# المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..211

هراء المعترض في صفة التفضيل (أعثَر مِن)

الاعتراض:

نعرض فيما يلي اعتراض المعترضين بحذافيره كما عرضوه بصيغة التحدي فقالوا:

“التحدي التاسع الثلاثون: اسم التفضيل

إذا أُضيف اسم التفضيل إلى نكرة فيلزمه الإفراد والتذكير والتنكير، ويكون المفضَّل عليه (المضاف إليه) مطابقا للمفضَّل في النوع والعدد. كما أنه لا يُشتقّ من الفعل غير القابل للتفاوت، مثل مات، إلا إذا حمل معنى آخر.

وفيما يلي أخطاء الميرزا:

1: وقد وجب علينا إعلام المتغفلين بأسرع أوقات (نور الحق، ص 17). الصحيح: في أسرع وقت.

2: وتبلُغ دعوتُه وحجّته إلى أقطار الأرض بأسرعِ أوقاتٍ كبرق يبدو من جهة فإذا هي مشرقة في جهات. (الخطبة الإلهامية، ص 76). الصحيح: في أسرع وقت.

3: فأي دليل واضح من هذا إن كنت من المنصفين؟ (حمامة البشرى، ص 191). الصحيح: أوضح.

4: يقولون أنت كاذب! فما لهم إنهم ينبّهونني عني، ويظنون أنهم أعثَرُ على نفسي مني؟ (مواهب الرحمن، ص 41). الصحيح: أعرف.

“عثرَ الرّجل يعثرُ عثراً إذا اطلّع على شيء لم يطلّع عليه غيره” (العين). وحيث إنّ عملية العثور على الشيء تتمّ في لحظة، فلا مجال للتفاوت فيها، أي لا يصحّ أن نقول إن زيدا عثر على الكنز أكثر من عمرو، بل هما متساويان في العثور عليه، ولا مجال للمقارنة في العثور نفسه، بل يمكن أن نقارن بينهما في سرعة العثور مثلا، فنقول: زيد أسرع من عمرو في عثوره على الكنز.

5: وفي كلّ سنةٍ يرى صورته أوحشَ من سنة أولى (الاستفتاء، ص 10). الصحيح: أوحش من السنة السابقة.

6: وثبت بالقطع واليقين أن زمان الأمّة المرحومة المحمدية قليل في الحقيقة من زمان الأمّة الموسوية والعيسوية (الخطبة الإلهامية، ص 110 – 111). الصحيح: أقلّ.

7: وهو أول رجال بايعوني [حمامة البشرى]

8: فالزمان الأوّل هو زمانٌ أوّل من القرون الثلاثة مِن بُدُوِّ زمان خير البرية. (سر الخلافة) الصحيح:فالزمان الأول هو أول القرون الثلاثة بعد خير البرية

9: هذا آخرُ حِيَلٍ أردناه في هذا الباب. (مكتوب احمد )  الصحيح: هذه آخر حيلة أردناها ” [ إلى هنا النقل عن المعترضين].

 

الرد :

نخصّ هذا المقال للرد على الفقرة الرابعة من هذا الاعتراض والتحدي. فملخص قول المعترض فيها أنه لا يجوز صوغ (أفعَل التفضيل) من الفعل (عثَر) لأنه غير قابل للتفاوت. وقد برّر زعمه الواهي هذا بكون العثور يحدث في لحظة فلا مجال حينها للتفاوت فيه.

قلت: هذا قمة الهراء اللغوي، فإمكانية التفاوت والتفاضل في الفعل لا تقاس بكون الفعل يحدث في لحظة أو لا، وإنما بمجرد إمكانية تصور التفاوت فيه أو لا. فقد يحدث الفعل بلحظة معينة، ولكن يستمر حدوثه بعدها ويتكرر ويزداد، الأمر الذي يجعل التفاوت فيه ممكنا. ومثال ذلك الفعل (علِم). فالعلم بجزء معين من الشيء قد يحدث في لحظة واحدة، ولكن هذا العلم قد يتكرر أكثر من مرة بالنسبة للأجزاء الأخرى المتعلقة بالشيء نفسه، وهذا بحدّ ذاته يجعل التفاوت ممكنا في العلم، فنقول: خالد أعلم بالأمر من عمرو.

