المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..289

نكتة الخلط بين الفعل الواوي واليائي ..2

ورود فَعَلَه بمعنى أَفْعَله في لغات العرب بما لم تثبته المعاجم

الاعتراض:

يدّعي المعترض أن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطا في الجمل التالية:

1: فعرفتُ من القرآن ما لم يعرف غيري، ودركتُ منه ما لا يُدرك مخالفي. (حمامة البشرى)

2: الغَمْرُ يبدو ناجذيه تغيّظًا  (مكتوب أحمد)

وموضع الخطأ في الأفعال (دركت) و(يبدو) ؛ والتي وفق زعم المعترض يجب أن تكون (أدركت) و (يُبدي)؛ وفي هذا الأخير خلط بين الفعل الواوي واليائي.

الرد:

لا خطأ في هذه الأفعال، فهي أفعال لم تثبتها المعاجم العربية جاءت بصيغة فَعَلَ بمعنى أفْعَلَ، وذلك على لغات القبائل العربية المختلفة، والتي جاءت الكثير من الأفعال عندها بصيغة فَعَلَ على معنى أَفْعَل؛ رغم أن المعاجم العربية لم توثّق هذه الأفعال الثلاثية المجردة، بل وثّقَت الرباعي المزيد منها فقط. وفي العديد من هذه الأفعال التي لم توثقها المعاجم العربية، نرى أن المعاجم قد وثقت مشتقاتِها من اسم الفاعل واسم المفعول على وزن فاعل ومفعول، مما يومئ إلى وجود هذه الأفعال أصلا ؛ لأنه لا وجود للفرع – المشتقات- دون الأصل.

فنقول إن (دَركْتُ) هو الفعل الثلاثي على وزن فَعَل جاء في لغات العرب على معنى (أدركت)، ومما يؤكد هذا ورود مشتقات هذا الفعل كالاسم المفعول (مدروك) في العديد من المصادر العربية. فوجود هذه المشتقات دليل على وجود الفعل لأنه كما قال النحاة، إذا تأكدت الصفة فالفعل حاصل في الكفّ.

وكذا الفعل (بَداه/ يَبْدُوه) بمعنى (أبداه/ يبديه) أي أظهره يظهره، فليس من الغريب أن يكون كالكثير من الأفعال الأخرى المشابهة له، قد جاء هكذا في لغات العرب المختلفة، أي ثلاثيا متعديا (بداه/ يَبدوه). كل هذا وفق البحث التالي:

لقد ذكرنا في مقال سابق، قرار مجمع اللغة العربية بقياسية مجيء الوزن (أَفْعَلَه) بمعنى (فَعَلَه)، بناء على ورود الكثير من الأمثلة على ذلك في فصيح اللغة.

وقد بحثنا في الاتجاه العكسي في ورود فَعَلَه بمعنى أَفْعَلَه، هل ورد ذلك في لغات العرب؟ وهل تتوفر الكثير من الأمثلة على ذلك ليصح القياس عليه في مجيء فَعَلَه بمعنى أَفْعَلَه؟ فاهتدينا إلى ما يؤكد إمكانية وجود هذه الظاهرة في لغات العرب المختلفة، بأن تكون القبائل العربية قد اختلفت في استعمالاتها لصيغتي فعله وأفعله للدلالة على نفس المعنى،  وبالفعل نرى أن بعض العرب قد جاء بصيغة فعل بدلا من أفعل للدلالة على نفس المعنى؛ وفي هذا أجزل الحديث الأستاذ محمد بهجة الأثري في مقالين له الأول بعنوان ” مزاعم بناء اللغة على التوهم” والثاني ” تحرير المشتقات من مزاعم الشذوذ”، والتي حاول من خلالها ردّ ما قيل إنه مبني على التوهم أو إنه شاذ ردّه إلى أصوله العربية من أجل دحض هذا الشذوذ.

ففي مقاله الأول قال تحت عنوان “توهم حذف الحرف الزائد” ما يلي:

” كل ما ورد في كلام فصحاء العرب من المشتقات على وزن “فعيل” أو “مفعول”، ولم يسمعوا فعله الثلاثي، وإنما سمعوا منه الفعل الرباعي الذي يبنى اسم المفعول منه على ” مُفعَل” ليس غير، فيخرجونه على أنه مبني على توهم حذف الحرف الزائد من فَعَلَه، او على أنه جاء على خلاف القياس. ”

وضرب لذلك الأمثلة التالية:

أ: ذهيب بمعنى مُذهَب من الفعل الرباعي أذهبه أي طلاه بالذهب. في قول حميد بن ثور :

موشحة الأقراب:أما سراتها ….. فملس، وأما جلدها فذهيب

2: منبوت بمعنى مُنْبَت من الفعل الرباعي أنبت. كما في بيت مجهول قائله:

وبلد يغضي على النعوت …. يغضي كإغضاء الروى المنبوت

3: مبروز بمعنى مُبرَز من الفعل الرباعي أبرز. كما في قول لبيد بن ربيعة:

أو مُذهَب جدد، على الواحه ….الناطق المبروز والمختوم

ثم تابع الباحث ليقول:

