المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية .. 156

الفصاحة في لغات المسيح الموعود عليه السلام ..3

المعيار الثالث: قصور النحاة في استقراء اللغة هو سبب الحكم بالشذوذ على بعض اللغات

لعلّامة النحو عباس حسن مؤلف “النحو الوافي” سلسلة مقالات قيمة بعنوان “صريح الرأي في النحو العربي داؤه ودواؤه” ، تُثبت لنا صحة وفصاحة لغة المسيح الموعود عليه السلام، وتؤيد توجيهاتنا للُغات المسيح الموعود العربية، وتؤكد صحتها وفصاحة ما جاء فيها من اللّغات، حتى اللغات التى قد تُعد من الشاذ أو المتروك أو المهمل أو غير المشهور.

وقد سبق وكتبتُ في مقال سابق أن تصنيفات النحاة للّغات العربية، بالفصيح والشاذ والمشهور وغير المشهور و و و و،  ليست هي بتصنيفات قطعية ولا يمكن الجزم بها، وذلك لسبب بسيط وهو أن استقراء اللغة استقراءٌ ناقص، وما وصلنا من اللغات العربية هو أقلها وضاع منها الأكثر . وقد رأيت أن عباس حسن في مقالاته هذه يؤيد الكثير مما قلته، وإلى جانب تأييده للغات المسيح الموعود عليه السلام، فإنه يؤكد فلسفة المسيح الموعود عليه السلام في علم النحو حيث قال عليه السلام، بأن النحاة ليسوا معصومين عن الخطأ وأنهم لم ينجزوا مهمتهم في تقعيد اللغة حتى النهاية، ولا زال هناك الكثير مما يمكن إضافته أو تجديده في النحو.

لذا رأيت أن أسوق إليكم بعض ما جاء في هذه المقالات التي نشرها عباس حسن، مقتبسا منها بعض الاقتباسات، ومردِفا لها تعقيبا شخصيا مني على هذه الاقتباسات؛ لأوضّح كيف أنها تدعم فصاحة لغات المسيح الموعود عليه السلام، وتؤدي بنا إلى الإقرار أن كل لغاته هذه ما هي إلا لغات عربية صحيحة وفصيحة، وإن كان قد صُنّف بعضها في عداد الشاذ أو غير المشهور. فإليكم بعض ما نستخلصه مما قاله عباس حسن، أعرضه كنقاط متتابعة :

1: أكّد عباس حسن على اختلاف النحاة البيّن والواضح في الكثير من المسائل النحوية، بما في ذلك اختلافهم وتشعب الآراء عندهم في المسألة الواحدة، وعاب على النحاة الأوائل أنهم بهذه البلبلة والآراء المضطربة أساءوا إلى النحو .وفي هذا يقول:

أول ما يطالع الباحث من ذلك: تعدد الآراء النحوية في المسألة الواحدة، و اختلاف الأحكام فيها؛ حتى ليستطيع أن يرى الرأى فيقول و هو آمن: إنّ هناك رأيا آخر يناقضه من غير أن يكلف نفسه مشقة الاطّلاع، و الجري وراء النقيض، ذلك أنه يعلم من طول ممارسة النحو والنظر في قواعده أن الواحدة منها لاتخلو من رأيين أو آراء متعارضة؛ حتى أولياته، و ما يجري من مسائلة مجرى البدائة العلمية، و إن المطلع على كتاب كهمع الهوامع، أو الأشموني و حاشيته؛ ليهوله ما يرى من تشعب الآراء و كثرتها و تنافرها حتى فيما لا تحتاج إلى تعدد” [إ.ه]

أقول: إن هذا الخلاف البين والواضح للعيان، فيه من الكفاية ليجعلنا نشكك في تقسيمات النحاة للغات العربية، فيما هو فصيح وغير فصيح وشاذ ومتروك ومهمل و و و . وسيتضح من كل ما سيأتي صحة هذا التشكيك وأنه ليس بالعبث أو إلقاءً للقول على عواهنه، بل مبني على فحص وتحقق.

2: اقتصار النحاة مصادر اللغة على ستّ قبائل فقط من بين ثلاثين قبيلة عربية، أدى إلى إهمال تراث وذخر لغوي فياض وافر وأدى إلى إهمال أساليب كثيرة صحيحة . كما أدى ذلك إلى شذوذ الكثير من الكلمات الأصيلة والأساليب الصحيحة عما جمعه النحاة، فاعتبروه شاذا أو متروكا أو مهملا أو أو أو أو ؛ وفي هذا يقول :

و بديه أن لغات القبائل الستّ و لهجاتهم لا تحوي جميع اللغات و اللهجات في باقي القبائل الكثيرة، فذلك ينافي طبيعة اللغة و يعارض القانون الواقعي الذي تسير عليه في نشأتها و تدرجها و تفرعها، و مهما تميزت به القبائل الست من القوة و الجاه و النفوذ و بسطة الرقعة – في رأي الرواة – فلن تغير من طبيعة الأشياء و لا من الواقع المشاهد.