وهذا الأمر صحيح بالنسبة للفعل (عثَر)، والذي يعني (الاطلاع) على الشيء، حيث جاء في معناه :

” والعَثْرُ: الإِطلاع عَلَى سِرّ الرَّجُلِ. وعَثَر عَلَى الأَمر يَعْثُرُ عَثْراً وعُثُوراً: اطَّلَعَ. وأَعْثَرْتُه عَلَيْهِ: أَطلعته. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ؛ أَي أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ غيرَهم، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ؛” [لسان العرب (4/ 540)]

فالاطّلاع على جزء معين من الأمر قد يحدث في لحظة أو أكثر، ولكن هذا الاطّلاع قد يتكرر ويستمر مما يجعل التفاوت فيه ممكنا، فالاطّلاع على الأمر لا يختلف عن العلم به، فنقول: خالد أكثر اطّلاعا على الأمر من عمرو. ومن هنا، فالتفاوت في الاطلاع ممكن لا يختلف فيه عاقلان، ولذا فالتفاوت في الفعل (عثر) صحيح لا شبهة فيه؛ وعليه فلا إشكال في صوغ (أفعَل التفضيل) من الفعل (عثَر) والقول: خالد أعثرُ على الأمر من زيد.

صوغ أعثر من لإمكانية التفاوت في العثور:

وهنا لا بدّ من ذكر الشروط المتعلقة بصوغ (أفعل التفضيل)، حيث جاء:

“قال ابن مالك عن صياغة كل من “صيغتي التعجب واسم التفضيل” من الأفعال:

وصُغْهما من ذي ثلاثٍ صُرِّفَا … قابِلِ فَضْلٍ تمَّ غيرِ ذي انْتفا

وغيرِ ذي وصف يُضَاهِي أشْهَلا … وغيرِ سالكٍ سبيلَ فُعِلَا

ففي هذين البيتين الصفات التي ينبغي توافرها في الفعل الذي يصاغ منه اسم التفضيل -ومثله صيغتا التعجب- وهي -كما وردت في البيتين بالترتيب- سبع صفات:

1- أن يكون الفعل ثلاثيًّا.

2- أن يكون متصرِّفا.

3- أن يكون الفعل قابلا للمفاضلة، لكي يحقق معنى “اسم التفضيل”.

4- أن يكون الفعل تامّا، وقد سبق تحديد التام والناقص.

5- ألا يكون الفعل منفيًّا.

6- ألا تكون الصفة المشبهة منه على “أفعل” الدال على الألوان أو العيوب والحلي مثل “أشْهَل، أسْوَد”.

7- ألا يكون مبنيا للمجهول.

فلنلاحظ الأمثلة التالية:

– أفعال استوفت الشروط فيأتي منها اسم التفضيل:

“كَرُمَ، سَاءَ، ضَبَطَ، هَدَى، ضَلَّ، نَبُه، شَرُف”.

– أفعال لم تستوفِ الشروط فلا يبنى منها اسم التفضيل.

تجمع، استمع، ليس، نِعْم، بئس، غربت الشمس، مات، كان، أصبح، ما ضلّ وما غَوَى، سَوِدَ، خَضِرَ، قُرِئَ، سُئِلَ.

هذه صفات ما يبنى منه اسم التفضيل من الأفعال، فما لم يستوف هذه الصفات مجتمعة -بأن نقص منها واحدة أو أكثر- فلا يبنى منه اسم التفضيل على صورته التي سبق شرحها، بل تسلك اللغة طريقتين للإتيان باسم التفضيل منها على التفصيل التالي:

الطريقة الأولى: لاحظ الأمثلة التالية:

الشعبُ المتحضرُ أسْمَى إحْسَاسَا من المتخلِّف.

