يُشاع أن الإسلام يأمر بضرب الزوجات ويسوِّغه ويشرِّعه ويعدُّه حقا مطلقا للرجل وجزءا من السلوك الطبيعي بين الرجل والمراة، فهل هذا صحيح؟

الواقع أن سوء الفهم من جانب بعض المسلمين ومحاولة تبريرهم أو تأويلهم بطريقة خاطئة، وأحيانا سوء النيات والتعصب من قبل خصوم الإسلام وأعدائه، قد جعل هذه الشبهة من أبرز ما يُرفع في وجه الإسلام، ومما يبدو أنه لا يمكن الدفاع عنه.

والواقع أن المسألة بسيطة تماما؛ فلم يُذكر الضرب إلا ضمن ضوابط مشددة وفي سياق محدد، ونحو نوع معين فحسب من النساء اللاتي بدأت تظهر منهن بوادر الفساد الأخلاقي، ولم يكن ذلك إلا رحمة بهن ولإعطائهن فرصة نهائية للإصلاح، بعد استنفاد كل الوسائل الأخرى، وبعد أن استشرى فيهن الفساد وبلغ منهن مبلغا عظيما، وهذا في حال الظن أن هذا الإجراء سيؤدي إلى الإصلاح كإجراء أخير، وإلا فالواجب على الرجل أن يطلِّق المرأة المصرَّة على الفاحشة التي لا يرُجى صلاحها، لأن ارتباطه بها سيجعله ديوثًا وسيؤدي إلى فساد الأسرة بمجملها واستساغتها للفاحشة والفساد الأخلاقي.

وحول هذه القضية، يقول الخليفة الثاني رضي الله عنه في كتابه “الأحمدية الإسلام الحقيقي” (يمكن تحميل الكتاب من هنا):
وكذلك من حق الزوجة ألا يعاقبها زوجها إلا على ارتكابها فاحشة سافرة. وإذا صارت العقوبة ضرورية فلا بد أن يشهد على جريمتها أربعة رجال من الحي، وأن يشهدوا صراحة أنها فعلا قد ارتكبت جريمة كذا وكذا. ففي هذه الحالة يمكن له أن يعاقبها. ولكن العقوبة أيضا يجب أن تكون تدريجية كما قال الله تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء 35-36) أي يجب أن تعظوا وتنصحوا المرأة أولا، وإن لم تنفعها النصيحة فانفصلوا عنها في المضجع، وإن لم يؤثر ذلك أيضا فيها فيمكن أن تعاقبوها عقوبة جسدية بعد شهادة الشهداء، ولكن بشرط ألا تقع الضربة على العظم وألا تترك علامة على جسدها.” انتهى كلام حضرته.

فالخوف من النشوز إنما يعني بداية ظهور بوادر النشوز من المرأة؛ كأن ترتبط بعلاقات مع رجال أجانب أو تحادثهم بأحاديث بعيدة عن الحشمة والحياء والأدب، قبل الوقوع في فاحشة الزنا أو التلامس الجسدي فعليا، أو تكون على علاقة شاذة مع بعض النساء بصورة أو بأخرى. وهذا متعلق بفئة معينة محدودة من النساء كما ذكرنا سابقا، حيث تتيح الشريعة المجال لهذه الفئة أن تنصلح وتثوب إلى رشدها، ولا تأمر بتطليقها مباشرة. وتتدرج الشريعة من الوعظ إلى الهجر في المضاجع، الذي يعني نوعا من تقييد الحرية للنساء في بيوتهن، الذي أشارت إليه الشريعة في آية أخرى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } (النساء 16) ثم تقرُّ الشريعة بوجوب الإيذاء بقصد الإصلاح الذي يشمل العقوبة الجسدية للنساء – إذا كان مجديا وإذا لم تنفع الوسائل السابقة- كما تقرّها للرجال أيضا الذين يرتكبون الشذوذ كما للنساء على السواء: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء 17). وفي الواقع، فإن الشريعة إذ أتاحت إمكانية إيقاع العقوبة الجسدية على المرأة بقصد الإصلاح، فهذا يكشف عن مدى رحمة هذه الشريعة ومراعاتها للمرأة، إذ تطلب أن تُبذل كل محاولة ممكنة للإصلاح حتى لو وصلت إلى القسوة. بينما كان من الممكن أن تفرض الشريعة على الرجل أن يطلق المرأة بظهور بوادر النشوز منها فورا، ولكن هذا كان سيؤدي إلى قذفها إلى هوِّة الفاحشة السحيقة إلى غير رجعة، وكان سيؤدي إلى إغلاق كل أبواب الإصلاح.

