ملحوظة: من يشق عليه قراءة المقال كله بإمكانه بعد المقدمة الانتقال مباشرة لتلخيص البحث والنتيجة أو الانتقال مباشرة إلى النتيجة.


مقدمة:

من النكات الأدبية والمظاهر الإعجازية الواردة في كتابات المسيح الموعود عليه السلام، ما جاء في الفقرة التالية من كتاب سر الخلافة:

ووالله، ما أرى مثل هذا الذكر الصريح ثابتٌ بالتحقيق الذي مخصوص بالصدّيق لرجل آخر في صحف رب البيت العتيق. {سر الخلافة (4/ 29)}

فقد أشكلت هذ الفقرة على البعض معتبرين ما فيها من رفع لكلمة “ثابتٌ ” خطأ، إذ لا بد من نصبها وفق زعهمهم على اعتبارها مفعولا به للفعل “أرى“.

ولنا أن نجزم بعد البحث والتحري، أنه لا خطأ وارد في كل هذا البتة! بل لا بدّ أن نفاجئ كل من أشكل عليه رفع كلمة “ثابتٌ” بتنبيهه إلى غفلته التي لم يتنبه لها، وهي أن كلمة “مثل” جرى عليها نفس هذا الرفع أيضا. وقد جاءت هذه الغفلة لأن هذه الكلمة ليست محركة في الأصل، فظنوا أنها منصوبة على اعتبارها مفعولا به أولا للفعل “أرى“؛ رغم أن الحقيقة ليست كذلك. إذ لم يرتفع أي مفعول به في هذه الفقرة البتة. ودعونا نفاجئ كل من غفل عن كل هذا مرة أخرى، بالقول إن القضية لا تتعدى مسألة عدم رفع المفعول به في هذه الفقرة، بل الحقيقة أنه لا وجود لأي مفعول به في هذه الفقرة كلها!!!!! فما السر أو الأسرار يا تُرى في كل هذه المفاجئات!؟

السر الأول: أن هذا الفعل الوارد في هذه الفقرة هو الفعل “رأى” بتصريفه للمضارع مع المتكلم بصيغة “أرى”، وهو في الحقيقة فعل من أفعال القلوب التي هي من الأفعال الناسخة المعروفة ب “ظن وأخواتها” مثل الأفعال التالية: علِمَ، رأى، وجد، دَرَى، ألفَى، جَعَل، تعلَّم، بمعنى: اعلم. وهذه الأفعال الناسخة تدخل في الغالب على المبتدا والخبر فتنصبهما ليكونا مفعولين للفعل، أي أن هذه الأفعال تنصب مفعولين، وهنالك أخرى ينصب ثلاثة مفاعيل.

وأما السر الثاني فهو أن هذه الأفعال القلبية تسري عليها قواعد خاصة لا تسري على باقي الأفعال الأخرى، وهذه الأحكام هي التي تنطبق على الفقرة الواردة أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام. وما جاء في هذه الفقرة جاء بناء على حكمين أساسيين ينطبق على الأفعال المتصرفة من أفعال القلوب هذه وهما حكما: الإلغاء والتعليق. وهما حكمان يكُفّان هذه الأفعال عن العمل وجوبا أو جوازا.


تفصيل البحث:

وعن أحكام هذه الأفعال فصّلت المصادر النحوية الأمور التالية:

جاء في كتاب النحو الوافي ما يلي:

ب- الأحكام الأربعة الخاصة بالأفعال القلبية المتصرفة .

عرفنا أن الأفعال القلبية متصرفة، إلا فعلين؛ هما: “تعَلَّمْ” بمعنى “اعلَمْ”، و”هَبْ” بمعنى: “ظُنَّ”…

الحكم الأول -التعليق:

ومعناه: “منع الناسخ من العمل الظاهر في لفظ المفعولين معاً، أو لفظ أحدهما، دون منعه من العمل في المحلّ” . فهو في الظاهر ليس عاملاً النصب، ولكنه في التقديرعامل. وهذا ما يعبر عنه النحاة بأنه:

“إبطال العمل لفظاً، لا محلاً”. سواء أكان أثر الإبطال واقعاً على المفعولين معاً، أم على أحدهما.

