المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..309

لغات العرب المختلفة في القرآن الكريم ولغة المسيح الموعود عليه السلام

بقلم: الدكتور أيمن فضل عودة

يقول المسيح الموعود عليسه السلام : “وإني مع ذلك عُلِّمتُ أربعين ألفًا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطةً كاملة في العلوم الأدبية”. وقد أثبتنا من خلال مقالاتنا المختلفة أن المسيح الموعود عليه السلام، يتكلم بلغات العرب المختلفة، متمثلة بالألفاظ والتراكيب المختلفة، التي ليست هي مألوفة في لغتنا العربية في هذا العصر.

وقد يعجب المرء من هذا كله، وقد يتعصب “عبدة اللغة” في هذا الأمر معترضين على ورود مثل هذه اللغات المختلفة في كلامه عليه السلام، على اعتبار بعضها قديما ومندثرا وليس مألوفا.

ولنا هنا أن ننوه إلى أن هذا ليس بدعا من الأمر عند المسيح الموعود عليه السلام،  ولا بدّ لهذا العجب أن يزول إذا ما عرفنا بأن القرآن الكريم بذاته نزل على لغات العرب المختلفة، حتى مما لم يكن معروفا ومألوفا لقريش نفسها.

وفي هذا يقول المسيح الموعود عليه السلام :

“فالجدير بالذكر أن عادة الله بحسب سنته القديمة هي أنه يهدي كل أمة بلغتها. ولكن إذا كان هناك لغة يُتقنها الملهَم جيدا كأنها في حكم لغته فكثيرا ما يتلقى إلهاما في تلك اللغة كما تشهد على ذلك بعض كلمات القرآن الكريم، إذ بدأ نزوله بلهجة قريش لأنهم كانوا أول المخاطَبين، ثم وردت فيه كلمات بلهجات العرب الأخرى أيضا“. (ينبوع المعرفة)

فوفق قوله عليه السلام وردت في القرآن الكريم لغات أو لهجات القبائل العربية المختلفة. فكيف هذا ؟وأين؟ وما هي تلك الألفاظ التي جاءت على لغات القبائل الأخرى غير قريش؟

يؤيد قول المسيح الموعود عليه السلام الروايات التالية:

1: “فَجَاءَ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَ الْقُرْآن عَلَى سَبْع لُغَات . مِنْهَا خَمْس بِلُغَةِ الْعَجُز مِنْ هَوَازِن قَالَ : وَالْعَجُز سَعْد بْنُ بَكْر وَجُشَم بْنُ بَكْر وَنَصْر بْن مُعَاوِيَة وَثَقِيف ، وَهَؤُلَاءِ كُلّهمْ مِنْ هَوَازِن ، وَقَالَ لَهُمْ عُلْيَا هَوَازِن ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : أَفْصَح الْعَرَب عُلْيَا هَوَازِن وَسُفْلَى تَمِيم يَعْنِي بَنِي دَارِم . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْد مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَ الْقُرْآن بِلُغَةِ الْكَعْبَيْنِ كَعْب قُرَيْش ، وَكَعْب خُزَاعَة …. وَقَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيّ : نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْش وَهُذَيْل وَتَيْم الرَّبَاب وَالْأَزْد وَرَبِيعَة وَهَوَازِن وَسَعْد بْن بَكْر.…وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَلِيّ الْأَهْوَازِيّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ كُلّ كَلِمَة تُقْرَأ عَلَى سَبْع لُغَات ، بَلْ اللُّغَات السَّبْع مُفَرَّقَة فِيهِ ، فَبَعْضه بِلُغَةِ قُرَيْش وَبَعْضه بِلُغَةِ هُذَيْل وَبَعْضه بِلُغَةِ هَوَازِن وَبَعْضه بِلُغَةِ الْيَمَن وَغَيْرهمْ . قَالَ : وَبَعْض اللُّغَات أَسْعَد بِهَا مِنْ بَعْض وَأَكْثَر نَصِيبًا….” [فتح الباري لابن حجر (14/ 200)]

2: عن (ابن عباس): أن الله تعالى أنزل هذا القرآن بلغة كل حيّ من أحياء العرب. [الحجة في القراءات السبع (ص: 242)]

وجاء في هذا الصدد ما يلي:

3: “إن في القرآن من أربعين لغة عربية وهي: قريش، وهذيل، وكناتنة، وخثعم، والخزرج، وقيسعيلان وتميم وحمير ولخم وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وطيء وثقيف وجذام وعذرة وهوازن ……(لهجات العرب في القرآن الكريم ص 2-3)

4: يرى فريق من العلماء أن القرآن الكريم نزل بكل لغات العرب، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن بلغة كل حي من احياء العرب”

 

خلاصة ما يستنتج من هذه الروايات على اختلافها :

أن اللغة التي نزل فيها القرآن الكريم هي مزيج من اللهجات المختلفة، بدليل الألفاظ المختلفة التي تعود لمختلف القبائل، ويمكن الاستدلال على ذلك بما يلي:

_ ما روي انه قيل “نزل القرآن بلسان قريش وليسوا أصحاب نبر (أي لا ينطقون الهمزة في وسط وآخر الكلمة)، ولولا أن جبرائيل عليه السلام نزل بالهمزة على النبي صلى الله عليه وسلم ما همزنا”

_ قول صاحب ” التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد”: ” قول من قال نزل بلغة قريش، معناه الأغلب، لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القرآت من تحقيق الهمز وغيرها، وقريش لا تهمز”

[كل هذا، منقول مع بعض التصرف من كتاب : لهجات العرب في القرآن الكريم ص 203-204، لمؤلفه عبد الله عبد الناصر جبري]

 

أمثلة على ألفاظ من لهجات/ لغات العرب المختلفة في القرآن الكريم :

1: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} (النحل 48)  التخوف على لغة هُذَيْل  ويعني التنقّص.

ورد عن سيدنا عمر بن الخطاب ما يلي: أن عمرا سأل عن قوله تعالى” أو يأخذهم على تخوّف” وهو على المنبر، وقال ما تقولون فيها؟ فسكتوا، فقام رجل من هذيل فقال: هذه لغتنا. التخوّف: التنقّص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:

تخوّفَ الرحلُ منها تامكا قرِدًا      كما تخوّفَ عودَ النبعةِ السفنُ

2: { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } (النجم 62) أي : لاهون.  والسمود بلغة حِمْير: الغناء، يقول: الرجل للمرأة اسمدي لنا، أي: غنِّي لنا. [منار الهدى في بيان الوقف والابتدا ت عبد الرحيم الطرهوني (2/ 305)]

 

3: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (البقرة 188) و (رفث) بمعنى الجماع، بلغة مَذْحَج، وهكذا .. [مقدمات في علم القراءات (ص: 17)]

4:  {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} (الإِنْسان 14) الأريكة لغة يمنية وتعني الحَجَلة فيها السرير.

وحدثني أبي قال: حدثنا أبو منصور قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا منصور عن الحسن قال: كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجل من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير. [إيضاح الوقف والابتداء (1/ 70)]

5: {كَلَّا لَا وَزَرَ } (القيامة 12)، يعني لا حيل ولا ملجأ بلغة توافق النبطية، وقيل الوزر ولد الولد بلغة هذيل، ولا حيل بلغة أهل اليمن. [لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم (ص: 12، بترقيم الشاملة آليا)]

6: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} (البقرة 221) (لأعنتكم) هنا، و (ما عنتم) بآل عمران، و (العنت منكم) بالنساء، (وما عنتم) بالتوبة، و (لعنتم) بالحجرات: والعنت الإثم بلغة هذيل

7: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ} (البقرة 233) (تعضلوهن) تحبسوهن بلغة أزد شنوءة.

8: { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} (البقرة 265) ؛ (صلدا) نقيا بلغة هذيل

9: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا} (آل عمران 40) (سيدا وحصورا) السيد الحكيم بلغة حمير. والحصور الذي لا حاجة له في النساء بلغة كنانة.

10: { لَا خَلَاقَ لَهُمْ } (آل عمران 78)  (لا خلاق) لا نصيب بلغة كنانة.

11: { أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (النساء 4) (تعولوا) تميلوا بلغة جُرهُم.

12: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء 5) (نحلة) فريضة بلغة قَيْس عَيْلان.

