياس على كل هذه الأصناف من اللغات.

ويخلص عباس حسن إلى ما يلي :

كيفما دار الأمر في القياسي والسماعي، فالأخذ فيه برأي القدامى مرهق معوق بل مضلل، يقف سدا بين اللغة والانتفاع بها على خير الوجوه وعلى حسب مقتضيات الأزمان.” [ إ.هـ]

وبقول عباس حسن هذا نقر بأن تقسيمات اللغات إلى فصيح وشاذ وغيرها هي تقسيمات مضلله ، وليس أمامنا بعد ما امطرَنا به عباس حسن من الشواهد، إلا ان نقرّ بأن ما صُنف بين اللغات الضعيفة الشاذة المتروكة ما هي إلا لغات عربية فصيحة، لأنها جاءت من العربي الأصيل الفصيح الذي لا يخطئ ، ولأنه لا يمكن لأحد مهما بلغ علمه أن يحكم عليها بالقلة مع كون الاستقراء في اللغة ناقصا وبضياع معظم اللغة.

وعليه فإن كل لغات المسيح الموعود عليه السلام، التي وجهناها على لغات العرب المختلفة، لهي لغات عربية صحيحة وفصيحة لا يحق وليس بمقدور أحد مهما بلغ علمه في اللغة، أن يقدح بفصاحتها، فإن وقُح أحد على ذلك، فجوابنا له: هاك عباس حسن وما يقوله، وهاك بضياع أغلب اللغة وهاك بنقص الاستقراء فيها!