المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..277

نكتة الخطأ والركاكة في “نفي خبر كان”

الاعتراض:

يدعي المعرتض الركاكة في الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام، والتي جاء فيها خبر كان منفيا بأداة نفي دخلت على جملة الخبر نفسها، بدلا من أن تسبق أداةُ النفي (كان) نفسَها، وإليكم هذه الفقرات مع تصحيحاته المزعزمة فيما هو الأفصح على حد رأيه:

1: ويدل عليه سياق الآية وسباقها إن كنتَ لست كاليهود (الخطبة الإلهامية). الأفصح: إن لم تكن كاليهود.

2: ففكر إن كنتَ ما مسكَ طائف من الجنة (الخطبة الإلهامية). الأفصح : إن لم يكن قد مسك طائف من الجنة.

3: ومع ذلك كنتُ ما يسرني قليل من الآيات والعالمات ..وكنت ما أرضى من الاستيفاء باللفاء، وما اقنع من شمس الهجر ..(نجم الهدى). الأفصح: لم يكن يسرني..لم أكن أرضى.

4: إن كنتَ ما ارسلتَ جوابك إلى سبعة أيام (حجة الله). الأفصح: إن لم تكن قد أرسلتَ.

5: وإن كنتُ ما سمعتُ من قبل بيانا واضحا كمثل بياننا هذا (حمامة البشر). الأفصح: إن لم أكن قد سمعتُ

6:  ولو كان المسلمون لم يعتقدوا بهذه العقيدة (مواهب الرحمن). الأفصح: لو لم يكن المسلمون يعتقدون.

7: وكانوا ما بقي فيهم نور (مواهب الرحمن) الأفصح: لم يكن قد بقي فيهم نور.

8: وإن كنتَ لم تسمع فزد في تجاسر (كرامات الصادقين). الأفصح: وإن لم تكن قد سمعتَ

9: فلا شك أنه ما أوصى إلا لرجل كان لم يره (الخطبة الإلهامية) الأفصح: لم يكن قد رآه

فملخص قول المعترض أنه من الركاكة القول: كان ما فعل/ كان لم يفعل/ كان ما يفعل/ كان ليس جميلا/ ؛ بل الأفصح: ما كان قد فعل/ لم يكن يفعل/ ما كان يفعل/ لم يكن جميلا.

الرد:

يبدو أن البلاغة والفصاحة والركاكة لها عند المعترض معايير لم يسمع بها أحد من جهابذة اللغة والبلاغة من قبل. فيكفينا أن نقول لدحض هذه الاعتراضات على بلاغة وفصاحة هذه التراكيب، أن كتب كبار العلماء والفقهاء والمفسرين وكبار النحويين والبلغاء والحديث الشريف نفسه، تعج وتضج بمثل هذه التراكيب: كان ما فعل/ كان لم يفعل/  كان ما يفعل/ كان ليس جميلا. فهل غفل كل هؤلاء الأقحاح عن معايير الفصاحة التي يدّعيها المعترض، أم أنه تفرّد في جهله للغة من بين من حملة الشهادات فيها!؟؟

فكون كل هؤلاء الفحول وأعلام اللغة، يستعملون نفس هذه التراكيب بكثرة تجعلها فاشية في المراجع العربية والأدبية، لهو دليل قاطع على أنها من أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

وما يُثبت صحة هذه التراكيب هو أن (كان) وأخواتها من نواسخ الابتداء، تدخل على الجملة الاسمية المكونة من المبتدأ والخبر، والخبر بشكل عام قد يكون -أصلًا – جملة فعلية أو جملة اسمية بحد ذاته، كما يقول النحو الوافي:

“فالجملة إما “اسمية”، وإما “فعلية” وكل واحدة منهما قد تقع خبرًا؛ فتكون هنا فى محل رفع؛ نحو: الصيف يشتد حره. الشتاء يقسو بردُه. الربيع جَوُّه معتدل. الخريف جوه متقلب. “النحو الوافي (1/ 466)”

لذا فإن خبر الأفعال الناقصة (كان وأخواتها) قد يأتي جملة فعلية او اسمية، حيث يقول النحو الوافي في شروط كان وأخواتها :

“وأن صيغتها حين تكون بلفظ الماضى، وخبرها جملة فعلية مضارعية – لا بد أن يماثلها زمن هذا المضارع؛ فينقلب ماضياً – عند عدم وجود مانع -؛….وأن أخبارها لا تكون جملة فعلية ماضوية، ما عدا “كان” فإنها تمتاز بصحة الإخبار عنها بالجملة الماضوية. [النحو الوافي (1/ 547-546)]