من هنا ندّت (شذّت)كلمات أصيلة، و أساليب كثيرة صحيحة عما جمعه اللغويون. وفاتهم ذخر لغوي وافر؛ بسبب اقتصارهم في جمع اللغة على بعض القبائل دون بعض بل على القليل دون الكثير؛ و من ثم فات الرعيل الأول من النحاة كثير من منابع الأخذ و مراجع الاستنباط كشفت عنهاالأيام بعد ذلك فأثبتت تقصير اللغويين و قصور النحو المؤسس على ما جمعوه..” [إ.ه]

أقول: إن أهم ما نستنجه من كلام عباس حسن هذا، هو أن الحكم على اللغات بالشذوذ والضعف،  إنما منبعه تقصير النحاة وعدم أخذهم اللغة من القبائل الأخرى، ولوا أنهم أحاطوا بلغات القبائل كلها لعُدّت الكثير من اللغات الشاذة والمتروكة والمهملة وغير المشهورة – لعُدّت في عداد الصحيح الفصيح، ولربما وصلت أرقى مستويات الفصاحة. وهذا في الحقيقة ما ذهبتُ إليه في أحد المقالات السابقة، حيث قلت إن الحكم بالشذوذ على اللغات المختلفة ليس حكما قطعيا، لسبب بسيط منطقي وهو قلة وضعف الاستقراء في اللغة. وهذا بدوره يقودنا إلى القول بأنه ليس من البعيد أن نعد الكثير مما ظُن أنه من اللغات الشاذة في عداد الفصيح من الكلام.

3: حتى هذه القبائل الستّ لم يستطع النحاة واللغويون استيعاب كل لغاتها وحصرها والوقوف عليها بكلمة واحدة متفَق عليها، فاختلفوا بما رُوي عن هذه القبائل الست على قلتها. فمن بين اختلافاتهم اختلافهم في نَسْب لغات معينة إلى قبائلها؛ كلغة إعمال (لا) عمل (ليس) فمنهم من نسبها للحجازيين دون طيء، ومنهم من قال إن بني تميم لا يُعملونها، ومنهم من قال إن بني تميم يعملونها.  وفي هذا يقول:

فهم مختلفون – كما ترى – في المرويّ عن تلك القبائل على قلتها. و لخلافهم أثره العملي في استنباط قواعدهم وتدوين أحكامها و تطبيقها على ألسنة المتكلمين و أقلام الكاتبين؛ فكيف الشأن و قد غفلوا عن أكثر القبائل، و أهملوا الأخذ عنها؛ مع مالها من تراث لغوى فياض قد تسلل الكثير منه إلى النحاة، مخالفا في بنيته، أو ضبط حروفه، أو تركيب أساليبه لما اقتصروا عليه؟” [إ.ه]

أقول: إذا كان النحاة مختلفين في ما وصلهم حتى من هذه القبائل التي اقتصروا اللغة عليها، وفي نسْب اللغات إلى هذه القبائل، مما أثّر على استنباط القواعد والأحكام،  فأي مأمن لنا من أن يكون هؤلاء النحاة قد قصروا عن استيعاب كل ما هو فصيح وارد من هذه القبائل الست!؟ وأي مأمن لنا أن يكون هؤلاء قصروا عن استيعاب كل فصيح من الكلام من القبائل الأخرى!؟ وأي مأمن لنا في نسْبهم بعض اللّغات أو القواعد الشاذة والقليلة والمتروكة إلى قبائلها الحقيقية، فلعل لغة معينة لقبيلة من هذه القبائل الستّ الفصيحة، عزوها خطأ إلى قبيلة من غير هذه القبائل، ولم يعتبروها في عداد الفصيح والصحيح من العربي. ولعل لغة عربية نحوية أو صرفية قصروا عن جمع أمثالها من المسموع من القبائل الست أو غيرها فحكموا عليها بالشذوذ وهي ليست كذلك.

*******************************************

الخلاصة:

من أقوال عباس حسن هذه نستطيع أن نقول باطمئنان ،إن الحكم بالشذوذ على بعض لغات العرب ما هو إلا حكم نسبي وليس قطعيا مطلقا، فهو نسبي لما وصل النحاة من الاستقراء. وعليه فإن الكثير مما عُد شاذا قد يندرج باستقراء أوفى تحت الفصيح المشهور من الكلام العربي الصحيح.

وبناء على كل هذا، فإن ما ذهبنا إليه من اللغات غير المشهورة في كلام المسيح الموعود عليه السلام، لا يمكن الحكم عليها بالشذوذ المطلق، بل  كلها تندرج تحت فصيح الكلام، لا لشيء سوى لكونها واردة عن فصحاء العرب، وإن قل السماع بها لقصور الاستقراء.