المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية … (4)

صرف الممنوع من الصرف للتناسب اللفظي …

القاعدة المتبعة:

درس الممنوع من الصرف درس طويل عريض في مناهج الدراسة، ولسنا في موضع تفصيله هنا، غير أن خلاصته هي أن هنالك نوعا من الأسماء والصفات التي لا تقبل التنوين ولا تقبل الكسر فيخفف تنوينها إلى حركة واحدة، أو تُجرّ بالفتحة، وفق ما يقتضيه الموقع الإعرابي. ومن المعروف عند النحاة جواز صرف الممنوع من الصرف للضرورة الشعرية.

لقد وردت في كتابات المسيح الموعود عليه السلام عليه السلام الفقرة التالية:

  • ويهب لهم مداركَ وحواسّا (نجم الهدى).

وقد يظن البعض أن المسيح الموعود يعرف قواعد الممنوع من الصرف، ولكن لا يعرف كيفية تطبيقها في كل موضع، إذ لا يجيد حضرته تطبيق القاعدة على صيغة منتهى الجموع الممنوع من الصرف عندما يكون آخره حرفين مدغمين، لذلك نراه منَع كلمة “مدارك” من الصرف في هذه الفقرة، ولكنه صرف كلمة “حواسّا” المدغمة الآخر، رغم أن “كلتي” الكلمتين من صيغ منتهى الجموع ويجب أن تمنعا من الصرف.

غير أن هذا الظن يبطُل ويتَهاوى دفعة واحدة حين يعلم من يظن ذلك، أن صرف الممنوع من الصرف عند بعض النحاة جائز ليس فقط للضرورة الشعرية، بل أيضا للتناسب في الكلام، أي لكي يقع تناغم في الألفاظ وتكون على وتيرة موسيقية واحدة، حيث جاء في كتاب النحو الوافي نقلا عن ابن مالك في الفيته ما يلي:

وفي تنوين الممنوع، ومنع التنوين من الاسم الذي يستحقه.. يقول ابن مالك في ختام الباب:

ولاضطرار أو تناسب صرف … ذو المنع. والمصروف قد لا ينصرف

يريد: أن الممنوع من الصرف قد يصرف بسبب الضرورة أو التناسب الكلامي، وأن المصروف قد يمتنع تنوينه. وقد أوضحنا الحكمين، وسردنا تفاصيلهما. (النحو الوافي (4/ 274(إ.ه)

وجاء كذلك عن الممنوع من الصرف في النحو الوافي:

ويجوز تنوينه ومنعه من التنوين في حالتين:

الأولى: مراعاة التناسب في آخر الكلمات المتجاورة، أو المختومة بسجعة، أو بفاصلة في آخر الجمل؛ لتتشابه في التنوين، من غير أن يكون له داع إلا هذا؛ لأن للتناسب إيقاعا عذبا على الأذن، وأثرا في تقوية المعنى، وتمكينه في نفس السامع والقارئ. ومن الأمثلة كلمة: “سلاسلا” بالتنوين في قراءة من قرأ قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} فقد ونوت الكلمة لمراعاة لا التي تليها وتجاوزها. وكذلك كلمة: “قوريرا” في قراءة من قرأها بالتنوين في قوله تعالى يصف أهل الجنة: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} ، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} ، {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} فقد نونت كلمة “قواريرا” الأولى لمراعاة التنوين في آخر الجملة التي قبلها، ومراعاة لآخر الجملة التي بعدها … ونونت كلمة: “قواريرا” الثانية لمراعاة الأولى، … ولمراعاة نهاية الآية السابقة، فإنها منونة أيضا.

ومن الأمثلة قراءة من قرأ: “يغوث”، و”يعوق” منونتين في قوله تعالى عن المشركين، ومخاطبة بعضهم بعضا بالتمسك بأصنامهم: وقالوا: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1، فقد نونت الكلمتان مراعاة لما حولهما من كلمات أخرى منونة. (إ.ه) ( النحو الوافي)

ولإثبات أن حضرته قد صرف حواسا المجاورة ل “مدارك” لهدف التناسب، لا بد من ذكر الفقرة كلها ليتّضح هذا التناسب وكيفية وقوعه. يقول المسيح الموعود عليه السلام:

فالغرض أن تعليم كتاب الله الأحكمَ ورسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، كان منقسما على ثلاثة أقسام: الأول .. أن يجعل الوحوش أناسًا، ويعلّمهم آداب الإنسانية ويهب لهم مدارك وحواسًّا” (نجم الهدى)

ففي هذه الفقرة لكي يقع هذا التناغم والتناسب بين كلمة “حواسا” وكلمة “أناسا” التي سبقتها ولكي يضفي هذا نوعا من السجع والموسيقى في الكلام، كان لا بد للمسيح الموعود ان يصرف “حواسا” ليظهر التنوين عليها كما في كلمة ” أناسا” ، هذا رغم منع “مدارك” من الصرف.

وبهذا نكون قد أبطلنا من جهة واحدة، نظرية من يقول بأن المسيح الموعود لا يعرف تطبيق قاعدة الممنوع من الصرف مع منتهى الجموع المدغم الآخِر، حيث ثبت أن صرفه لها في هذه الفقرة رغم عدم صرف ما شابهها وسبقها من كلمة ” مدارك”، جاء متعمَّدا بهدف تناسب الكلام في هذا الموضع. ويثبت من ذلك أن حضرته لا يعلم فقط قاعدة الممنوع من الصرف وكيفية تطبيقها، بل يعلم أماكن ومواضع الشذوذ عنها وكيفية تطبيقها كذلك.

وكل ذلك شاهد على إلمام حضرته منقطع النظير ببحر اللغة العربية ودقائقها، مما لا يمكن أن يتأتى لولا العناية والتأييد والوحي الربياني.

إذن، ثبت من كل هذا أن صرف الممنوع من الصرف للتناسب اللفظي لغة من لغات العرب، وهي هنا مظهر من مظاهر الإعجاز في لغة المسيح الموعود عليه السلام، أتت شاهدة على تحقق معجزته في تعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة.

كان هذا مظهرا جزئيا من مظاهر الإعجاز فيما يتعلق بصرف الممنوع من الصرف، أما المظهر المطلق للإعجاز في هذا الموضوع فسيتبع في المقال التالي، الذي سوف يسدل الستار على هذا الموضوع فارتقبوه.