الظلمُ أشَدُّ سوادًا من الظلام.

تستخدم هذه الطريقة للتفضيل مع صنفين من الأفعال هما: ما زاد على ثلاثة مثل “أحَسَّ” وما كان الوصف منه على أفعل مثل “سَوِدَ”.

وتتكون جملة التفضيل فيها -كما ترى في الأمثلة- من الإتيان “باسم مناسب على وزن أفعل + المصدر الصريح للفعل منصوبا على التمييز بعده”.

الطريقة الثانية: لاحظ الأمثلة التالية:

الظّلمُ أوْقَعُ ما يكونُ مؤلما مع رؤيةِ الظالم والعجز عنه.

الكلامُ المفيدُ أحَقُّ أن لا يُترَك والكلامُ الرخيصُ أولى أنْ لا يُسمَعَ.

المحسنُ أحَقُّ أنْ يُكَافَأَ والمسيءُ أوْلَى أن يعاقب.

تستعمل هذه الطريقة مع ثلاثة أنواع من الأفعال هي “الناقصة، المنفية، المبنية للمجهول” وتتكون جملة التفضيل فيها -كما ترى في الأمثلة- من الإتيان “باسم مناسب على وزن أفْعَل + المصدر المؤول بعده”.

أما الأفعال الجامدة والأفعال التي لا تفاضل في معناها، فلا يأتي منها اسم التفضيل مطلقا. [النحو المصفى (ص: 680- 681)]

ملخص هذه الشروط :

أن الأفعال التي تستوفي هذه الشروط يصاغ منها التفضيل مباشرة على وزن (أفعَل مِن) من الفعل نفسه.

أما إذا لم يستوف الفعل هذه الشروط فيصاغ التفضيل فيه بطريقة غير مباشرة ، بجلب صيغة (أفعَل) مِن أي فعل آخر مع مصدر الفعل نفسه، فنقول: زيد أكثر تواضعا من عمرو. لأن الفعل (تواضع) خماسي لا يصاغ منه أفعل التفضيل مباشرة.

والمهم في كل هذا أن الفعل إذا كان جامدا أو غير قابل للتفاوت فلا تصاغ منه أفعل التفضيل بتاتا لا بطريقة مباشرة  ولا بطريقة غير مباشرة. فلا يمكننا القول: خالد أموت من زيد، ولا خالد أكثر موتا من زيد، لأن الفعل (مات) لا تفاوت فيه.

فلو كان الفعل (اطلّع) وما بمعناه (عثر)، غير قابل للتفاوت، لما صحّ صوغ التفضيل فيه بالصورة غير المباشرة كالقول (خالد أكثر اطّلاعا على الأمر من زيد)، وكلّنا يعلم أن هذا جائز صحيح، فثبت أن التفاوت موجود في (الاطلاع) ولا خطأ فيه.

وكما قلنا فإن الاطلاع على الشيئ هو في الحقيقة كالعلم به وبتفاصيله ، وفي هذا جاء في شرح الشاطبي لألفية ابن مالك، عن معنى وضابط هذه المفاضلة والتفاوت المتعلقة بصوغ صيغ التعجب، والتي هي نفسها منطبقة على صوغ أفعَل التفضيل:

“الرابع أن يكون قابلا للفَضْل، أي قابلاً لأن يَفْضُل فيه واحدٌ من المتَّصفِين به الآخرَ، كَعِلَم، وجَهِلَ؛ فإن العلم والجهل يُتصوَّر فيهما الزيادةُ والنُّقصان، وأن يَفْضُل فيهما الرجلُ رجلاً آخر، وهو المراد بقوله: ((قَابِلِ فَضْلٍ)).