هذا المنع والإبطال واجب إلا في صورة واحدة . وسببه أمر واحد، هو: وجود لفظ له الصدارة يَلِي الناسخ؛ فيفصل بينه وبين المفعولين معاً،أو أحدهما، ويَحُول بينه وبين العمل الظاهر، ويسمى هذا اللفظ الفاصل: “بالمانع” ويقع بعده جملة -في الغالب-؛ ففي مثل: علمت للبلاغةُ إيجازٌ، ورأيت للإطالةُ عجزٌ. نجد: … -لم يَنصب كل من الفعلين شيئاً في الظاهر، بسبب وجود “لام الابتداء” التي فصلت بين كل فعل ناسخ ومفعوليه- وهي من ألفاظ التعليق، أي: من الموانع -، ولكن هذا الفعل يَنْصِب المحلّ؛ فنقول عند الإعراب: “البلاغة”: مبتدأ- “إيجازٌ”: خبره. والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب؛ سدّت مَسدّ مفعولي “عَلم” (وهذه الجملة هي التي تَلِي -في الغالب- اللفظ المانع من العمل) .

وكذلك نقول: “الإطالةُ”: مبتدأ -“عجزٌ”: خبره. والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب؛ سدّت مسد مفعولَيْ: “رأى”. فقد وقع التعليق بسبب وجود المانع من العمل، ووقع بعد المانع جملة محلها النصب؛ لتسدّ مسد المفعولين.

أما في مثل: علمت البلاغةَ لَهِي الإيجازُ، ورأيت الإطالةَ لَهِيَ العجزُ، فاللفظ المانع من العمل -وهو لام الابتداء- قد وقع في المثالين بعد المفعول به الأول، ووقع بعد المانع جملة سدت مَسَدّ المفعول به الثاني الذي لا يظهر في الكلام، وحلَّت محله وحده. فعند الإعراب يَحْتَفظ المفعول به الأول باسمه وبإعرابه؛ (مفعولاً به أول، منصوباً) . وتعرب الجملة التي بعد المانع إعرابها التفصيلي، ويزاد عليه: “أنها في محل نصب؛ سدّت مسد المفعول به الثاني الذي وقع عليه التعليق”…..

فمتى وقع بعد الناسخ مانع بإحدى الصورتين السالفتين مَنع العمل الظاهر حتماً، دون العمل التقديريّ (المحليّ) كما رأينا، وأوجب التعليق .

وأشهر الموانع الألفاظ الآتية التي لها الصدارة، وكل واحد منها يوجب (4) التعليق:

  • (أ) لام الابتداء، كالأمثلة السالفة.
  • (ب) لام القسم: نحو: علمت لَيُحَاسَبَنَّ المرء على عمله.
  • (ج) حرف من حروف النفي الثلاثة : (ما – إنْ – لا) دون غيرها من أدوات النفى الأخرى. فمثال “ما” النافية: علمت ما التهوّرُ شجاعةٌ. ومثال “إنْ” النافية: زعمت إنْ الصفحُ الجميلُ ضارٌّ (أي: ما الصفح الجميل ضارّ) ومثال “لا” النافية: ألفيتُ لا الإفراطُ محمودٌ ولا التفريط .
  • (د) الاستفهام؛ وله صور ثلاث: أن يكون أحد المفعولين اسم استفهام

نحو: علمت أيُّهم بطلٌ؟ أو يكون مضافاً إلى اسم استفهام؛ نحو: علمت صاحبُ أيِّهم البطلُ؟ أو يكون قد دخلت عليه أداة استفهام؛ نحو: علمت أعليٌّ مسافرٌ أم مقيمٌ؟ وأعلمُ على الشتاء أنسبُ للعمل من الصيف؟ وقولهم لظريف: لا ندري أجِدُّك أبلغُ وألطفُ، أم هزلُك أحبُّ وأظرف؟.

  • (هـ) الألفاظ الأخرى التي لها الصدارة في جملتها؛ مثل “كم”. الخبرية؛ في نحو: دريْت كم كتاب اشتريته. ومثل: “إنّ” وأخواتها، ما عدا “أنّ” مفتوحة الهمزة؛ فليس لها الصدارة؛ نحو: علمت إنك لمُنصف ،

(إ.ه) (النحو الوافي)

وعن الحكم الثاني وهو الإلغاء جاء في النحو الوافي ما يلي:

الحكم الثاني – الإلغاء:

وهو: “منع الناسخ من نصب المفعولين معاً، لفظاً ومحلا، منعاً جائزاً، -في الأغلب- لا واجباً . أو هو: “إبطال عمله في المفعولين معاً لفظاً ومحلاًّ، على سبيل الجواز لا الوجوب”. ولا يصح أن يقع المنع على أحد المفعولين دون الآخر.