فـ (كان) من الممكن أن يكون خبرها جملة فعلية مضارعية أو ماضوية ، فنقول: “كان الولد جاء/ كان الولد يسبح”. ولم يشترط غير الكوفيين دخول (قد) على فعل الخبر إذا تساوى مع الفعل الناقص في الزمن، فالكوفيون يشترطون دخول (قد) في هذه الحالة فيقولون: “كان الولد قد جاء” ؛ أما البصريون فلا يشترطون هذا الشرط. وفي هذا يقول النحو الوافي:

” ما قاله الهمع، ونصه: “شرط ما تدخل عليه: “صار” وما بمعناهما، و “دام” و “زال” وأخواتها – زيادة على ما سبق – ألا يكون خبره فعلا ماضيا “يريد: جملة ماضوية ” فلا يقال صار زيد علم، وكذا البواقي، لأنها تفهم الدوام على الفعل، واتصاله بزمن الإخبار، والماضي يفهم الانقطاع، فتدافعا، وهذا متفق عليه…. ” أهـ.

ب- أما في غير تلك الأفعال فالصحيح جوازه مطلقا، وعليه البصريون، لكثرة وروده في القرآن، والكلام الفصيح كثرة تبيح القياس عليه – وقد عرض “الهمع” أمثلة متعددة من هذا الوارد … أما الكوفيون فيشترطون لصحته وجود “قد” قبله، ثم إن المفهوم من الحاشية التي على شرح التصريح، بعنوان “فائدة” – برغم تعدد الآراء فيها أن المستحسن غاية الاستحسان – وإن لم يبلغ حد الوجوب عند غير الكوفيين – هو اقتران الخبر بالحرف: “قد” إن كان الفعل الناسخ وفعل الخبر ماضيين معا، أو مضارعين معا. فمتى تماثل في نوعهما الفعلان – الفعل الناسخ والفعل الذي في خبره- فالمستحسن تصدير الخبر بالحرف، “قد” ويجوز عدم مجيئها. وتمتاز “كان” بجواز مجيء “قد” وعدم مجيئها في الحالات السالفة، وغيرها من سائر حالاتها الأخرى. كما تشهد بهذا النصوص العالية الفصيحة التي عرضها النحاة ويقوي مجيء “قد” في الخبر حجة الكوفيين التي ستذكر في رقم 2 من هامش ص 559 ثم انظر ما يتصل بالأخبار وبهذا في ص 254 لأهميته.” [النحو الوافي (1/ 547)]

 

وعليه، وبما أن الخبر أصلا قد يكون جملة فعلية أو اسمية، وقد تكون هذه الجملة في الأصل مبدوءة بحرف نفي؛ فلا مانع أو تقييد لغوي أو نحوي، في أن تكون هذه الجملة الخبرية منفية بأداة نفي بعد كان، حيث إنها في الأصل قد تكون كذلك قبل دخول (كان) عليها. فالجملة: الولد ليس كسولا، تصبح: كان الولد ليس كسولا. والجملة : الولد ما جاء، تصبح :كان الولد ما جاء، وجملة : الولد لم يأت، تصبح : كان الولد لم يأت، والجملة: الولد ما يخاف احدا، تصبح: كان الولد ما يخاف أحدا ولم تنصّ كتب النحو على أي تقييد في هذه التراكيب.

وبالإجمال نقول: بما أن (كان) يصح في خبرها أن يكون جملة مضارعية أو ماضوية، وهذه الجملة قد تكون في الأصل منفية بأداة نفي؛ فلا إشكال في كون خبر كان جملة مضارعية أو ماضوية منفية. ولذا، لا خطأ في كل هذه الجمل المعترَض عليها في كلام المسيح الموعود عليه السلام. فكل هذه التراكيب:

إن كنتَ لست كاليهود/ إن كنتَ ما مسَك/ كنتُ ما يسرني / كان المسلمون لم يعتقدوا / إن كنتَ لم تسمع

لأن أصلها : انت لست كاليهود/ أنت ما مسك/ أنا ما يسرني/ المسلمون لم يعتقدوا / أنت لم تسمع ؛ ثم دخلت (كان) على هذا الأصل.

ولكي نؤكد كل هذا، ننقل بعض الأمثلة لهذه التراكيب من الحديث الشريف وكتب الحديث وشروحه وكتب التفسير والنحو والأدب العربي عامة :

1: الاعتقاد للبيهقي (ص: 170)

فَيَقُولُ لِلَّذِينَ كَانُوا لَمْ يُطِيعُوهُ

2: الاعتقاد للبيهقي (ص: 269)

وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مَا رَأَيْتُمْ

3: القضاء والقدر للبيهقي (ص: 358)

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لِيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ مَعَهُ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَبْلُغُوهَا فِي الْعَمَلِ لِيُقِرَّ بِهِ عَيْنَهُ»

4: المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة (15/ 407)

عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانُوا لَمْ يَذْكُرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

5: مسند أحمد مخرجا (2/ 430)

عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: انْعَتْ لَنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «كَانَ لَيْسَ بِالذَّاهِبِ طُولًا»

6: مسند أحمد مخرجا (19/ 379)

فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ،

7: الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (1/ 43)

وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا كُنْتَ لَسْتَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ ,

8: الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (9/ 212)

وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بكَبِيرَةٍ

9: موطأ مالك ت عبد الباقي (2/ 837)

أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ خَدَمِهِ

10: سنن أبي داود (3/ 119)

بَابُ مَنْ كَانَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أَخَوَاتٌ

11: المعجم الكبير للطبراني (1/ 237)

وَإِنْ كُنْتَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ

12: شرح معاني الآثار (1/ 85)

أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ لَسْتُ بِطَاهِرٍ

13: شرح كتاب سيبويه (3/ 282)

ولو كان ليس موضع جزاء

14: شرح كتاب سيبويه (2/ 427)

 إذا كان ليس باسم لشيء

15: التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل (9/ 83)

 إذا كان ليس في موضع رفع ولا نصب

16: التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل (8/ 232)

 وإن كان ليس فيه ضمير المبتدأ

17: تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد (9/ 4792)

 وإن كان ليس مقيسا

18: الخصائص (1/ 214)

وإن كان ليس في قوة تأخيره

19: علل النحو (ص: 554)

 وَإِن كَانَ لَيْسَ بممتنع

20: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 378)

وَإِن كَانَ لَيْسَ الْجحْد المصطلح عَلَيْهِ

21: شرح أبيات سيبويه (1/ 18)

يريد أنك أن كنت لست على يقين من الموت والفناء

22: الكتاب لسيبويه (2/ 51)

وإن كان ليس له قوة الوصف فى هذا

23: الكتاب لسيبويه (1/ 98)

إذا كان ليس ممّا يليه الاسمُ

24: شرح المفصل لابن يعيش (4/ 515)

 وإن كان ليس بقياس

25: المنصف لابن جني، شرح كتاب التصريف لأبي عثمان المازني (ص: 79)

 وإن كان ليس على بنائه

26: تفسير الطبري (22/ 467)

وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالهم

27: تفسير البغوي (1/ 197)

 لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم

28: تفسير البحر المحيط (9/ 4، بترقيم الشاملة آليا)

وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني

29: زاد المسير (5/ 420، بترقيم الشاملة آليا)

 كانوا ما ينامون قليلاً من الليل

30: تفسير الرازي (7/ 260، بترقيم الشاملة آليا)

 وإن كانوا ما عبدوا العجل

31: تفسير اللباب لابن عادل (9/ 100، بترقيم الشاملة آليا)

إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك

32: في ظلال القرآن (2/ 81، بترقيم الشاملة آليا)

 إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم

33: تفسير حقي (3/ 81، بترقيم الشاملة آليا)

وان كانوا ما خانوا انفسهم

24: أيسر التفاسير للجزائري (4/ 90، بترقيم الشاملة آليا)

إن كانوا ما ينظرون بإِيمانهم إلا الساعة

35: روح البيان (2/ 279)

وان كانوا ما خانوا أنفسهم

36: أيسر التفاسير للجزائري (5/ 81)

إن كانوا ما ينظرون بإيمانهم إلا الساعة

37: زاد المسير في علم التفسير (4/ 168)

كانوا ما ينامون قليلا من اللّيل.

38: تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 307)

كانوا ما يهجعون قليلا من الليل

39: تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (4/ 238)

وإن كانوا ما يذكرون في الحقيقة غير اللَّه

40: الروض الأنف (3/ 27)

حَتّى كَانُوا مَا يُصَلّونَ إلّا وَهُمْ قُعُودٌ

وهذه بعض الأمثلة من الاف الأمثلة، التي بإمكاننا أن نسوقها في هذا السياق. فهل كان سيوبيه وابن جني وغيرهم من فحول النحو والتفسير واللغة غافلين عن ركاكة هذا التركيب يا ترى!؟ الجواب لكم…