الاعتراض:

لم تكن من مصلحة اليهود ان يبحثوا عن المسيح بعد نجاته من الصليب ويطاردوه ويقبضوا عليه ايضاً، بل كان من مصلحتهم ان ينشروا خبر موته تأكيداً على كذبه. الحقيقة أن اليهود كان من مصلحتهم إخفاء أمر نجاة المسيح، بل كان من مصلحتهم الاستهزاء من كل من يقول بنجاته من الصليب، وذلك لأن مجرد بحثهم عنه يكون دليلاً واعترافاً منهم على نجاته وبالتالي تحقق نبوأته وتحقق صدقه. وقد كان الجليل مكاناً آمناً لتواجد المسيح خاصة وأن الجليل كان خارج سلطة الرومان، فلا داعي ليذهب المسيح إلى مكان آخر بل قد أطلق تلاميذه ليعمدوا كل الأمم، أي كل أمم إسرائيل، وبذلك لا داعي أيضا أن يذهب بنفسه إلى كل تلك الأمم وإنما يكفي أن يرسل تلاميذه إليهم كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي هو للناس كافة.

الرد:

لم يكن المسيح عَلَيهِ السَلام ليقيم في الجليل البتة، ذلك لأنه عَلَيهِ السَلام كان سابقاً قد طاف الجليل كله يكرز ويعلن بأنه المسيح، ولم يترك موضعاً في الجليل لم يسلكه حتى عرفه الجميع. فكيف يلجأ ويعيش في الجليل حيث يعرفه فيه الصغير قبل الكبير ! بل كان يعرفه حتى أهل المناطق المجاورة للجليل كسوريا ! لنقرأ التالي من إنجيل متى:

وبَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي فيَقول: «تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات». وكانَ يَسيرُ في الجَليلِ كُلِّه، يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم ويُعلِنُ بِشارَةَ المَلَكوت، ويَشْفي الشَّعبَ مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة. فشاعَ ذِكْرُه في سورِيةَ كُلِّها” (إنجيل متّى)

كما أن القول بعدم وجود سلطة للرومان على الجليل غير صحيح مطلقاً إذ كانت الجليل مثل غيرها تحت حكم الرومان وسلطتهم وكان حاكم الجليل هو “هيرودس أنتيباس”، وهو الابن الأصغر لهيرودس من زوجته السامرية، وكان يحكم على الجليل وبيرية (انظر: لوقا 19:3)، وهو الذي أنشأ مدينة طبرية على الشاطئ الغربي لبحر الجليل وأطلق عليها الاسم تكريماً لطيباريوس، حتى ان المسيح عَلَيهِ السَلام وصفه بالثعلب (انظر: لوقا 32:13).

إذن لو كان الجليل غير آمن فلا داعي أن يهاجر المسيح عَلَيهِ السَلام إلى هناك ويتخفى لبقية حياته في هذا الخطر المحدق، بل يبقى في بلدته ويعيش متخفياً لباقي حياته، فلا فرق بين الجليل وغيرها من الناحية الأمنية فهو معروف هنا ومعروف هناك، وهنا يسكن اليهود وهناك، وهنا يحكم الرومان ويحكمون هناك.

أما الأمم فنحن متفقون لأن هذا هو الذي نقوله في أدبياتنا؛ أنَّ الأمم المقصودة هي أمم أو أسباط بني إسرائيل، وذلك لأن القرآن الكريم يشهد أنَّ المسيح عَلَيهِ السَلام أُرسل لبني إسرائيل فقط، وهو الأمر الذي قاله المسيح عَلَيهِ السَلام نفسُه في الإنجيل:

فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ».” (إنجيل متى 15: 24)

أما عن هذه الخراف فقال عَلَيهِ السَلام:

وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ.” (إنجيل يوحنا 10: 16)

أي توجد خراف أو أسباط أخرى ضائعة من بني إسرائيل ليست في هذه الأرض، وأن عليه أن يذهب إليها ويجمع شملها.