وسببه: إمَّا توسط الناسخ بين مفعوليه مباشرة بغير فاصل آخر بعده يوجب التعليق ، وإما تأخره عنهما. فإذا تحقق السبب جاز -في الأغلب – الإعمال أو الإهمال، وإن لم يتحقق وجب الإعمال. فللناسخ ثلاث حالات من ناحية موقعه في الجملة، وأثر ذلك:

الأولى: أن يتقدم على المفعولين. وفي هذه الحالة يجب إعماله -عند عدم المانع-؛ فينصبهما مفعولين به، نحو: رأيت النزاهةً وسيلةً لتكريم صاحبها.

الثانية: أن يتوسط بين مفعوليه مباشرة. وفي هذه الحالة يجوز -في الأغلب – إعماله؛ فينصبهما مفعولين به؛ نحو: النزاهةَ – رأيت – وسيلةً لتكريم صاحبها. ويجوز إهماله ؛ فلا يعمل النصْبَ فيهما معاً، ولا في أحدهما؛ وإنما يرتفعان باعتبارهما جملة اسمية: (مبتدأ وخبراً)، ونحو: النزاهةُ – رأيت – وسيلةٌ لتكريم صاحبها.

الثالثة: أن يتأخر عن مفعوليه؛ والحكم هنا كالحكم في الحالة السابقة؛ فيجوز إعماله فينصب المفعولين؛ نحو: النزاهةَ وسيلةً لتكريم صاحبها – رأيت.ويجوز إهماله فلا يعمل النصب ويرتفع الاسمان باعتبارهما جملة اسمية، مركبة من مبتدأ وخبره؛ نحو: النزاهةُ وسيلةٌ لتكريم صاحبها – رأيت.” (إ.هـ) (النحو الوافي)

ويلخّص النحو الوافي الفرق بين التعليق والإلغاء بما يلي:

مما تقدم ندرك أوجه الفرق بين التعليق والإلغاء؛ وأهمها:

  • (أ‌) أن التعليق واجب عند وجود سببه. أما الإلغاء فجائز – في الأغلب – عند وجود سببه.
  • (ب) أن أثر التعليق يصيب المفعولين معاً أو أحدهما. أما الإلغاء فيصيبهما معاً.
  • (ج) ان أثر التعليق لفظي ظاهري، لا يمتد إلى الحقيقة والمحل. وأثر الإلغاء لفظيّ ومحليّ معاً.
  • (د) أن التعليق يجوز في توابعه مراعاة ناحيته اللفظية الظاهرية، أو مراعاة ناحيته المحلية. والإلغاء لا يجوز في توابعه إلا مراعاة الناحية الواحدة التي هو عليها؛ وهي الناحية الظاهرة المحضة.
  • (هـ) أن التعليق لابد فيه من تقدم الناسخ على معموليه؛ ومن وجود فاصل بعده له الصدارة.

أما الإلغاء فلا بد فيه من توسط الناسخ بينهما، أو تأخره عنهما؛ وليس في حاجة بعد هذا إلى فاصل، أو غيره.” (إ.هـ) (النحو الوافي)

مما سبق يتضح أن الإلغاء لا يتحقق إلا إذا توسط الفعل الناسخ بين مفعوليه أو تأخر عنهما، ولا يمكن أن يتحقق الإلغاء إذا تقدم الفعل الناسخ على مفعوليه، وهذا هو الرأي الذي يذهب إليه النحو الوافي.

غير أنه عند البحث المستفيض في هذه المسألة يتضح أن ما ذهب إليه النحو الوافي ليس قطعيا. إذ إن هنالك من النحاة من جوّز الإلغاء حتى عند تقدم الفعل الناسخ على مفعوليه، كما تبينه النصوص التالية: التركيز على ما كتب بالخط العريض

جاء في كتاب المدارس النحوية (ص: 98)

وكان سيبويه لا يجيز إلغاء ظن وأخواتها إذا تلاها المفعولان، وجوز ذلك الأخفش وتابعه الكوفيون، مستدلين جميعا بقول بعض الشعراء:إني رأيت ملاكُ الشيمة الأدب ُوقول آخر:وما إخال لدينا منك تنويلُ” (إ.هـ)

وجاء في همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (1/ 551)

[الإلغاء]

ص وَخص متصرف القلبي بالإلغاء آخرا ووسطا وَالْأَكْثَر يُخَيّر وَهُوَ أولى آخرا وَفِي الْوسط خلف لَا مقدما خلافًا للكوفية والأخفش وَيَنْوِي الشَّأْن فِي موهمه وَيجوز بِضعْف بعد مَعْمُول فعلى الْأَصَح يجوز ظَنَنْت يقوم زيدا وَنعم الرجل زيدا وآكلا زيدا طَعَامك وَقد يَقع ملغى بَين معمولي إِن وعطفين وسوف وَلَا يجب إِلْغَاء مَا بَين الْفِعْل ومرفوعه خلافًا للكوفية ….

أما إِذا تصدر الْفِعْل فَلَا يجوز فِيهِ الإلغاء عِنْد الْبَصرِيين وَجوزهُ الْكُوفِيُّونَ والأخفش وَأَجَازَهُ ابْن الطراوة إِلَّا أَن الإعمال عِنْده أحسن وَاسْتَدَلُّوا بقوله 594 –

(أنِّي رَأيْتُ مِلاَكُ الشِّيمةِ الأدَبُ … )وَقَوله 595 -(وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مَنْكِ تَنْويلُ … )وَقَوله 596 -(وإخَال إنّي لاَحِقٌ مُسْتَتْبعُ … ) بِالْكَسْرِ والبصريون خَرجُوا ذَلِك على تَقْدِير ضمير الشَّأْن لِأَنَّهُ أولى من إِلْغَاء الْعَمَل بِالْكُلِّيَّةِ …. فَإِن تقدم الْفِعْل على المفعولين وَلكنه تقدمه مَعْمُول جَازَ الإلغاء بِضعْف نَحْو مَتى ظَنَنْت زيد قَائِم وَقد يَقع الملغى بَين معمولي إِن كَقَوْلِه 597 –

(إنّ المُحِبَّ عَلِمْتُ مُصْطَبرُ … )

وَبَين مَعْطُوف ومعطوف عَلَيْهِ كَقَوْلِه 598 –

(وَلَكِن دَعاك الخُبْزُ أَحْسَبُ والتّمْرُ … )

وجاء في شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 364)

وجوز الإلغاء لا في” حال “الابتدا” بالفعل، بل في حال توسطه أو تأخره، وصدق ذلك بثلاث صور:

الأولى: أن يتوسط الفعل بين المفعولين، والإلغاء والإعمال حينئذ سواء، كقوله “من الوافر”:..

الثانية: أن يتأخر عنهما، والإلغاء حينئذ أرجح، كقوله “من الخفيف”:..

الثالثة: أن يتقدم عليهما ولا يبتدأ به، بل يتقدم عليه شيء، نحو: “متى ظننت زيدا قائما”، والإعمال حينئذ أرجح، وقيل: واجب.

ولا يجوز إلغاء المتقدم، خلافا للكوفيين والأخفش؛ “وانو ضمير الشأن”؛ ليكون هو المفعول الأول، والجزآن جملة في موضع المفعول الثاني، “أو” انو “لام ابتدا” لتكون المسألة من باب التعليق “في موهم إلغاء ما تقدما” كقوله “من البسيط”:

334-أرجو وآمل أن تدنو مودتها … وما إخال لدينا منك تنويل

وقوله “من البسيط”: كذاك أدبت حتى صار من خلقي … أني رأيت ملاك الشيمة الأدب

فعلى الأول التقدير: إخاله، ورأيته: أي الشان، وعلى الثاني لملاك، وللدينا، فالفعل عامل على التقديرين.

نعم يجوز أن يكون ما في البيتين من باب الإلغاء؛ لتقدم “ما” في الأول و”إني” في الثاني على الفعل، لكن الأرجح خلافه، كما عرفت، فالحمل على ما سبق أولى…… (إ.ه)

وبعد أن أقر الأشموني بجواز الإلغاء عند تقدم الفعل الناسخ على مفعوليه كما في الأبيات السابقة لتقدم “ما” و”إني” على الفعل الناسخ، تابع في تخريج البصريين لها، حيث جاء في هامش شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 367):

