درس الاستثناء وأحكامه من أحد الدروس الطويلة التي تكثر وتتضارب فيها الأحكام والقواعد النحوية، إلا أنه ما يهمنا في هذا السياق تبيان القواعد الأساسية الدارجة والمعروفة في لغتنا اليوم وهي القواعد التالية:

من الحالات التي يجب فيها نصب المستثنى “بإلّا” ما يلي:

أولا: إذا كان المستثنى متصلا ( من نفس جنس المستثنى منه)، والكلام تام ( أي ذكر فيه المستثنى منه)، والكلام موجب (أي لا يحتوي على نفي أو ما في معناه أو ما يشبهه من النهي والاستفهام مثلا)

غير أنه لا بد من معرفة أن هذه القواعد الأساسية، ما هي إلا قواعد بدائية وضعت من أجل تيسير تعلم اللغة العربية نظرا لاتساعها وصعوبتها ووضعها في إطار واحد يضبطها. إذ لا شك أنه عند الدراسة المتعمقة والتبحر في اللغة لا بد أن نجد لهذه القواعد قواعد أوسع وأشمل، ليتضح وفقها بأن الخروج عن القاعدة الأساسية البدائية لا يمكن أن يُعد خطأ لغويا، بل على العكس تماما لا بدّ أن يُعزى ذلك إلى الإلمام والتبحّر باللغة والإحاطة بها.

وقد ظهرت مظاهر الإعجاز اللغوي في كلام سيدنا أحمد عليه السلام بالذات في هذا الموضوع باتباعه تلك القواعد الشاملة والتفصيلية لقواعد الاستثناء، مما قد يجهله المتخصصون في اللغة العربية أنفسُهم، إذ قد تُشكل عليهم الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود، رغم أن مواضع الإشكال الموهوم فيها هي بحد ذاتها مواضع الإعجاز اللغوي نفسه، وهذه الفقرات هي:

  1. وكلّ نفس تتنبّه عند ظهوره إلا الفاسقون (سر الخلافة، ص 60).
  2. وصاروا سِباعًا بعد أن كانوا كالأنعام، إلا قليلٌ من الكرام (لجة النور، ص 41).
  3. أنظارهم سطحية وقلوبهم مستعجلة، إلا قليلٌ منهم (نور الحق).
  4. وإذا مررتم بالحق مررتم مستهزئين إلا قليلٌ من الراشدين (مكتوب أحمد).
  5. فهُم مني وأنا منهم، إلا قليلٌ من الغافلين (مكتوب أحمد). الصحيح: قليلا.
  6. ويغتابون في المساجد [العلماء] ويأكلون لحم إخوانهم المسلمين، إلا قليلٌ من الخاشعين (مكتوب أحمد).
  7. في قلوبهم مرض فيزيد الله مرضهم ويموتون محجوبين، إلاّ قليلٌ منهم فإنهم من الراجعين (حجة الله).
  8. ومضى من هذه المائة خُمْسُها إلا قليلٌ من سنين (الخطبة الإلهامية)..
  9. ويدخل الحقُّ كل دارٍ إلا قليلٌ من المجرمين (الخطبة الإلهامية).
  10. وكان قُدّر أن الناس يضلّون كلهم في الألف السادس إلا قليلٌ من الصالحين (الخطبة الإلهامية).
  11. وكثُر فيه المشركون، إلا قليلٌ من الذين كانوا يتّقون (الخطبة الإلهامية).
  12. تشابهت قلوبهم بآبائهم الضالين، إلا قليلٌ من عباد الله الصالحين (لجة النور).
  13. يشيعون الجرائد لقبض الصِلات، واستنضاض الإحالات، إلا قليل من أهل التقاة (الهدى والتبصرة).
  14. وانقطع صفاء التعلق بالحضرة، إلا قليلٌ من الذين يدعون الله (مواهب الرحمن).

وتكمن مواضع الإعجاز في هذه الفقرات، في رفع كلمة “قليل” و ” الفاسقون” رغم أنها وفق القاعدة الأساسية لا بدّ ان تنصب على الاستثناء على اعتبار أن الكلام في هذا الاستثناء تام متصل موجب.

إلا إنه الإعجاز المنبثق من تعليم الوحي الرباني للمسيح الموعود عليه السلام للقواعد واللهجات واللغات العربية الفصيحة، والتي لا يلمّ بها إلا من كان متبحرا في اللغة العربية، فهذا الإعجاز- ولا ريب- هو الذي جاء برفع المستثنى في هذه الفقرات!!