وضابط ذلك من الأوصاف الأوصافُ الإضافيَّةُ التي لا تكون على حالةٍ واحدة، بل تختلف بحسب الآراء والمذاهب والأمزجة والطباع، كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد في حَالَيْن، كالعِلْم والجَهْل، أو شَخْصَيْن كالحُسْن والقُبْح، فإنك تقول: ما أَعْلَمَهُ، وما أَجْهَلَهُ، وما أَحْسَنَهُ، وما أَقْبَحَهُ.

ولا يُعتبر في ذلك كونُ الشخص الواحد لا يتَغَير ذلك الوصف فيه بالأشدِّ والأَضْعف، بل المعتبر تصوُّرُ الصفة كذلك لا بقَيْدِ شخص.

وهذا التفسير جارٍ على كلام الناظم؛ إذ لم يُقَيِّد المفاضلةَ بكونها بالنسبة إلى الشخص الواحد. فلو كان الوصف غير قابل للمفاضلة بهذا التفسير لم يُبْن منه فعلُ التعجُّب، فلا تقول: ما أَعْمَى زيداً، وأنت تريد عَمَى البَصَر، ولا ما أَمْوَتَ زيداً، ولا ما أَعْوَرهُ، ولا ما أشبه ذلك.” [شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية (4/ 460-461)]

فوفق هذا فإن الفعل الذي يمكن صوغ أفعَل التفضيل منه، هو الذي ممكن أن يُتصور فيه الزيادة والنقصان (كالعِلم) مثلا. وكما ذكرنا فإن الاطّلاع أي العثْر والعثور على الشيء هو كالعلم به ويُتصور فيه الزيادة والنقصان، فنقول هذا أكثر اطّلاعا وهذا أقل اطلاعا، وبناء عليه نقول هذا أعثَر من ذاك أي أكثر عثورا واطلاعا منه؛  سوى أن الفرق بين الفعل (اطّلع) والفعل (عثر) هو كون الأول ليس ثلاثيا، وتصاغ منه المفاضلة بطريقة غير مباشرة، والثاني ثلاثيّ تصاغ منه المفاضلة مباشرة على صيغة أفعَل التفضيل، وإلا فلا فرق في المعنى والتفاوت والتفاضل فيهما قطّ. وهذا على النقيض من موت الشخص، فلا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، وعليه فهو غير قابل للمفاضلة.

 

صوغ (أعثَر مِن ) في الأمور المعنوية :

هذا ناهيك عن أن هذه الشروط صحيحة للأفعال الحسّية طالما لم يثبت فيها التفاوت والقلة والكثرة، فإن اكتشف فيها تفاوت معين، أو إذا حمَلَ الفعل معانيَ معنوية سواء لفظا أو تأويلا ومجازا فيصح التفاضل فيه، فالموت الجسدي لا تفاوت فيه، فلا يقال خالد أموت من عمرو، ولكن لو كان القصد من الموت الموت المعنوي أو الروحاني أو النفسي، فيمكن أن يُتخيل ويُتصور فيه التفاوت، لنقول: خالد أموت من عمرو. وكذلك الأمر بالنسبة لعمى البصر، فقد لا يكون فيه تفاوت، غير أن الاكتشافات العلمية أثبتت وجود التفاوت فيه أيضا ليصحّ التفاضل وصوغ أفعل التفضيل فيه؛ كذلك إن قُصد بالعمى عمى البصيرة فقد يُتصور فيه التفاوت ويصاغ التفاضل منه، فنقول: هذا أعمى بصيرة من ذاك.