فهل يذهب هو أو غيره ؟ يجيب المسيح عَلَيهِ السَلام:

وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ.” (إنجيل يوحنا 10: 4)

فمن هو راعي هذه الخراف الذي يجب أن يذهب إليها فتتبعه ؟

يقول المسيح عَلَيهِ السَلام:

أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ.” (إنجيل يوحنا 10: 11)

إذن الراعي هو بنفسه عَلَيهِ السَلام، وهو أي الراعي الذي يجب أن يذهب إلى الخراف.

هذا في الحقيقة هو الفرق بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين المسيح عَلَيهِ السَلام، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يقل أن مهمته لقوم محددين ضائعين كالخراف وعليه أن يذهب إليها بنفسه بل هو للناس كافة، بل إنَّ رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم باقية إلى انقضاء الزمان، أي لا تتحدد مهمته في حياته فقط بل تبقى إلى الأبد تنتشر في المعمورة، بينما المسيح عَلَيهِ السَلام كان مُرسلاً إلى أسباط إسرائيل الضائعة وهو الراعي لها الذي يجب أن يذهب بنفسه ويجمعها، وهذه المهمة تنتهي في حياته حتى ينزل الدين الأخير للبشرية ببعثة سيدنا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. فالفرق هائل بين الإثنين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد ذكر المؤرخ الموسوعي خبير الكتاب المقدس والمختص بهجرة اليهود بعد السبي “ستيفن مكولينز” في كتابه: “The Lost Ten Tribes Of Israel Found” ذَكَرَ بأن المؤرخ اليهودي الفرّيسي “فلافيوس يوسيفوس” الذي عاصَرَ المسيحَ عَلَيهِ السَلام يؤكد بأن سبطَين فقط من الأسباط الإثني عشر لبني إسرائيل عادا إلى فلسطين وما حولها تحت سلطة الرومان، بينما بقي الأسباط العشر في شرق نهر الفرات:

There are but two tribes in Asia and Europe subject to the Romans, while the ten tribes are beyond Euphrates till now, and are an immense multitude, and not to be estimated by numbers.” (The Lost Ten Tribes Of Israel Found. Chapter 4 Excerpt The Scythian “Sacae” The Asian “Sons of Isaac”. bit.ly/2BaZYNG)

فشرق الفرات هي إيران والهند والصين !

ويؤكد المؤرخ يوسيفوس بأن القليل فقط من بني إسرائيل كَانُوا في فلسطين، بينما القبائل العشر الباقية ظلّت في آسيا:

Josephus affirmed that while contingents of Jews lived in Palestine, the ten tribes of Israel stayed in Asia. This is important because it refutes the misconception that the ten tribes migrated back to Palestine and were included with the Jews at the time of Christ.” (نفس المصدر)

ثم يعود الكاتب ليشدد على أن يوسيفوس يؤمن صميماً بأن القبائل العشر لبني إسرائيل كانوا في آسيا في القرن الأول، وأنهم من الكثرة بمكان بحيث لا يمكن إحصائهم، وليس كالقلة الموجودين في فلسطين:

Josephus asserts that the ten tribes ofIsrael were still in Asia in the first century A.D. His comment that the ten tribes were an “immense multitude” indicates we should expect to find very large masses of Israelites in Asia in the first century A.D., not isolated little remnants.” (نفس المصدر)

أما إذا كانت مصلحة اليهود هي أن ينجح التلاميذ بإشاعة أن المسيح نجا ويسخروا منهم لما شددوا على الحاكم الروماني أن يضع حجراً كبيراً وحراساً على القبر ! لقد فعلوا ذلك وأكدوا على الحاكم بيلاطس أن يفعل ذلك كي لا يسرق تلاميذ المسيح جثته ويشيعوا أن نبوءته قد تحققت وأنه قام من الموت ! ولنقرأ من إنجيل متى:

وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ.” (إنجيل متى 27: 62-66)

إذن كان اليهود قلقين مِن تحقق نبوءة المسيح عَلَيهِ السَلام إذا اختفت جثته، فطالبوا الحاكم أن يضع حُراساً وصخرة كبيرة. أما العكس أي أن يرتاح اليهود لاختفاء جثة المسيح، فهذا ينسف الموضوع برمته، إذ لو كان الحال كذلك فلماذا يرحل المسيح إلى الجليل من الأصل !

