المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..37

إنابة الجار والمجرور مناب الفاعل ونكتة نصب نائب الفاعل

الاعتراض:

اعتُرض على الفقرة التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام:

فعندي من الواجبات أن تُكتَب عليهم خدماتٌ تناسبُ قومَ كل أحد وحرفةَ كل أحد. فليُعطَ للنجّار فاسًا، وللطارق النفّاشِ مِنْسجا جِرفاسا، وللحجّام مِشْراطا وموسى، وللعصّار معصرة عظمى، لكي يشتغل كل أحد منهم بما هو أهله، ويمتنع من كل فضولٍ ولغوٍ وتأثيم، ولكي يستريح الخلق من شرهم، وعبادُ الله من أذاهم، وفي ذلك نفع عظيم لأكابرهم المغبونين.“( نور الحق)

ووجه الاعتراض بأن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في نصب نائب الفاعل فيها، وهي كل من الكلمات التالية: فأسا، منسجا، مشراطا،معصرةً؛ وذلك رغم وجوب رفعها.

وقد اتهم المعارضون الناشرَ بأنه زيّف في هذه الفقرة بتحريكه الفعل (فليعطَ) بالكسرة ليكون (فليُعطِ) إذ هكذا نشر بالكسرة، لكي يصحَّ النصبُّ في كل هذه الكلمات، رغم أنه من الواضح أن الفعل (فليعط) لا بدّ أن يكون مبنيا للمجهول.

الردّ:

أولا لا بد ّأن ننوه أنه إذا التبس أمر على الناشر أو على المدقق اللغوي، وحاول باجتهاده الشخصي أن يرى منفذا أو مخرجا من هذا اللبس وأخطأ في اجتهاده، فهذا لا يُعد تزييفا أبدا وإنما خطأ اجتهاديا لا غير، يثاب ويجزى عليه رغم خطأه، وفق قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } (صحيح مسلم, كتاب الأقضية).

والحق أن الناشر قد حصل على أجر في هذه المسألة وليس على أجرين، لأن الحقيقة هي بأن الفعل (فليُعطَ) لا بدّ أن يكون مبنيا للمجهول بالفعل كما ادعى المعارضون؛ ولكن على خلاف المعارضين فإنه رغم هذا البناء للمجهول لم يقع أي خطأ في كل هذه الفقرة البتة، فلم ينتصب أي نائب فاعل فيها قطّ، ولا خطأ نحوي في كل ما فيها.

وبيان ذلك أن المعارضين ظنّوا بأن كل الكلمات المنصوبة (فأسا، منسجا، مشراطا،معصرةً) هي في الحقيقة نائب فاعل لا بدّ من رفعه؛ وما هذا الاعتراض إلا لجهل هؤلاء بأن هذه الكلمات ليست هي نائب الفاعل في هذه الجمل، بل هي مفعول به منصوب، وما ناب مناب الفاعل هو الجار والمجرور أو المجرور نفسه الموجود في هذه الجمل وهي الكلمات التالية: (للنجّار، للطارق، وللحجّام، وللعصّار)، وذلك وفق مبدأ وقاعدة نحوية كوفية الأصل والمدرسة، ولكن يقرّ بها الكثير من كبار النحاة المعروفين أمثال الأخفش وابن مالك وأبو حيان الأندلسي وكذلك الإمام الشافعي الذي هو حجة في اللغة. ووفق هذه القاعدة يجوز أن ينوب الجار والمجرور أو عند البعض المجرور بنفسه عن الفاعل ليبقى المفعول به الأصلي على ما هو عليه من المفعولية والنصب.

وهذا ما تؤكده المصادر التالية:

فقد جاء في كتاب النحو الوافي في شرح ما يمكن أن ينوب عن الفاعل ما يلي:

وأما الجار مع مجروره فإن كان حرف الجر زائدًا – نحو: ما صودر من شيء – فلا خلاف أن النائب هو المجرور وحده – “وأنه مجرور لفظًا، مرفوع محلًا، فيجوز في التوابع مراعاة لفظه أو محله.

أما حرف الجر الأصلي مع مجروره – نحو: قُعد في الحديقة الناضرة، فالصحيح أن الذي ينوب منهما عن الفاعل هو المجرور وحده  “برغم أن الشائع على الألسنة هو: الجار مع مجروره، ولا مانع من قبوله تيسيرًا وتخفيفًا”.

ويشترط لإنابتهما أن يكون الإسناد إليهما مفيدًا، وتتحقق الفائدة بأمرين؛ أن يكون حرف الجر متصرفًا، وأن يكون مجروره مختصًا.

والمراد من التصرف في حرف الجر ألا يلتزم طريقة واحدة لا يخرج عنها إلى غيره…. والمراد بالاختصاص: أن يكتسب الجار مع مجروره معنى زائدًا فوق معناهما الخاص بهما، ويجيئهما هذا المعنى الزائد من لفظ آخر يتصل بهما؛ كالوصف، أو المضاف إليه، أو غيرهما، مما يكسبهما معنى جديدًا؛ فتحصل الفائدة المطلوبة من الإسناد.

ومن أمثلة الجار والمجرور المستوفيين للشروط: أُخذ من حقل ناضج – قُطع في طريق الماء، فلا يصح: أُخذ من حقل – قطع في طريق.

من كل ما سبق نعرف أن “الإفادة” هي الشرط الذي يجب تحققه فيما ينوب عن الفاعل من مصدر، أو ظرف، أو جار مع مجروره، وأن هذه الإفادة تنحصر في التصرف والاختصاص معًا. (إ.هـ)  {( النحو الوافي 217-218)}

ويوافق ابن مالك على ذلك في ألفيته فيقول:

وقابل ( للنيابة) من ظرف أو من مصدر … أو ( مجرور) حرف جر بنيابة حري

ويشرح الأشموني هذا البيت ويقول:

وقابل” للنيابة “ومن ظرف أو من مصدر أو” مجرور “حرف جر بنيابة حري” أي حقيق وما لا فلا: فالقابل للنيابة من الظروف والمصادر هو المتصرف المختص: نحو صيم رمضان، وجلس أمام الأمير: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] ، بخلاف اللازم منهما نحو عند وإذا وسبحان ومعاذ لامتناع الرفع، وأجاز الأخفش جلس عندك، وبخلاف المبهم نحو صيم رمضان: {حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 92)}

وكما نرى مما جاء في النحو الوافي، ومن الأمثلة الأخرى التي ضربها عند حديثه عما يصح أن ينوب عن الفاعل في حال وُجد أكثر من واحد صالح لذلك (ج2، ص 119-123)؛ ووفق ما جاء في حاشية الصبان أعلاه، فإن هذين المصدرين يَقصُران جواز إنابة الجار والمجرور أو الظرف مناب الفاعل على المفيد منها أي المتصرف المختص، وهذا هو رأي الجمهور، إلا أنه ليس رأي قطعي فهنالك من جوّز الإنابة بهما دون هذه أو بعض هذه الشروط.

فللمتمعن في أقوال النحاة في هذا الباب أن يجد العديد من الأراء، التي منها ما يجوّز بشروط ومنها ما يجوّز بعدم الأخذ ببعض هذه الشروط ومنها ما يمنع قطعا. وما يهمنا في كل هذه الآراء ذهاب البعض إلى تجويز إنابة الجار والمجرور دون تقييدهما بالإفادة أو دون تقييدهما بالاختصاص كما يظهر في النصوص التالية:

جاء في الهمع في باب ” إقامة غير المفعول به مع وجوده” ما يلي:

“اخْتلف هَل تجوز إِقَامَة غير الْمَفْعُول بِهِ مَعَ وجوده على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا: لَا، وَعَلِيهِ البصريون لِأَنَّهُ شريك الْفَاعِل وَالثَّانِي: نعم، وَعَلِيهِ الْكُوفِيُّونَ والأخفش وَابْن مَالك لوروده قَرَأَ أَبُو جَعْفَر {ليجزي قوما بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}

الجاثية 14 وَقَرَأَ عَاصِم {نُجِّي الْمُؤمنِينَ} الْأَنْبِيَاء 88 أَي النَّجَاء وَقَالَ الشَّاعِر 639

(لَسُبّ بذلك الجرْو الكِلاَبا ) وَقَالَ ،(لم يُعْنَ بالْعَلْياء إلاّ سَيِّدَا..)

…..وَإِذا اقْتضى الْفِعْل مفعولين أَو ثَلَاثَة أقيم أَحدهَا وَنصب الْبَاقِي بتعدي الْفِعْل الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول إِلَيْهِ…. وَفِي الْمَجْرُور بِحرف قَولَانِ أَحدهمَا لَا بِنَاء على أَن الْمَجْرُور لَا يُقَام وَلِأَنَّهُ بَيَان لعِلَّة الشَّيْء وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد ثُبُوت الْفِعْل بمرفوعه وَهَذَا مَا صَححهُ الْفَارِسِي وَابْن جني وَقيل يجوز بِنَاء على جَوَاز إِقَامَة الْمَجْرُور“(إ.هـ) { همع الهوامع في شرح جمع الجوامع همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، (1/ 585-588)}

وبناء على هذا، يتضح أن المذهب الكوفي والأخفش وابن مالك لا يقيدون الجار والمجرور بالإفادة أو الاختصاص لقيامها مقام الفاعل وذلك بناء على الآية الكريمة ” ليُجزى قوما بما كانوا يكسبون” . ويؤكد كل هذا أبو حيان الأندلسي في النص التالي:

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَجْزِيَ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عُلَيَّةَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ عَاصِمٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ بِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، عَلَى أَنْ يُقَامَ الْمَجْرُورُ، وَهُوَ بِمَا،وَيُنْصَبَ الْمَفْعُولُ بِهِ الصَّرِيحُ، وَهُوَ قَوْمًا وَنَظِيرُهُ: ضُرِبَ بِسَوْطٍ زَيْدًا وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ.” {البحر المحيط في التفسير (9/ 418}

فأبو حيان يقرّ بهذا النحو من إنابة الجار والمجرور مناب الفاعل دون اشتراط الإفادة  أو الاختصاص فيها،  إذ شابه بين قراءة الآية الكريمة: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (15)} (الجاثية 15) حيث قرئت بالمبني للمفعول { ليُجزى قوما بما كانوا يكسبون} مع المثال الآخر” ضُرب بسوط زيدا” والذي فيه لم يُفد ولم يختصّ الجار والمجرور؛ ويقر مع ذلك بأن هنالك من يجوّز هذا النحو على خلاف رأي الجمهور.

ومما يقطع الشك باليقين ويؤكد صحة هذا النحو من جواز إنابة الجار والمجرور دون شرط الاختصاص والإفادة، هو وروده في لغة الإمام الشافعي الذي قلنا عنه أكثر من مرة إنه حجة في اللغة، وإليكم أمثلة لإنابة الجار والمجرور مناب الفاعل مع بقاء المفعول به منصوبا كما جاء في رسالة الإمام الشافعي:

  • قلت: قال رسول الله: “إن الله حرّم من المؤمن دمه وماله، وأن يُظَن به إلا خيراً. {الرسالة للشافعي (1/ 514)} نائب الفاعل (به) و(خيرا) مفعول به
  • فإذا حرّم أن يُظن به ظناً مخالفاً للخير. { الرسالة للشافعي (1/ 514)} نائب الفاعل (به) والنفعول به (ظنا)
  • أكان يجوز أن يُشترى بالدنانير والدراهم نقداً عسلاً وسمناً إلى أجل؟ {الرسالة للشافعي (1/ 525)} نائب الفاعل ( بالدنانير)، والمفعول به (نقدا)
  • قال: أفرأيت إذا قال الواحد منهم القولَ لا ُيحفظُ عن غيره منهم فيه له موافقةً ولا خلافاً. {الرسالة للشافعي (1/ 597)} نائب الفاعل: منهم أو فيه أو له، و(موافقةً ) مفعول به منصوب ..
  • قال: أفيجوز أن تكون أصولٌ مفرَّقة الأسباب يُحكَم فيها حُكماً واحداً؟ {الرسالة للشافعي (1/ 598)} نائب الفاعل (فيها)، و(حكما) مفعول به.

و قال المحقق أحمد شاكر في هامش الرسالة تعليقا على الفقرة الأولى ما يلي:

((يُظن )) ضبط في الأصل بضم الياء على البناء لما لم يسمّ فاعله، ويكون الجار والمجرور وهو (به) نائب الفاعل، وهذا جائز على مذهب الكوفيين وغيرهم، واستدلوا له بقراءة شيبة وأبي جعفر وعاصم في رواية عنه في الآية 14 من سورة الجاثية: {لِيُجْزَى قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (15)} (الجاثية 15).

الخلاصة:

نستنتج من كل ما سبق:

  • أن الجار والمجرور ممكن أن ينوب عن الفاعل عند بناء الفعل للمجهول ويبقى المفعول به الأصلي منصوبا على المفعولية.
  • يعزى هذا النحو وهذه القاعدة إلى المدرسة الكوفية، ويجوّزه عنهم كبار النحاة المعروفين مثل ابن مالك والأخفش وأبو حيان الأندلسي والإمام الشافعي وأحمد شاكر وغيرهم.
  • هذا النحو وهذه اللغة واردة في القراءات القرآنية بمل يُغلق باب الاعتراض ويحطمه تحطيما، لأن الذي يعترض على هذه اللغة فإنما يعترض على كلام الله والقراءات القرآنية.
  • هذه اللغة واردة عن الإمام الشافعي الحجة، وكفى بهذا حجة على المعارضين.
  • يثبت من كل هذا صحة ما جاء في فقرة المسيح الموعود عليه السلام أعلاه، ببناء الفعل للمجهول ( فليُعطَ) وبذلك تكون الأسماء المجرورة بعد حرف الجر في: (للنجّار، للطارق، وللحجّام، وللعصّار)، هي نائب الفاعل في الجملة ويكون إعرابها : أسماء مجرورة لفظا مرفوعة محلا على أنها نائب فاعل. وأما الأسماء المنصوبة:(فأسا، منسجا، مشراطا، معصرة) يكون إعرابها: مفعول به منصوب.
  • وكل هذا يثبت أن إنابة الجار والمجرور مناب الفاعل دون شرط الإفادة والاختصاص لهما، لهي لغة عربية صحيحة تؤكد معجزة المسيح الموعود عليه السلام بتعلّمه أربعين ألفا من اللغات العربية من الله تعالى في ليلة واحدة.