“وغير هذه الأمثلة كثير في الكلام الوارد عن فصحاء العرب، مما لا يجوز أن ينسب كله إلى توهم حذف الزيادة ويوقف عند ذلك ولا تبحث الأسباب. …

والحق ان هذه المشتقات التي جاءت على فعيل أو مفعول ، وظن أبو منصور وابن سيده وأبو حاتم وآخرون غيرهم أنها بنيت على توهم حذف الحرف الزائد، إنما هي مشتقات من أفعال ثلاثية، سمعها غيرهم ولم يسمعوها هم، وثبتت عن قبيل من العرب تعتز العربية بفصاحتهم، وتناقل الناس أشعار شعرائهم، ويحتج أهل اللغة بكلامهم، وهؤلاء هم بنو عامر، وهم قوم حميد بن ثور ولبيد بن ربيعة صاحبي البيتين اللذين أسلفتهما، فلا جرم أنهما – ومثلهما آخرين لم أذكرهم- إنما تكلموا بلغة قومهم ، ولم يتوهموا في شيء مما بنوه عليها من كلام.

وقد ذكر بعض أهل اللغة أن أبا حاتم  لما أنكر (المبروز) في قول لبيد:

أو مذهب جدد، على الواحه ….الناطق المبروز والمختوم

استظهروا عليه بأن لبيدا قال في كلمة أخرى له:

كما لاح عنوان مبروزة   يلوح مع الكف عنوانها

وقالوا:”فهذا يدل على أنه لغته، والرواة كلهم على هذا، فلا معنى لإنكاره”.

ومعنى أنه لغته”: أنه لغة قومه بني عامر، ومقتضاه أن ما ورد عن فصحاء العرب، وصحت روايته من مثل هذه المشتقات، يجب أن يُرد إلى لغة بني عامر، وبنو عامر يقولون: ذهبه فهو ذهيب، ونبته الله فهو منبوت، وبرزه فهو مبروز.. إلخ.

وغيرهم يقولون : أذهبه وذهّبه فهو مُذْهَب ومذهّب، وأنبته الله فهو مُنبَت، وأبرزه فهو مُبرَز… إلخ. على أنه ربما وافق (بنو عامر) غيرهم أيضا فقالوا: أذهبه فهو مذهب، كما قالوا: ذهبه فهو ذهيب، كما جاء في قول لبيد المتقدم:

او مذهب جدد على ألواحه …. الناطق المبروز والمختوم

فقد جمع لبيد في هذا البيت بين اللغتين.

وبهذا تسقط دعاوي بناء أمثال هذه المشتقات على التوهم: توهم حذف الحرف الزائد، إذ لا توهم في ذلك، لأنها مبنية على أصول ثلاثية، هي فروع منها، ولا يمكن أن تكون فروع من غير أصول. وقد لحظ أبو علي الفارسي وصاحبه ابن جني ذلك، فاتخذا الاستهداء بالوصف على فعله أصلا معتمدا وقالا:” إذا صحت الصفة فالفعل حاصل في الكف” . وهو قول سديد فيه فتح طريق لاحبة، ويزداد بها بيان اللغة سعة على سعة، وتطرد مقاييسها، وينتفي عنها كثير مما يضاف إليها من الشذوذ والبناء على التوهم. ” ( في أصول اللغة، ج3، ص387-390)

وفي مقاله المفصل ” تحرير المشتقات” ذكر الأستاذ الأثري جملة طويلة من مشتقات الفعل الثلاثي كاسم الفاعل واسم المفعول، والتي أثبتتها المعاجم، دون ان تكون هذه المعاجم، خاصة المعاجم القديمة، قد أثبتت الفعل الثلاثي لهذه المشتقات، بل قيل فيها إنها جاءت من الرباعي على وجه الشذوذ. ومنها الافعال الثلاثية التالية ومشتقاتها:

4:الفعل سَقَطَه بمعنى أسقطه: فهو مسقوط وهي مسقوطة كما في الحديث الشريف” مر بتمرة مسقوطة”. ورجح أن يكون فعلها ثلاثيا متعديا “سَقَطَه” بدلا من أسقطه، وقال: لا عبرة بعدم ذكره في المعاجم المتداولة الآن، لأنها لم تتضمن كل لغات القبائل ولهجاتها.

5:الفعل ضَعَفَه بمعنى أضعفه: فهو مضعوف.

6: حمّه بمعنى أحمّه: فهو محموم.

7: أرَضَه بمعنى آرضه: فهو مأروض.

8: زَكَمه بمعنى أزكمه : فهو مزكوم.

9: ضَأَدَه بمعنى أضأده: فهو مضئود.

10: قرَّه بمعنى أقرّه فهو مقرور.

11: كَمَدَه بمعنى أكمده: فهو مكمود.

12: لقحها بمعنى ألقحها فهي ملقوحة.

13: ملَأَه بمعنى أملأه أي أزكمه : فهو مملوء.

14: نَبَتَه بمعنى أنبته فهو منبوت.

15: وجده بمعنى أوجده: فهو موجود.

16:أَدَرَه بمعنى آدَرَه: فهو مأدور.