أما القول بأن الإسلام يأمر بضرب المرأة، ويعدُّ ذلك جزءا من السلوك الطبيعي والتعامل بين الزوج وزوجته، أو أنه يطلق يد الرجل لضربها دون ضوابط، فهذا ناجم إما عن الجهل لدى بعض المسلمين وغيرهم أو عن التعصب بسوء النية من جانب أعداء الإسلام وخصومه. فالإسلام قد كرَّم المرأة وأعطاها حقوقها وصانها. والشريعة زاخرة بالوصايا التي تحض الرجل على حسن معاملة المرأة، وهذا لم يرد في القرآن الكريم فحسب، بل شمل قسطا لا بأس به من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه وحديثه.

ومع ذلك، فيجب أن يكون واضحا أن الشريعة لا تعدُّ الضرب أمرا مستحسنا أو طبيعيا، بل تعتبره إجراء قاسيا لا ينبغي اللجوء إليه إلا إضطرارا كإجراء أخير. ومعلوم أن القيام بإجراء أخير – لا يخلو من القسوة ظاهريا إذا كان في ظروف عادية – هو سنة جارية يقوم بها الناس ويستسيغونها بل يبذلون أموالهم لكي يحصلوا عليها؛ فقد يضطر المريض لأخذ دواء مرٍّ للغاية أو يتعرَّض لجرعات من علاج كيماوي أو إشعاعي مؤلم ذي أعراض جانبية شديدة الوطء لكي يتخلص من خلايا سرطانية، أو قد يصبح واجبا استئصال عضو من أعضائه لإنقاذه، وهذا كله يدخل في الإجراءات الطبية المعتادة التي لا يعترض عليها إلا أحمق. فلو قال أحد إن الطب لا فائدة ترجى منه، بحجة أنه يتضمن إجراءات قاسية وحشية لا إنسانية، ويسبب الآلام للمرضى ويعمل على بتر أعضائهم! فكيف يمكن أن نصف شخصا كهذا؟

لذلك، فمن غير الملائم أن ينظر مسلم إلى هذه الشبهة بوجل، ويظن أنها نقطة ضعيفة في الشريعة، فيلجأ إلى تأويلات بعيدة فرارا منها. بل ما يجب عليه هو أن يكون فخورا بهذه الشريعة التي أحاطت بكل جوانب احتياجات الإنسان وسعت إلى الإصلاح بكل الوسائل، بينما وقعت الشرائع الأخرى في الإفراط والتفريط؛ فعملت على إشاعة الفاحشة والفساد واستشرائه. فاليهودية قد أفرطت في الطلاق واستهانت به مما أدى إلى قذف كثير من النساء في الرذيلة في تاريخ بني إسرائيل ثم تشددت الشريعة في معاقبتهن من بعد! أما المسيحية، فكردة فعل على هذا الإفراط في شريعة التوراة، قد فرَّطت في هذا الشأن، ولم تفرض إجراءات لإصلاح فساد المرأة، وجعلت الطلاق مشروطا بوقوع الزنا، ولم تلتفت إلى أن الفساد لا يتسرب إلى المرأة فجأة بل تدريجيا، ولم تسعَ لعلاج هذا الفساد، بل كأنها طالبت عمليا بأن يتقبل الرجل من زوجته النشوز والفساد الأخلاقي مهما بلغ، ما لم يصل الأمر إلى الزنا الفعلي. ومعلوم أن هذا قد كان من العوامل التي أدت إلى شيوع الفاحشة بين المسيحيين. أما الإسلام الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، فقد عالج المسألة بحكمة واقتدار، وسعى لاجتثاث الفاحشة منذ بدايتها، وإن كان يتطلب ذلك أحيانا بعض القسوة، وكان هدفه النهائي أن يكفل للمسلمين حياة نزيهة شريفة عفيفة، وفتح باب العفو والإصلاح على مصراعية وفقا لما هو ملائم.

لذلك، يجب أن نتذكر أخيرا، أن الضرب الذي أباحه الإسلام هو لفئة من النساء الناشزات اللاتي قد بدأت تنزلق أقدامهن في الفساد، ولم ينفعهن الوعظ ولا تقييد الحرية، وكان مرجوًّا أن يؤثر فيهن الضرب تأثيرا رادعا يبعدهن عن الفاحشة، وذلك كله رحمة بهن كي لا يقذفن إلى الفاحشة بطلاقهن على الفور لمجرد ظهور بوادر النشوز. فأيهما أفضل، أن تعاقب المرأة بقصد الإصلاح، أم لا تعاقب وتقذف إلى الفساد؟ الواقع أن عدم اتخاذ التدبير الضروري في وقته إنما هو ظلم شديد للمرأة، تنزهت عنه شريعة الإسلام، ووقعت فيه الشرائع الأخرى.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة