المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..14

لغة “أكلوني البراغيث” بين الإثبات والتأويل، في القرآن الكريم، الحديث الشريف، لغة المسيح الموعود ع وكلام العرب


كثيرا ما تُذكر لغة ” أكلوني البراغيث” في لغتنا المعاصرة بهدف الإشارة إلى أنها لغة خاطئة وليست صحيحة، وكأن إجماعا حصل بين النحاة واللغويين دون أي استثناء لأحد منهم، على تخطيئها. ويأتي تفسير الخطأ الواقع في هذه اللغة، بعدم جواز ورود فاعلين لفعل واحد.

إلا أنه بالرغم من ذلك، نجد هذه اللغة في كتابات المسيح الموعود عليه السلام كما في الفقرة التالية:

  • لا يرون هؤلاء إلى نظامِ حكّام الدولة البرِطانية (لجة النور).

ونظرا للفكرة السائدة في عصرنا عن تخطيء هذه اللغة، قد يظن البعض أن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ أو سها في هذه الفقرة، ولم يتنبه إلى وجود فاعلين (واو الجماعة و هؤلاء) للفعل يرون.

إلا أننا عند مراجعة المصادر اللغوية والنحوية والحديثية، تتضح لنا صورة مغايرة للفكرة السائدة عن هذه اللغة.

وهاكم بعض ما جاء في هذه المصادر:

“جاء في كتاب اللمحة في شرح الملحة :

“ولا يقال: (ذَهَبَا الزّيدان) 1 ولا (ذهبوا القوم) 2؛ [46/أ] لامتناع عَوْد الضّمير على غير ذي ضميرٍ، ولا يقع ذلك إلاَّ إذا تَأخَّر الفعل عن الاسم،….

جاء في الهامش :

2 هذه اللّغة يسمّيها النّحاة لغة (أكلوني البراغيث) وتُنسب إلى طيّء، وأزد شنوءة، وبلحارث بن كعب.”( إ.ه) {اللمحة في شرح الملحة (1/ 312)}

وجاء في كتاب الجنى الداني في حروف المعاني ما يلي:

“الثالث: نون الإناث في الفعل المسند إلى الظاهر، على اللغة التي يقولون فيها: لغة أكلوني البراغيث. وهي لغة طيىء، كقول الشاعر:

ولكن ديافى أبوه، وأمه … بحوران، يعصرن السليط أقاربه

فالنون في يعصرن حرف يدل على التأنيث والجمع.

وأنكر قوم، من النحويين، هذه اللغة، وتأولوا ما ورد منها. ولا يقبل قولهم في ذلك. بل هي ثابتة بنقل الأئمة. وسيأتي لذلك مزيد بيان.” {الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 149)}

وجاء في نفس الكتاب، ما يلي:

“السابع: الواو التي هي علامة الجمع في لغة أكلوني البراغيث. وهي لغة ثابتة، خلافاً لمن أنكرها، وأصحاب هذه اللغة يلحقون الفعل المسند إلى ظاهر، مثنى أو مجموع، علامة كضميره. فيقولون: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون، وقمن الهندات. فالألف والواو والنون في ذلك حروف، لا ضمائر، لإسناد الفعل إلى الاسم الظاهر. فهذه الأحرف عندهم كتاء التأنيث في نحو: قامت هند.

ومن شواهد هذه اللغة، في الواو، قول الشاعر:

بني الأرض قد كانوا بني، فعزني … عليهم، لإخلال المنايا، كتابها

أنشده ابن مالك. قال: وقد تكلم بهذه اللغة النبي، صلى الله عليه وسلم، قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار. وقال السهيلي: ألفيت، في كتب الحديث المروية الصحاح، ما يدل على كثرة هذه اللغة وجودتها. وذكر آثاراً منها: يتعاقبون فيكم ملائكة. ثم قال: لكني أقول في حديث مالك: إن الواو فيه علامة إضمار، لأنه

حديث مختصر. رواه البزار مطولاً مجرداً، فقال فيه: إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم …

قلت: ونسب بعض النحويين هذه اللغة إلى طيىء، وقال بعضهم: هي لغة أزدشنوءة. ومن أنكر هذه اللغة تأول ما ورد من ذلك. فبعضهم يجعل ذلك خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً، وبعضهم يجعل ما اتصل بالفعل ضمائر، والأسماء الظاهرة أبدال منها. وهذان تأويلان صحيحان، لما سمع من ذلك، من غير أصحاب هذه اللغة، وأما من يحمل جميع ما ورد من ذلك على التأويل فغير صحيح، لأن المأخوذ عنهم هذا الشأن متفقون على أن ذلك لغة قوم مخصوصين من العرب.

وحمل بعضهم على هذه اللغة قوله تعالى “ثم عموا وصموا كثير منهم“، “وأسروا النجوى“. قلت: ولا ينبغي ذلك لأن هذه اللغة ضعيفة، فلا يحمل القرآن إلا على اللغات الفصيحة. والتأويلان المذكوران، قيل: يجريان في الآيتين. وقيل في وأسروا النجوى أقوال أخر. (إ.ه) {الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 170)}

وجاء في كتاب إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث ما يلي:

“لُغَة ” أكلوني البراغيث ” ومجيء النُّون حرفا يدل على جمع الْمُؤَنَّث

(41) وَفِي حَدِيثه: ” فَكُن أمهاتي يحثثنني “.

(أ) النُّون فِي ” كن ” حرف يدل على جمع الْمُؤَنَّث وَلَيْسَت اسْما مضمرا؛ لِأَن أمهاتي هُوَ اسْم كَانَ فَلَا يكون لَهَا اسمان. . وَنَظِير النُّون هَهُنَا الْوَاو فِي لُغَة ” أكلوني البراغيث “، وكقول الشَّاعِر:

(وَلَكِن ديافي أَبوهُ وَأمه … بحوران يعصرن السليط أَقَاربه)

وَيجوز أَن تجْعَل النُّون اسْما مضمرا وَيكون أمهاتي بَدَلا مِنْهُ.” (إ.ه){إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث ما يلي: (ص: 35)}

وجاء في نفس الكتاب:

“جعل النُّون عَلامَة مُجَرّدَة للْجمع، وَمَا يحمل عَلَيْهِ

وَفِي حَدِيثه: ” من كن لَهُ ثَلَاث بَنَات ” وَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة كن بتَشْديد النُّون.

وَالْوَجْه من كَانَ لَهُ أَو من كَانَت. وَالْوَجْه فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة أَنه جعل النُّون عَلامَة مُجَرّدَة للْجمع، وَلَيْسَت اسْما مضمرا، كَمَا أَن ” تَاء التَّأْنِيث ” فِي قَوْلك: قَامَت وَقَعَدت هِنْد عَلامَة لَا اسْم، وَقد ورد عَنْهُم ذَلِك، قَالَ الشَّاعِر:

(يلومنني فِي اشْتِرَاء النخيل … قومِي وَكلهمْ ألوم)

قَالَ آخر:

(وَلَكِن ديافي أَبوهُ وَأمه … بحوران يعصرن السليط أَقَاربه)

وَعَلِيهِ حمل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم} . {وأسروا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا} . فِي أحد الْوَجْهَيْنِ.

وَقيل: النُّون اسْم مُضْمر وَهُوَ فَاعل وَثَلَاث بدل مِنْهُ. وَمن هَذَا قَوْلهم: ” أكلوني البراغيث “. (إ.ه){إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث (ص: 45)}

فيتضح من كل هذا ما يلي:

  • لغة “أكلوني البراغيث” لغة ثابتة عن العرب وتنسب لبعض القبائل العربية مثل طيء وأزد شنوءة وبلحارث بن كعب.
  • هذه اللغة واردة في الشعر العربي كما ” يعصرن السليط أقاربه” و (يلومنني فِي اشْتِرَاء النخيل … قومِي وَكلهمْ ألوم).
  • لم يُجمع النحاة على تخطئة هذه اللغة، بل من أنكرها هم فقط فئة من النحاة، وأما الآخرون فيأخذون بها وينكرون تخطئتها، كما أقرّ بذلك الجنى الداني.
  • هذه اللغة ثابتة بنقل الأئمة
  • لهذه اللغة تفسيرها وقواعدها الخاصة بها عند أهلها ومن يأخذ بها من النحاة. حيث تُعتبر فيها الأحرف المتصلة بالأفعال وهي الواو والنون والألف، أحرفا لإسناد الفعل وليست ضمائرا، وهي تدل على التثنية والجمع والتأنيث؛ كما هو الأمر بالنسبة لتاء التأنيث اللاحقة بالفعل عند اسناده للمؤنث؛ أي أن هذه الأحرف لا تعتبر فاعلا أولا للفعل.
  • هذه اللغة واردة بكثرة في الحديث الشريف كما أقر به السهيلي وفق الجنى الداني في حروف المعاني. ومن هذه الأحاديث الشريفة ما يلي:”يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار.” والحديث: ” فَكُنّ أمهاتي يحثثنني“. والحديث: “من كنّ لَهُ ثَلَاث بَنَات“.
  • وردت هذه اللغة في القرآن الكريم وفق بعض النحاة كما في الآيات التالية: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } (الأنبياء 4) و {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ} (المائدة 72).
  • من لم يقبل بهذه اللغة من النحاة لجأوا إلى التأويل فيها وهو الأفصح (والله أعلم)، وذلك بجعل الضمير المتصل أنه الفعل والاسم الظاهر بعدها بدلا منه؛ أو اعتبار الاسم الظاهر مبتدأ مؤخرا والفعل وفاعله خبرا مقدما كالقول في الأصل: “البراغيث أكلوني”.

النتيجة:

ثبت بناء على كل هذا أن لغة أكلوني البراغيث لغة عربية واردة عن قبائل العرب وأخذ بها نخبة من النحاة ولم يلجأوا إلى تخطئتها ولا حتى التأويل فيها، بل قبلوا بها على ما هي عليه، واعتبروها ذات قواعد خاصة بها. كما ثبتت هذه اللغة في القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي، وفق من اخذ بها من النحاة.

فكل هذه الأمور تشهد على صحة هذه اللغة وفق بعض النحاة حتى دون اللجوء إلى التأويل فيها بل بأخذها على ما وردت به من القبائل العربية.

لذلك فلو أخذنا هذه اللغة على ما هي عليه من قواعد ودون اللجوء إلى التأويل بناء على ورودها عن قبائل العرب، لجزمنا بصحة استعمال المسيح الموعود عليه السلام لها، بحيث لا يمكن القول أنها لغة غير صحيحة.

وأما الذي لا يروق له الأخذ بهذه اللغة، فبإمكانه أخذها أينما وردت في كتابات المسيح الموعود عليه السلام على التأويل باعتباره الأفصح. وفي هذه الحال لا يمكن تخطئة هذه اللغة بل لا بدّ من الإقرار بفصاحتها، لأن التأويل فيها وارد باعتبار “هؤلاء” بدلا من ” واو الجماعة” أو باعتبار “هؤلاء” مبتدأ مؤخرا والجملة الفعلية “يرون” خبرا مقدما.

وعلى أي حال، فإن لغة “أكلوني البراغيث” سواء بتأويلها أم عدم تأويلها، تكون مظهرا من مظاهر الإعجاز في لغة المسيح الموعود عليه السلام، جاءت لتشهد على صدق حضرته وصدق دعواه وصدق معجزته في تعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية في لغة واحدة، لأنها لغة صحيحة من لغات العرب. ولا يمكن أن يعترض عليها في كتابات المسيح الموعود عليه السلام إلا الذين أكلوهم البراغيث فضاقوا ذرعا بأنفسهم أو من نصفه بلغتنا العامية أنه ” بَرْغَثْ”.