ويؤكد كل هذا ما جاء في المصادر التالية:

“واعلم: أن كل ما قلت فيه: ما أفعله، قلت فيه: أفعِل به، وهذا أفعَل من هذا، وما لم تقل فيه: ما أفعله, لم تقل فيه: هذا أفعل من هذا، ولا: أفعل به، تقول: زيد أفضل من عمرو وأفضل بزيد، كما تقول: ما أفضله. وتقول: ما أشد حمرته وما أحسن بياضه وتقول على هذا: أشدد ببياض زيد، وزيد أشد بياضًا من فلان, هذا  كله مجراه واحد, لأن معناه المبالغة والتفضيل، وقد أنشد بعض الناس:

يَا لَيْتَني مِثْلُك في البَيَاضِ … أبيضَ مِن أخت بني إبَاضِ

قال أبو العباس: هذا معمول على فساد وليس البيت الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجمع عليه في كلام ولا نحو، ولا فقه، وإنما يركن إلى هذا ضعفة أهل النحو، ومن لا حجة معه، وتأويل هذا وما أشبهه في الإِعراب كتأويل ضعفة أصحاب الحديث وأتباع القصاص في الفقه. فإن قال قائل فقد جاء في القرآن: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} 4. قيل: له في هذا جوابان:

أحدهما: أن يكون من عمى القلب، وإليه ينسب أكثر الضلال. فعلى هذا تقول: ما أعماه كما تقول: ما أحمقه.

الوجه الآخر: أن يكون من عمى العين. فيكون قوله: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} لا يراد به: أنه أعمى من كذا وكذا, ولكنه فيها أعمى كما كان في الدنيا أعمى وهو في الآخرة أضل سبيلا6. وكل فعل مزيد لا يتعب منه، نحو قولك: ما أموته لمن مات، إلا أن تريد: ما أموت قلبه، فذلك جائزٌ. [الأصول في النحو  ( 105- (1/ 104]

فالأفعال (مات) و(عمي) رغم عدم التفاوت فيها، من الجائز صوغ أفعَل التفضيل منها على اعتبارها أمرا معنويا وليس حسّيا، كموت القلب وعمى القلب.

 

ويؤيد هذا ما يلي :

وذهب  قوم إلى أنّ كلّ فعل لا يتزيّد لا يتعجّب منه، كقولك: ما أموته، لمن مات، إلّا أن تريد: ما أموت قلبه!.[البديع في علم العربية (1/ 501)]

 

“وَقَوْلُهُمْ: مَا أَمْوَتَه إِنما يُراد بِهِ مَا أَمْوَتَ قَلْبَه، لأَن كلَّ فِعْلٍ لَا يَتَزَيَّدُ، لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ.” [لسان العرب] (2/ 93)

 

وما أمْوَتَه، أي: ما أمْوَتَ قَلْبَه، لأِنَّ كُلَّ فعْلٍ لا يَتَزَيَّدُ، لا يُتَعَجَّبُ منه. [القاموس المحيط (ص: 161)]

وكذا الأمر بالنسبة للعاهات والألوان، والتي يُمنع فيها التفاضل لثبوتها وعدم التفاوت فيها، أو منعا للّبس لكون العاهات والألوان نفسها على وزن أفعل، فقد اختلف فيها النحاة، وذهب الكوفيون إلى تجويز صوغ أفعَل التفضيل فيها، وهذا ما يبيّنه النحو الوافي في النص التالي:

“والفعل: “خضر” لا يصاغ من مصدره مباشرة “أفعل” للتفضيل؛ لأنه يدل على لون ظاهر؛ فنصوغه -بالطريقة السالفة، “غير المباشرة”- من مصدر فعل آخر مناسب، ونجعل بعد “أفعل” مصدر الفعل الأول، وهو: “الخضرة” منصوبًا على التمييز. فنقول: ورق الليمون أشد خضرة من ورق القصب…..

والفعل: عرج، لا يصاغ -مباشرة- من مصدره “أفعل”؛ لأنه فعل يدل على عيب ظاهر، وإنما نصوغ “أفعل” بالطريقة السالفة “غير المباشرة”؛ فنقول: هذا الفتى أوضح عرجًا من غيره.

وبهذه المناسبة نذكر أن الأفعال الدالة على الألوان والعيوب لا يصاغ من مصدرها “أفعل التفضيل” مباشرة إذا كانت الألوان والعيوب حسية ظاهرة. أما إن كانت معنوية داخلية فيصح أن يصاغ منها مباشرة؛ مثل: فلان أبله من فلان، أو: أحمق من فلان، أو: أرعن منه، أو: أهوج منه، أو: أخرق منه، أو أعجم منه، أو: أبيض سريرة منه، أو: أسود ضميرًا منه و…. و…. ،.”[النحو الوافي (3/ 399-398)]

 

وفي الهامش يوضح عباس حسن أن المنع في الألوان والعاهات ليس مقبولا عنده، بسبب التفاوت الحاصل فيها، وكذا إذا اريد منها أمرا معنويا، فيقول:

“ومن المسموع من الألوان: “أسود من حلك الغراب” -“أبيض من اللبن”، وكل هذا الشاذ عندهم؛ يحفظ ولا يقاس عليه. وحكم الشذوذ هنا غير مفهوم ما دامت الكلمة نفسها قد استعملت صيغتها نصًا في المفاضلة اللونية؛ فهل يراد عدم التوسع في استعمالها في سواد شيء أو بياض شيء غير الشيء الذي وردت فيه نصًا؟ نعم، وهذا تضييق لا داعي له. بل إن منع التفضيل من كل ما يدل على لون تضييق لا داعي له أيضًا، ولا سيما بعد ورود السماع به واشتداد الحاجة إلى القياس على ذلك الوارد، بسبب ما كشف عنه العلم في عصرنا، ودلت عليه التجربة الصادقة من تعدد الدرجات في اللون الواحد، وفي العاهة الواحدة، وتفاوتها تفاوتًا واسع المدى كالمعروف اليوم في البياض، والحمرة، والخضرة، والسواد…. وسائر الألوان. وكذلك المعروف عند الأطباء في العاهات، كعاهة العمى -مثلا- فمنه عمى الألوان، وعمى الضوء…. و … وكذا أكثر العاهات. وكل ما سبق يقتضي التفضيل بين درجات اللون الواحد -أحيانًا- والعاهة الواحدة أو العيب الواحد أيضًا. ومثل هذا يقال في التعجب -كما سبق في بابه-.

والحجة التي يحتجون بها لمنعه –(“وهي: أن صيغة (أفعل) هي أيضا صيغة الصفة المشبهة القياسية للألوان؛ فيلتبس الأمر بين المعنيين”) -حجة واهية يمكن دفعها بالقرائن، ومنها: “من” الداخلة على المفضل عليه في مثل: فلان أبيض من فلان، وهذا الزرع أخضر من ذاك؛ فيكاد يمتنع اللبس في هذا النوع من التفضيل الذي يشتمل أسلوبه على كلمة: “من” هذه. نعم قد تشتبه أحيانًا بكلمة: “مِن البيانية” ولكن هذا الاشتباه يمكن دفعه أيضًا، والتغلب عليه بالقرينة التي تزيله.

وكذلك الشأن في النوعين الآخرين من أنواع “أفعل التفضيل” وهما: المقرون بأل”، و”المضاف” فإن احتمال اللبس فيهما قليل، وهو على قلته مما يمكن دفعه بالقرينة التي تحدد الغرض، وتوجه -في كل ما سبق- إلى أحد المعنيين دون الآخر؛ كما يحصل في غير هذا الباب، وبخاصة بعد موافقتهم على قياسية المعنوي “الذي سيجيء الكلام عليه بعد هذا مباشرة”، ومن ثم كان المذهب الكوفي الذي يبيح الصياغة من الألوان والعيوب والعاهات أقرب للسداد واليسر. وعليه قول المتنبي: -وهو كوفي -في الشيب:

اِبْعَدْ، بَعِدْت بياضًا لا بياض له … لأنت أسود في عيني من الظلم” [النحو الوافي (3/ 398)]