ما قاله القس حلمي القمص يعقوب حول موضوع سرقة التلاميذ لجسد المسيح:

هذا كان مجرد إشاعة أشاعها رؤساء الكهنة، وانتشرت بين اليهود في القرون الأولى، ففي محاورة يوستين مع تريفو رقم 108 في القرن الثاني الميلادي نجد قول اليهود ‘عن واحد اسمه يسوع جليلي مخادع صُلِب، ولكن تلاميذه سرقوا جسده ليلًا من القبر الذي وضعوه فيه بعد إنزاله من على الصليب وأعلن التلاميذ أنه قام ثم صعد إلى السماء’. وفي دفاع ترتليان رقم 21 يقول ‘وُجِد القبر فارغًا إلاَّ من الأكفان، ولكن شيوخ اليهود الذين أرادوا إخضاع الناس لأفكارهم، نشروا الكذبة التي تقول أن تلاميذه سرقوه.’” (كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها. العهد القديم من الكتاب المقدس- أ. حلمي القمص يعقوب)

من الطبيعي إذن أن لا يهنأ لليهود بال بعد اختفاء جثة المسيح، وأن من مصلحتهم العثور على (تلك الجثة) مهما كلّف الأمر لكي ينتهي أمره. الواقع إن اليهود يريدون للمسيح الناصري عَلَيهِ السَلام أن يموت ليثبتوا كذبه، ولذلك شددوا على حراسة قبره. وعندما اختفى المسيح عَلَيهِ السَلام من القبر أشاعوا أن التلاميذ سرقوا جثته، وهذا يعني أن المسيح إذا عاش بين ظهرانيهم سواء في القدس أو الجليل، فإن أي ربع معلومة سوف تقود إلى حملة شرسة للقبض عليه وإعادة صلبه بكل تأكيد. لذا، فإن القول ببقاءه في الجليل متخفياً لاكثر من 90 عام (حسب الحديث الشريف) ليس مستبعداً فحسب بل يطعن بالمسيح عَلَيهِ السَلام الذي سيبقى في عيش اللصوصية والخوف والتردي بدل الازدهار لكل هذا الوقت، بالإضافة لعدم إتمام المهمة التي بُعث من أجلها وهي الذهاب إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

2 Comments on “شبهات وردود سريعة حول هجرة المسيح”

  1. بارك الله فيك أخي الكريم وجزاك خير الجزاء
    سؤال – عن هذا المقتبس
    فإن القول ببقاءه في الجليل متخفياً لاكثر من 90 عام (حسب الحديث الشريف)ليس مستبعداً فحسب بل يطعن بالمسيح عَلَيهِ السَلام الذي سيبقى في عيش اللصوصية والخوف والتردي بدل الازدهار لكل هذا الوقت، بالإضافة لعدم إتمام المهمة التي بُعث من أجلها وهي الذهاب إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.

    أي حديث شريف يذكر هذا القول وفي أي كتاب من الكتب

    1. وعَلَيْكُم السَلام ورَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُه

      الكلام هنا هو ردٌّ على من يقول بهجرة المسيح إلى الجليل وليس قولنا نحن أو قول الحديث الشريف. أما الـ 90 عاماً المقصودة فهي التي تستند إلى حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في معجم الطبراني أن المسيح عاش 120 عاماً، حيث أخرج الطبراني في المعجم الكبير بسند رجاله ثقات، عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها أنه صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة رَضِيَ اللهُ عَنْها: “إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين”. انتهى ملخصًا.” (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للزرقاني، 1/67). فهل قضاها بحسب قول المعترضين في الجليل ؟
      وبارك الله فِيكُم

Comments are closed.