وقد تكون بعض هذه الأفعال الثلاثية أقرتها المعاجم الحديثة، مثل المعجم الوسيط من إصدار مجمع اللغة العربية المصري، وذلك استدراكا على المعاجم القديمة.

كما وذكر الأستاذ الأثري بعض الأفعال الثلاثية، التي اختلفت المصادر والمعاجم في إثباتها كالتالية:

17: بقَلَ بمعنى أبقَلَ فهو باقِل، وأكثر العلماء يرد (بقَل).

18: تَمَرَه بمعنى أتمره فهو تامِر.

19: لَبَنَ بمعنى ألبَنَ: فهو لابِن.

20: نَعَلَ بمعنى أنعَلَ فهو ناعِل.

21: حَزَنَه بمعنى أحزَنَه فهو محزون. وقال:حزَنَه لغة قريش ووارد في القرآن “إنه ليَحْزُنُني” وأحزنه لغة تميم.

وقد وضح الأستاذ الأثري المبدا الذي اعتمده لإعادة هذه المشتقات إلى فعلها الثلاثي الأصلي، وأقر بأن الفعل لا بد من وجوده، وأن يكون العرب قد تكلموا به فقال:

” فأما الأصل الأول، فهو هذا القانون اللغوي العام الذي استقر في فطرة العرب، وصدروا عنه في كلامهم، تصريفه وإعرابه، سجية وطبعا، وأجروه في ذلك قياسا مطردا لا يتوقف، بقوة الطبع ورهافة الحس، وتأبت سلائقهم الانحراف عنه …”

وهو يعنى بذلك، أنه بما ان سلائق العرب قد اعتادت قانون الاشتقاق من الثلاثي على وزن مفعول وفاعل ومن الرباعي على وزن مُفعِل ومُفعَل، فلا يمكنهم أن يشذوا عن هذا القانون ويشتقوا على وزن فاعل ومفعول دون ان يكون لها فعل ثلاثي أصيل على وزن فَعَلَ/ فَعَلَه.

” وأما الأصل الثاني فهو التّهدي إلى الأصول التي لم تُدوَّن في دواوين اللغة، وفي هذا كلام يطول، بالفروع التي وردت في كلام الفصحاء من طريق الروايات الصحيحة، والبناء عليها فيما أوردتُ وناقشتُ من مزاعم الشذوذ.

وقد تنبه إلى هذا الأصل أبو علي الفارسي من أئمة اللغة في المئة الرابعة الهجرية، وحكاه عنه تلميذه ابن جني إذ قرر ” أن الفرع يدل على أصله، والوصف يهدي إلى فعله، فإذا صحت الصفة فالفعل حاصل في الكف”

فببساطة، فهو يقول هنا أن المبدأ الذي لا بد من الارتكاز عليه هو ما أقره ابن جني “أن ثبوت الصفة دليل على فعلها الذي اشتقت منه”.

وبناء على كل هذا، ما يهمنا من كل هذا النقل، أن هنالك الكثير من الأفعال الثلاثية على وزن فَعَلَ لازمة أو متعدية، لم تثبتها المعاجم العربية، وأن القبائل العربية اختلفت فيما بينها في استعمال الثلاثي والرباعي من الفعل لأداء نفس المعنى، وقد بان أن بني عامر قد كثر استعمالهم للثلاثي على وزن فَعَلَه بمعنى أَفْعَلَه الذي جاء في لغة القبائل الأخرى؛ ولم تُثبِت المعاجم العربية لغة بني عامر في استعمالها هذه الأفعال الثلاثية.  وقد تكون هناك قبائل أخرى استعملت فَعَلَه بمعنى أَفْعَلَه كما جاء على لغة قريش من الفعل (حَزَنَه) بمعنى (أَحْزَنَه).

وعليه، فلنا ان نقول بأن ما جاء في فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه من الفعل (يبدو ناجذيه) والفعل (دركت منه ما)، فهي أفعال ثلاثية متعدية على لغة بني عامر أو غيرها من القبائل، التي استعملت فَعَلَه بمعنى أَفْعَلَه، ولم تُثبتها المعاجم العربية. فجاء (بداه/ يَبْدوه) بمعنى (أبداه/ يُبْديه) ، و(دركته) بمعنى (أدركته).

ومما يؤكد هذا ان اشتقاقات الفعل (دركه) أثبتتها المراجع المختلفة كاسم المفعول، (مدروك) كما جاء في المصادر التالية:

1: مشكل الآثار للطحاوي (9/ 4، بترقيم الشاملة آليا)

فكان مثل هذا غير مدروك بالنظر والاستنباط

2: مباهج الفكر و مناهج العبر (ص: 9، بترقيم الشاملة آليا)

وذلك مدروك بالحس مشهود بالعيان،

3: شرح مشكل الآثار (10/ 181)

مِثْلُ هَذَا غَيْرَ مَدْرُوكٍ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ،

وعلى مبدأ ابن جني، إذا ما ثبتت الصفة فالفعل حاصل في الكف. فلا بد أن يكون اشتقاق (مدروك) من الفعل (دركه).