وكما نرى فإن النحو الوافي يذكر واحدا من التعليلات لمنع التفاضل في الألوان والعاهات الحسية، وهو منع اللبس بين صيغة أفعل وصيغة هذه الألوان والعاهات الأصلية والتي هي على وزن أفعل أيضا، غير أن المصادر الأخرى تذكر تعلالات أخرى، ومنها ما علل به الخليل وغيره من النحاة هذا المنع، وهو أنها أوصاف ثابتة لا تفاوت فيها حيث جاء:

“والثانيةُ للخليل ومَن قال بقوله، أن هذه المعاني من الألوان والعيوب الظَّاهرة جَرَتْ مَجرى الخِلَق الثابتة التي لا تزيد ولا تنقص، التي لا أفعالَ لها، كالَيدِ والرِّجل وسائر الأعضاء التي لا تزيد ولا تنقص، فكما لا  يُتعَّجب من الأعضاء لثبوتها وعدم تغيُّرها وفَقْد استعمال أفعالها، … كذلك هذه التي أشبهتْها، وجَرَتْ مجراها وإن كان لها أفعالٌ مستعملة.

قال في الكتاب: زَعم الخليلُ-رحمه الله- أنه مَنعهم من أن يقولوا في هذا: ما أَفْعَلَهُ، لأن صار عندهم بمنزلة (اليَدِ، والرِّجْلِ) وما ليس فيه فعْلٌ من هذا النَّحْو. ألا ترى أنك لا تقول: ما أَيْدَاهُ، ولا مَا أَرْجَلَهُ، إنما تقول: ما أَشَدَّ يَدَهُ، وما أَشَدَّ رِجْلَهُ، ونحو ذلك…

يعني أن هذه المعاني لا يصحُّ فيها المبالغة، لأنها في نَفْسها لا تزيد ولا تنقص، فلا يعبَّر عنها بـ (مَا أَفْعَلَهُ) ولا (فَعُول) ولا (مِفْعَال) ولا غير ذلك مما يَقْتضي المبالغة. وهذا حَسَنٌ من التعليل.”  [شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية (4/ 463)]

وتعليل الخليل هذا يذهب بهذه الصفات إلى نفس السبب في الأفعال التي لا تفاوت فيها. ولكننا نرى من ناحية أخرى بأن النحو الوافي يقر بأن النحاة أجازوا في الألوان والعاهات التفاضل إذا كانت تدل على أمر معنوي، ومن نفس هذا المنطلق لنا أن نقول بان الأفعال التي لا تفاضل فيها، مثل الموت والعمى، من الممكن صوغ التفاضل فيها على صيغة (أفعل مِن) إذا ما دلت على امر معنوي أو أُخذت بالمجاز وأمكن تصور تفاوت لها في الدرجات.

ومن هذا المنطلق نقول بأن التفاوت في الاطلاع والعثور، ممكن بالذات إذا دلّ على أمر معنوي، كما هو الحال في فقرة المسيح الموعود عليه السلام حيث الحديث عن العثور على النفس وهو أمر معنوي يختلف عن العثور على الذهب والكنز.

ومن هنا أقول بأن التفاوت جائز في العثر والعثور الذي بمعنى الاطّلاع من ناحيتين:

1: أولا : إذا كان أمرا حسيا، فالعثور على الذهب أو جزئياته مثلا،  قد يتكرر بصور مختلفة ومتفاوتة، مما يقبل التفاوت والقلة والكثرة، فنقول: خالد أعثر على الذهب من عمرو.

2: ثانيا: بالذات إذا كان العثر والعثور والاطلاع مقصود به اطلاع معنوي، كالاطلاع على سرائر النفس، فعلى فرض عدم التفاوت في الأمر الحسي منه، فإن تصور التفاوت في الاطّلاع والعثور المعنوي لا شك فيه ولا شبهة، ليصح القول: أنا اعثر على نفسي من غيري، وهذا بمعنى: أنا أعلم بنفسي من غيري، وأنا أكثر اطّلاعا على نفسي من غيري.

