المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية..65

أهي فاء عابثة أم فاء هادفة ..2

اقتران المضارع بالفاء في جواب الشرط


الاعتراض:

اعترض المعارضون على لغة المسيح الموعود عليه السلام، فيما يخص الجمل الشرطية كالجملة التالية:

  • ثم إذا صبا إلى ثدي الأُمّ للرضاع، فيُسمَّى صبيًّا. (منن الرحمن)

وموضع الخطأ وفق زعمهم يكمن في اقتران جواب الشرط بالفاء رغم كونه جملة فعلية مضارعية؛ و(الفاء) وفق جهلهم، لا يمكن أن تتصل بمثل هذا الموضع بل لها مواضع أخرى لدخولها على جواب الشرط. ( يُنظر المقال السابق: المظاهر الإعجازية 64).

وقد أورد هؤلاء ما ستةَ عشرَ مثالا لهذه المواضع في لغة المسيح الموعود عليه السلام، وقالوا بأن هذه الأخطاء لا تحصى وقد تصل إلى المئات في كتابات المسيح الموعود عليه السلام.

وكل هذه الأخطاء مردّها إلى العجمة وقلة التمكن والسيطرة على الأحرف العربية للأعجمي الذي يتعلم اللغة العربية كالمسيح الموعود عليه السلام. فهذه الفاء الداخلة على المضارع في جواب الطلب لهي خطأ وعجمة وعبث تُشعر بالضيق وتصعّب فهم المعنى المقصود.

الردّ:

المقدمة:

كنا قد فصّلنا في المقال السابق المواضع التي يجب فيها اقتران جواب الشرط بالفاء، وقلنا إنها تتعدى المواضع التي يعرفها المعارضون وأوردنا لذلك أمثلة من القرآن الكريم.

وقلنا هنالك إن اقتران الفاء في جملة جواب الشرط الفعلية المضارعية ممكنٌ إذا كانت مصدرة بأحد حروف النفي أو الشرط مثل : لا، لن، إنْ النافية، ولم، وإنْ الشرطية. وهي مواضع يجهلها المعارضون.

أما في هذا المقال فسوف نثبت إمكانية دخول الفاء على جملة جواب الشرط المضارعية مباشرة، دون تصدرها بأحد الأحرف المذكورة أعلاه. أي إمكانية وصحة اقتران الفاء بالفعل المضارع في جواب الشرط مباشرة؛ حيث إنها ما يَعترض عليه المعارضون ويظنون لجهلهم أنها خطأ وعجمة، رغم كونها أصلا من أصول اللغة العربية.

البحث والتفصيل:

فبعد أن عدد النحو الوافي المواضع التي يجب فيها اقتران جملة جواب الشرط بالفاء، وهي المواضع التي فيها لا يصح للجواب أن يكون فعلا للشرط، تعرّض الكاتب إلى ما يخرج عن هذه القواعد متسائلا: هل يصح أن يقترن الجواب بالفاء في غير تلك المواضع التي لا يصلح فيها أن يكون فعلَ شرط؟

فقال:

إن كان فعل الجواب مضارعا يصلح فعلا للشرط ((جاز: إما تجرده من “الفاء” مع وجوب جزمه، وإما اقترانه “بالفاء”؛ بشرط أن يكون مثبتا أو منفيا ب”لا”، قيل: أو “لم” أيضا، “ففي “لم” خلاف”، ومتى اقترنت “الفاء” به وجب رفعه على اعتباره خبر مبتدأ محذوف، والجملة الاسمية جواب الشرط.)) ولا يصح أن يكون المضارع المرفوع وحده هو الجواب: إذ لو كان الجواب لوجب جزمه، والحكم بزيادة الفاء زيادة مطلقة، يراعى فيها تقدير سقوطها. لكن العرب التزمت رفعه معها؛ فدل هذا على أصالة الفاء، وأنها داخلة على مبتدأ مقدر، وليست زائدة للربط. ومن أمثلته قوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} ، أي: فهو لا يخاف..

فإن لم يوجد في الكلام ما يعود عليه المبتدأ الضمير كان الضمير للشأن أو للقصة، كقراءة من قرأ قوله تعالى في حكمة شهادة المرأتين: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} بكسر همزة: “إن” ورفع المضارع: “تذكرُ”. والتقدير: فهي -أي: القصة- تذكر، ونحو: إن قام المسافر فيتبعه صديقه. أي: فهو -الحال والشأن- يتبعه صديقه “وفي هذه القراءة نوع تكلف لا داعي له”.

ومن أمثلة عدم اقترانه “بالفاء” مع نفيه بالحرف “لا” ووجوب جزمه باعتبار هذا المضارع وحده جوابا للشرط مباشرة – قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فالمضارع: “تحصوا” هو جواب الشرط مجزوم بحذف النون.” {النحو الوافي (4/ 467- 468) }

وفي هذا الصدد يضيف النحو الوافي عن أحكام جملة جواب الشرط ما يلي:

جزم فعلها لفظا إن كان مضارعا، ومحلا إن كان ماضيا؛ بشرط ألا تقترن به في الصورتين “الفاء” أو “إذا” الفجائية -وهما لمجرد الربط طبقا،… “فإن كان الجواب مقترنا “بالفاء الرابطة، أو “إذا” الفجائية التي تحل محلها -أحيانا- فإن الجازم يؤثر في مجموع الجملة، لا في الفعل وحده، ولا في غيره من أجزائها، فتأثيره مسلط عليها كلها مجتمعة متماسكة الأجزاء -ومن بين أجزائها: الفاء، وإذا الفجائية- فتصير الجملة كلها في محل جزم بأداة الشرط. ويظهر أثر هذا الإعراب المحلي في توابعها -كما سلف وكما سيجيء هنا. ولا يصح جزم الفعل.” {النحو الوافي (4/ 456- 457)}

وعن إعراب المضارع في مثل هذا التركيب يقول النحو الوافي:

أي: الذي يعتبر وحده فعل الجواب مجزوما، وهو مع فاعله جملة فعلية هي جملة الجواب؛ وليست في محل جزم. بخلاف بعض الحالات الأخرى، كالتي يكون فيها المضارع مع فاعله خبرا لمبتدأ محذوف، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره هي الجملة الجوابية، في محل جزم -كما سيجيء في هامش ص443- ففي هذه الصورة وأمثالها لا يكون هو فعل الجملة الجوابية إذ الجملة المضارعية هنا خبر لمحذوف، وليست هي الجواب، وليس المضارع فيها مجزوما.” {النحو الوافي (4/ 472)}

ولا يقتصر الأمر على جواز دخول الفاء على الفعل المضارع في جواب الشرط، بل إن الكوفيين قد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث قالوا بتقدير وجودها عند رفع المضارع في جواب الشرط رغم عدم اقترانه بالفاء. حيث يجوز رفع المضارع في جواب الشرط إن كان فعل الشرط ماضيا، ويجوز على قلة رفعه إن كان فعل الشرط مضارعا. وعن هذه الأحوال يقول النحو الوافي ما يلي:

وقال الكوفيون والمبرد: إن المضارع وما يتصل به هو الجواب، ولكن على تقدير “الفاء” التي تدخل على الجواب أحيانا؛ فتقوم في إفادة الربط بين جملتي الشرط والجواب مقام جزم الفعل، ولا يجزم معها الفعل؛ استغناء بها في الربط عن الجزم -كما سبق في ص458- ويعرب هذا المضارع المرفوع مع فاعله خبرا لمبتدأ محذوف، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره هي جواب الشرط في محل جزم. ويجب عندهم رفع المضارع في هذه الصورة؛ لأن المضارع الواقع في حيز “فاء” الربط على الصورة السالفة واجب الرفع بالرغم من أن الفاء هنا مقدرة سواء أكان فعل الشرط ماضيا، نحو قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أم مضارعا كقوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} . ففي الكلام عندهم حذف الفاء وتقدير وجودها، وحذف المبتدأ، وتكوين جملة منه ومن خبره تعرب جواب الشرط، وجملة الجواب في محل جزم، فيجوز العطف عليها بالجزم، ولا يصح أن يكون لها معمول مقدم ولا أن تفسر عاملا. وهذا الرأي -برغم ما فيه- أقرب من رأي سيبويه إلى القبول….

ويرى الكوفيون والمبرد ومن معهم تقدير الفاء هنا (عند كون فعل الشرط مضارعا)كما قدروها هناك ( عند كون فعل الشرط ماضيا)”في “أ” ويتساوى عندهم أن يكون فعل الشرط ماضيا وأن يكون مضارعا. وهذا خير من رأي سيبويه.” {النحو الوافي (4/ 476- 475)}

الخلاصة والنتيجة:

يثبت من أقوال النحو الوافي المذكورة ما يلي:

  • أن اقتران الفاء بالفعل المضارع في جواب الشرط جائز صحيح.
  • في مثل هذا التركيب لا تعتبر الفاء للربط، بل تعتبر فاء أصلية داخلة على مبتدأ مقدر.
  • لا تعتبر الفاء داخلة على جملة فعلية في هذه الحال بل على جملة اسمية قُدر المبتدأ فيها.
  • لا بدّ في هذه المواضع أن يُرفع الفعل المضارع على اعتباره مع فاعله جملة خبرا للمبتدأ المقدر، إذ إن العرب التزمت رفع الفعل المضارع في مثل هذا التركيب .
  • من الأمثلة القرآنية الأخرى التي أوردها النحو الوافي: قوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} وقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}
  • ومن الأمثلة القرآنية من القراءات: {إنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
  • الفعل المضارع في مثل هذا التركيب لا يكون مجزوما بل مرفوعا، ولا يعدّ هو فعل الجواب ، وهو وفاعله جملة فعلية ليست هي جملة جواب الشرط بل خبر لمبتدأ محذوف، والجملة الاسمية من المبتدأ المحذوف وخبره هي جملة جواب الشرط في محل جزم؛ حيث إن أداة الشرط في مثل هذه الحالة لا تعمل على الفعل المضارع مباشرة بل تعمل على كل الجملة الجوابية بما فيها الفاء.
  • الكوفيون والمبرد يذهبون إلى أبعد من تجويز دخول الفاء على المضارع في جواب الشرط، وذلك بتقدير وجودها عند رفع المضارع في جواب الشرط.
  • ويثبت أن الفاء الواردة في هذه التراكيب لهي فاء هادفة لا عابثة؛ تهدف إلى الدخول على مبتدأ محذوف كضمير يعود إلى سابق مذكور أو كضمير الشأن والقصة لتعظيم الأمر للسامع ولفت انتباهه، وهي فاء أصلية في لغات العرب لا أعجمية، واردة في القرآن الكريم والقراءات المختلفة، والتزم العرب معها رفع المضارع في جواب الشرط.

وبناء على كل هذا يثبت صحة وفصاحة العبارات المعترَض عليها من كلام المسيح الموعود عليه السلام في هذا الصدد. وهي العبارات التالية مع التقدير الممكن للمعنى:

  • ثم إذا صبا إلى ثدي الأُمّ للرضاع، فيُسمَّى صبيًّا . (منن الرحمن) التقدير: فهو يُسمى صبيا.
  • ثم إذا فكرت في سورة ليلة القدر فيكون لك ندامة وحسرة أزيد من هذا. (حمامة البشرى، ص 138) التقدير: فالشأن يكون لك../ فأنت يكون لك
  • ثم إذا ظهرت براءته وأنارت حجته، فيرجعون إليه متندمين. (حمامة البشرى) التقدير: فالشأن يرجعون إليه/ فهم يرجعون إليه..
  • ثم إذا دقّقتَ النظر وأمعنت فيما حضر، فيظهر عليك أن … (نور الحق) التقدير: فالشأن يظهر عليك/ فأنت يظهر عليك..
  • فإذا رزقوا من تلك الحواس فيتحلون بحلل مبتكرة، ويسمعون أغنية جديدة. (التبليغ)التقدير: فهم يتحلون.
  • فإذا ظهر لأحد منهم أن تلك الشرور والمفاسد من بغي أمّته، فيضطر روحه اضطرارًا شديدًا. (التبليغ)التقدير: فالشأن يضطر روحه.
  • فإذا تم أمر التوهين والتحقير والإيذاء، فيتموّج حينئذ غيرةُ الله لأحبّائه من السماء” (حجة الله، ص 111). التقدير: فالشأن أو فالقصة يتموج حينئذ..
  • “إذا كانت مغمورة في حُبّ شيء من المطلوبات، فتنسى أشياء يخالفه (سر الخلافة، ص 5). التقدير: فهي تنسى..
  • “وإذا رسخوا في جهلهم فتدخُل العثرات في العادات” (سر الخلافة، ص 6). التقدير: فالشأن تدخل العثرات في العادات..
  • وإذا كُشف عليهم مِن سرٍّ فتزدري أعينهم ويظنون ظن السوء ويكفرون (التبليغ، ص 50). التقدير: فالشأن تزدري أعينهم..
  • إذا تقرر هذا فيلزم منه أن تبقى كل سماء من العرش إلى السماء الدنيا خالية عند نزول الله تعالى على الأرض (حمامة البشرى، ص 145).التقدير: فالشأن يلزم منه
  • ثم معلوم أن المخالفة إذا بلغت منتهاها، فتزيد شقاوة المخالف يوما فيوما  (حمامة البشرى) التقدير: “فالشأن تزيد شقاوة المخالف..”
  • فإن العناد إذا بلغ كماله فيجترئ المعاند لشدة عناده يوما فيوم  (حمامة البشرى) التقدير: :إذا بلغ كماله  فالشأن يجترئ المعاند..”
  • فإن كنت سعيدا فتقبَلها بعدما فهمتَها، وإن كنتَ شقيًّا فتبقى على إنكارك  (حمامة البشرى) التقدير: “فإن كنتَ سعيدا فأنتَ تقبلها..وإن كنتَ شقيا فأنت تبقى على..”
  • فكلما يُخالفونه ويتركون طريقه فيَبعدون عن طرق السعادة والصدق والصواب. (حمامة البشرى ) التقدير: “فكلما يخالفونه ..فهم يبعدون
  • وكذلك إذا أراد الله بعبد خيرا فيعطيه من لدنه قوة. (حمامة البشرى ) التقدير:“إذا أراد الله ..فهو يعطيه .”
  • فكلما يُخالفونه ويتركون طريقه فيَبعدون عن طرق السعادة والصدق والصواب. (حمامة البشرى )  التقدير: فهم يبعدون

وقد أقر المعارضون أن أمثال هذه الفقرات الخاطئة لا تحصى في لغة المسيح الموعود عليه السلام، إذ قد تصل إلى المئات؛ فبذلك نكون قد دحضنا المئات التي لا تحصى من الأخطاء المزعومة في ضربة واحدة.

وأعود و أذكر بأن الذي يقول بعبثية وعجمة هذه الفاء فإنه يقول بعبثية وعجمة القرآن الكريم والوحي الإلهي من حيث يدري أو لا يدري.

وبذلك تكون هذه الفاء الداخلة على المضارع في جواب الشرط مظهرا إعجازيا جديدا في لغة المسيح الموعود عليه السلام. وتجليا جديدا للغة من أربعين ألف لغة تعلمها المسيح الموعود عليه السلام من الله العلام في ليلة واحدة بتعليمه الإعجازي.

فمن كان له أذنان للسمع فليسمع، ومن كان له عينان للنظر فلينظر، ومن كان له عقل للفهم فليفهم ومن كان له قلب للإيمان فليرهب لربه وليقنت.