الشاهد: قوله: “رأيت ملاكُ الشيمة الأدبُ” حيث ألغى عمل “رأيتُ” مع تقدمه، ولو أعمله لقال: “رأيت ملاك الشيمة الأدبا” بنصب “ملاك” و”الأدبا” على أنهما مفعولان لـ”رأيت”. وخرّجه البصريون على ثلاثة أوجه: الأول أنه من باب التعليق، ولام الابتداء مقدرة الدخول على “ملاك”. والثاني أنه من باب الإعمال، والمفعول الأول ضمير شأن محذوف، وجملة المبتدأ وخبره في محل نصب مفعول ثان. والثالث أنه من باب الإلغاء، ولكن سبب الإلغاء أن الفعل لم يكن في أول الكلام، بل قد سبقه قول الشاعر “أني“. (إ.هـ)


تلخيص البحث:

يتضح من كل ما تقدم ما يلي:

– الفعل (رأى/ أرى) هو من أفعال القلوب المتصرفة التي تنصب مفعولين، أي التي تُعتبر أفعالا ناسخة من أخوات “ظن”، والتي تدخل على المبتدأ والخبر فتصبهما ليكونا مفعولين لها.

– تسري على رأى كما على باقي أفعال القلوب المتصرفة أحكام خاصة تكفها عن العمل جوازا أو وجوبا.

– من هذه الأحكام التي تسري على الفعل رأى هو التعليق، والذي يعني منع الفعل من نصب المفعولين معا أو أحدهما لتوسط أداة مانعة من الأدوات التي لها الصدارة بين الفعل ومفعوليه أو أحدهما.

– التعليق يعني منع الفعل من العمل على اللفظ دون المحل، أي يرتفع اللفظ ليبقى المحل منصوبا.

– من أدوات المنع التي تعلق هذه الأفعال عن العمل وهي التي لها الصدارة، الأدوات التالية: لام الابتداء، لام القسم، أدوات النفي (ما، إن،لا)، أدوات الاستفهام، كم الخبرية، وإن وأخواتها.

– اذا سبقت أدوات التعليق المفعولين علقت الفعل من العمل على كليهما فيرتفعان. وإن سبقت المفعول الثاني علقت الفعل من العمل عليه فقط دون الأول فيبقى الأول منصوبا.

– التعليق بتوسط أدوات المنع هذه هو واجب على الأغلب.

– أمثلة على التعليق لجملة “رأيت البلاغةَ ايجازًا” : “رأيت للبلاغةُ إيجازٌ” ” رأيت البلاغةَ لهي الإيجازُ”

– أما الإلغاء فهو منع الفعل الناسخ من نصب المفعولين معا، إذ لا يجوز فقط أحدهما كما في التعليق.

– يكون الإلغاء بامتناع النصب لفظا ومحلا، لا لفظا فقط كما في التعليق.

– سبب الألغاء هو توسط الفعل الناسخ ووقوعه بين المفعولين أو تأخره عنهما.

– الإلغاء على الأغلب يكون جوازا وليس وجوبا، أي يمكن إعمال الفعل الناسخ وإهماله.

– أمثلة على الألغاء لجملة “رأيت العلمَ مفيدًا”: العلمُ رأيت مفيدٌ، العلمُ مفيدٌ رأيت. ومن الممكن إعمال الفعل في كل هذه الأمثلة ليبقى المفعولان منتصبين.

– عند تحقق الإلغاء يرتفع المفعولين على اعتبارهما مبتدا وخبرا كما في أصل الجملة.

– الرأي الغالب في الإلغاء أنه لا يتحقق إذا تقدم الفعل الناسخ على مفعوليه، بل لا بد من توسطه بينهما أو تأخره عنهما. وهذا هو الرأي الذي يرجحه النحو الوافي. إلا أنه في الحقيقة هذا موضع خلاف بين النحاة.

– الأشموني في شرحه للكوفية والهمع يقرّون أن الكوفيون والأخفش وابن الطراوة يجوّزون الإلغاء عند تقدّم الفعل الناسخ على مفعوليه .

– الهمع يقرّ بجواز الإلغاء مع ضعفه، عند تقدم الفعل الناسخ على فعليه إذا سبقه معمول له مثل “متى” ك”متى ظننت الولدُ بارٌ”

– الأشموني يقرّ بإمكانية وجواز الإلغاء عند تقدّم الفعل الناسخ على مفعوليه إذا سبقه أو تقدم عليه شيئ مثل “متى” وما النافية و” إني” كما في الأبيات التالية:

أرجو وآمل أن تدنو مودتها … وما إخال لدينا منك تنويل

كذاك أدبت حتى صار من خلقي … أني رأيت ملاك الشيمة الأدب

– واضح وثابت ورود الإلغاء في كلام العرب عند تقدم الفعل الناسخ على مفعوليه كما في الأبيات السابقة. غير أن البصريين لعدم قبولهم بالإلغاء في هذه الحالة خرّجوا هذا على ثلاث قواعد: 1- الإعمال بإضمار ضمير الشأن في الفعل الناسخ واعتبار هذا الضمير مفعولا أولا والجملة بعده مفعولا ثانيا، ليكون التقدير: “وما أخاله لدينا منك تنويلُ”. 2- التعليق بإضمار لام الابتداء بعد الفعل الناسخ ليكون التقدير “إني رأيت لملاكُ الشيمة الأدبُ”3- الإلغاء والذي سببه تقدم لفظ أو معمول قبل الفعل الناسخ مثل “ما النافية” و “إني”.


النتيجة:

– ثبتت صحة فقرة المسيح الموعود عليه السلام والتي جاء فيها: “ووالله، ما أرى مثلُ هذا الذكر الصريح ثابتٌ بالتحقيق الذي مخصوص بالصدّيق لرجل آخر في صحف رب البيت العتيق.” {سر الخلافة (4/ 29)}. وذلك وفق التخريجات التالية:

– وفق المذهب الكوفي الذي يجيز الإلغاء في أفعال القلوب التي تنصب مفعولين عند تقدّم الفعل الناسخ على فعليه. ليكون الفعل “أرى” ملغى لا يعمل في مفعوليه، وتكون الكلمات “مثلُ” و “ثابتٌ” مرفوعة على اعتبار أنها مبتدأ وخبر على التوالي، بحيث لا يعتبران في هذه الحال أنهما مفعولين.

– ثبتت صحة هذه العبارات أيضا وفق المذهب البصري الذي أوّل ما ثبت في كلام العرب من الإلغاء المشابه بثلاثة طرق وهي:

  1. أولا: إعمال الفعل “أرى” بإضمار ضمير الشأن فيه، ليكون التقدير: ووالله، ما أراهُ مثلُ هذا الذكر الصريح ثابتٌ. ليكون ضمير الشأن في محل نصب مفعولا أولا، وتكون الجملة التالية له “مثلُ هذا الذكر ثابتٌ” في محل نصب المفعول الثاني.
  2. ثانيا: تعليق الفعل ” أرى” بإضمار وتقدير لام الابتداء بعده، ليكون التقدير: “ووالله، ما أرى لَمثلُ هذا الذكر الصريح ثابتٌ”؛ لتكون الألفاظ ” “مثلُ” و”ثابتٌ” مبتدأ وخبرا على التوالي، والجملة الاسمية “لمثلُ هذا الذكر الصريح ثابتٌ” في محل نصب سدت مسد فعلي “أرى”.
  3. ثالثا: إهمال “أرى” نظرا لتقدم الألفاظ “والله ما” على الفعل الناسخ لا سيما ما النافية وهو ما يشبه البيت الآنف الذكر: أرجو وآمل أن تدنو مودتها … وما إخال لدينا منك تنويل.

وبذلك نكون قد خرّجنا رفع الألفاظ “ثابت” و”مثل” وفق أربع طرق واحدة وفق المنهج الكوفي ومن وافقهم مثل الأخفش وابن الطراوة، وثلاث طرق وفق المنهج البصري.

وبذلك يثبت بما يقطع الشك باليقين صحة رفع المسيح الموعود عليه السلام لما ظُن خطأ أنها مفاعيل واجبة النصب في الفقرة الآنفة الذكر.

وثبت أن ما ذهب إليه المسيح الموعود من الإلغاء أو التعليق للفعل القلبي “أرى“، ما هي إلا لغة عربية صحيحة تندرج تحت الأربيعن ألف لغة التي علمها الله تعالى للمسيح الموعود عليه السلام في ليلة واحدة. جاءت هذه اللغة لتشهد على صدقه عليه السلام وصدق إعجازه اللغوي وصدق نبوته.

وبذلك يكون ما ظنه البعض أنه رفع للمفعول في هذه الفقرة، ما هي إلا نكتة أدبية أخرى جاءت مصداقا لقول حضرته عليه السلام حيث قال: ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين. حيث إن الاألفاظ المرفوعة ليست هي بمفاعيل، بل مبتدأ وخبر، بقيت على رفعها كما هي في أصل الجملة، نظرا لإلغاء أو تعليق الفعل القلبي رأى أو إضمار ضمير الشأن فيه.

فاعتبروا يا أولي الألباب!!!


الجزء الثاني من هنا