إضافة إلى ذلك فإن الأفعال غير القابلة للتفاوت، يصح صوغ التفضيل فيها إذا حملت معنى آخر بالإضافة إلى معناها الأصلي، فنقول هذا الموت أفجع من ذاك، وهذا الشخص أجود جوابا من غيره؛ وفي هذا جاء:

“فإنه غير قابل للتفاضل، نحو: أجاب فإنهم استغنوا عنه بما أفعل فعله، فلا يقال: ما أجوبه، بل ما أجود جوابه، ذكره سيبويه” [توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك ](2/ 894)

وجاء أيضا:

” وأما الذي لا يتفاوت معناه فإنه وإن كان له مصدر فليس قابلا للتفاضل، إلا إذا أريد وصف زائد عليه، فيقال في نحو: مات زيد: ما أفجع موته، وأفجع بموته، كما يرشد إليه كلام الشارح.” [شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو (2/ 74)]

غير أن هذا لا علاقة له بموضوعنا مباشرة، وإنما كان لا بد من ذكره من أجل الإحاطة بالموضوع من جوانبه المختلفة.

وبعد كل هذا الشرح والتفصيل لا يمكننا أن نسدل الستار على هذا الأمر، دون ذكر اختلاف النحاة البيّن والواضح، فيما يتعلق بهذه الشروط التي وضعوها، في منع صوغ أفعل التفضيل من بعض الأفعال. فكما رأينا اختلافهم في الألوان والعاهات وتجويز الكوفيين التفضيل في هذا الباب، فهنالك من أجاز صوغها من مزيد الثلاثي الذي على وزن (أفعل) قاطبة، أو بتفصيل معين، مخالفة لشرط كون الفعل ثلاثي. كما ذهب الكوفيون إلى تجويز صوغها من الفعل الناقص خلافا لأحد الشروط الأخرى، وهناك من زاد شرطا آخر على باقي الشروط. ويمكن الرجوع إلى المصادر المختلفة في باب أفعل التفضيل والتعجب، فأحكامها واحدة وكل هذا الاختلاف واضح فيها. نذكر منها ما أوردته المصادر التالية:

 

” الرابع: أن يكون تاما واحترز بذلك من الأفعال الناقصة نحو كان وأخواتها فلا تقول ما أكون زيدا قائما وأجازه الكوفيون” [شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (3/ 154)]

وجاء أيضا:

“وبقي شرط تاسع لم يذكراه، وهو أن لا يستغنى عنه بالمصوغ من غيره، نحو قال من القائلة، فإنهم لا يقولون: ما أقيله، استغناء بقولهم: ما أكثر قائلته. ذكره سيبويه.

ونحو: سكر وقعد وجلس، ضد “أقام” فإنهم لا يقولون: ما أسكره وأقعده وأجلسه، استغناء بقولهم: ما أشد سكره، وأكثر قعوده وجلوسه. وذكره ابن برهان، وزاد ابن عصفور: “قام وغضب ونام” وفي عد “نام” منها نظر، فقد حكى سيبويه: ما أنومه، وقد قالت العرب: هو أنوم من فهد.” [شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو (2/ 72)]

ولا شكّ ان كل هذا اللغط في شروط صوغ أفعل التفضيل والتضارب في آراء النحاة حولها، هو ما حدا بمجمع اللغة العربية المصري إلى ان يختزل شروط صوغها من عشر إلى أربعة . (ينظر: في أصول اللغة، ج1، ص121-122)

وبعد كل هذا العرض، والأخذ بعين الاعتبار كل هذا المتسع من اللغة ومرونتها، واختلاف الآراء بين النحاة في هذا الباب وأحكامه، لا يقول بخطأ (أعثر من) إلا مَن فقد الذوق اللغوي، وجعل اللغة جسما ميتا محنّطا لا حراك فيه، وقد سمَت العربية عن كل هذا التحجّر.