كانت هذه جملة من الألفاظ على لغات القبائل المختلفة -غير قريش- مما هو وارد في القرآن الكريم في القراءة التي بين يدينا. وهناك الكثير من الألفاظ الأخرى يمكن الوقوف عليها في كتاب “لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم” ولا حاجة لتكرارها هنا.

لغات القبائل المختلفة في القراءات المختلفة:

أما اختلاف الألفاظ واللغات في القراءات القرآنية المختلفة فهو باب واسع جدا، فالقراءات القرآنية هي في الحقيقة انعكاس لاختلاف اللغات القبائلية بين العرب، وما الاختلاف فيها إلا لاختلاف اللغات بين العرب فجاءت هذه القراءات معبرة أشد تعبير عن هذه الاختلافات في لغات العرب. نذكر منها بعض الأمثلة كما يلي:

1: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ } (الأَعراف 139) بضم الكاف في يعكفون، بينما جاءت قراءة حمزة والكسائي والوراق على لغة أسد بكسر الكاف (يعكِفون على أصنامهم).

2: الآية : { فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ } (الحجر 15) بضم الراء في يعرجون؛ جاءت في قراءة الأعمش على لغة هذيل ( يعرِجون) بكسر الراء.

3:الآية: { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأَعراف 138) بكسر الراء في يعرشون هي لغة الحجاز (قريش)؛ بينما جاءت قراءة ابن عامر وأبو بكر ( وما كانوا يعرُشون) بضم الراء على غير لغة قريش.

4: { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } (المجادلة 12)  بضم الشين وهي لغة الحجاز (قريش)، بينما  قراءة (وإذا قيل لهم انشِزوا فانشِزوا) بكسر الشين، جاءت على غير لغة الحجاز.

وهذه كلها اختلافات في تحريك عين الفعل. وأما اختلافات القراءات في لفظ الهمزة فهي كثيرة نعدد منها:

1:  قراءة ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وغيرهم بالهمزة في: {وَآخَرُونَ مُرْجَئونَ لِأَمْرِ اللَّهِ } (التوبة 106) و { تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } (الأحزاب 52)؛ وغيرهم قرأها مخففة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ } (التوبة 106) { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } (الأحزاب 52)

2: قرأ عاصم والأعمش ويعقوب:( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) بالهمز وغيرهم قرأها بغير همز. وذكر الفراء أن الهمز فيها لغة أسد.

3: قراءة نافع المدني بتحقيق الهمز في الكلمات: النبيين/ والنبيون/ والنبوة /والنبي ؛ فجاءت عنده : النبيئين / النبيؤون/ النبيء/ النبوءة.

4: قراءة التسهيل لابن عامر وأبو عمرو ونافع :{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } (البقرة 99)، تقابلها قراءة الهمز للأعمش وحمزة والكسائي.

5: قراءة نافع وأبو عمرو وأبو جعفر في الآية: {دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } (سبأ 15) فقرئت: منساته، فأبدلت الهمزة بالألف.

فما كان بالهمز فهو ليس على لغة قريش لأن قريشا لم تكن تهمز.

كل هذا بالإضافة إلى اختلاف القراءات القرآنية في المسائل النحوية، نظرا لاختلاف لغات القبائل العربية في مسائل النحو هذه. نذكر منها المثال التالي:

جاءت الآية الكريمة : {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (البقرة 250).  بنصب (قليلا) على الاستثناء، وهو من قبيل المستثنى في الكلام التام الموجب. بينما جاءت قراءة أخرى برفع (قليل) : {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (البقرة 250)؛ وهذا الرفع في الاستثناء وارد عن بعض القبائل العربية الفصيحة، التي وفق سليقتها لا تجعل فرقا بين الاستثناء التام الموجب والتام غير الموجب، إذ تجيز فيها كلها النصب على الاستثناء أو الإبدال من المستثنى منه وحتى الرفع على الابتداء.

وكما قلنا فاختلاف القراءات لاختلاف لغات العرب باب واسع جدا، تكفي هذه الأمثلة كعيّنة بسيطة، لتكون شاهدا على ورود لغات القبائل العربية المختلفة في القراءات القرآنية.

وعليه فلا عجب إذًا، أن يكون المسيح الموعود عليه السلام، قد أوحي له بلغات عربية مختلفة، كما نزل القرآن بلغات العرب المختلفة وغن لم تكن مألوفة لقريش نفسها.