فما هي هذه القواعد واللهجات الفصيحة التي نزل فيها الوحي الإلهي في كلام المسيح الموعود عليه السلام إذا!؟؟

جاء في كتاب النحو الوافي ما يلي:

إذا كانت أداة الاستثناء هي “إلا”، ولم تكرر فللمستثنى بها ثلاثة أحكام:

الأول: وجوب النصب ((في الأغلب))، بشرط أن يكون الكلام تامًا موجبًا؛ سواء أكان “المستثنى” متأخرًا بعد “المستثنى منه”، أم متقدمًا عليه، وسواء أكان “متصلًا”، أم “منقطعًا”، فمتى تحقق الشرط كان النصب واجبًا ((في الأغلب)) وعامًا يشمل كل الأحوال.” (إ.ه)

وفي الهامش لهذا النصّ في تفسير “وجوب النصب في الأغلب” جاء ما يلي:

وهذا هو الشائع، وهناك رأي آخر لا يوجب النصب،

وقيل في الهامش عن أحكام الاستثناء ما يلي:

هذا الباب من أكثر الأبواب تعدادًا في الأحكام، واختلافًا فيها، ومنها المردود والضعيف، وقد حاولنا جاهدين تصفيته مما يشوه الحقائق الناصعة.

وجاء بعد ذلك في نفس الكتاب :

د- وردت أمثلة مسموعة وقع فيها المستثنى غير منصوب، مع أن الكلام تام موجب؛ ومنها قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُم} في قراءة كلمة: “قليل” بالرفع، ومنها: تغير المنزل إلا باب1 ومنها قوله عليه السلام: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة، إلا امرأةٌ، أو مسافرٌ، أو مريضٌ“، وقوله أيضًا: “فتفرقوا كلهم إلا قتادة … ” … و … و …” ( إ.ه)

وقد ردّ المؤلف الذي أخذ على عاتقه غربلة أحكام المستثنى رأيَ بعض النحاة، الذين حاولوا تأويل هذا الرفع في الاستثناء التام الموجب على انه تام غير موجب بهدف إخضاع هذا الرفع إلى البدلية التي تجيزه أحكامهم الصارمة في المستثنى التام غير الموجب؛ بقوله:

أولها: ……. وهكذا، فلو أخذنا برأيهم، وفتحنا باب التأويل على هذا النمط لم يبق في الكلام العربي أسلوب مقصور على “التمام مع الإيجاب” دون أن يصلح للنوع الثاني “وهو: التام غير الموجب”، وهذا غير مقبول.

وثانيهما: وهو الأهم أن الآية والمثال وغيرها مما وقع فيه المستثنى غير منصوب في الكلام التام الموجب إنما ورد صحيحًا مطابقًا للغة بعض القبائل العربية، التي تجهل السلقية الكلام “التام الموجب، والتام غير الموجب” متماثلين في الحكم1؛ ويجوز فيهما: إما النصب على الاستثناء، وإما البدل من المستثنى منه، وإما الرفع على الابتداء 2 … و … فلا معنى للتأويل بقصد إخضاع لغة قبيلة للغة نظيرتها3.” (إ.ه)

وفي الهامش أضاف المؤلف ما يلي:

1 وقد ورد النص على هذا في كثير من المراجع النحوية، ومنها: حاشية ياسين على “التصريح، شرح التوضيح”، ففيها البيان والأمثلة من القرآن والحديث وغيرهما مما سرده في أول “الاستثناء”، وكذا الصبان.

2 من يرفع الاسم بعد: “إلا” في الكلام التام الموجب فعلى اعتبار ذلك الاسم عنده مبتدأ، خبره مذكور أو محذوف، ويجعل المستثنى حينئذ هو الجملة في محل نصب على الاستثناء، ويجري هذا في المتصل والمنقطع.

3 ومما يتصل بهذا ويفيد عرضه هنا ما جاء في تفسير البحر المحيط” ج 2 ص 266 لأبي حيان: “للآية الكريمة: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُم} …. ونص كلامه:

” … وقرأ عبد الله، وأبي، والأعمش، “إلا قليلٌ” بالرفع، ” (إ.ه)

وقد رد المؤلف تأويل الزمخشري لهذه الآية بأنها تُحمل على الكلام التام غير الموجب بقوله إن الزمخشري لم يحفظ الإتباع بعد الموجب فقال:

وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد “إلا” على التأويل هنا دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب؛ فلذلك تأوله.” (إ.ه)

ويخلص مؤلف النحو الوافي إلى الحكم النهائي التالي:

ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد “إلا” وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهو الأفصح والثاني: أن يكون ما بعد إلا تابعًا لإعراب المستثنى منه؛ إن رفعا فرفع، أو نصبًا فنصب، أو جرا فجر؛ فنقول: قام القوم إلا زيدٌ، ورأيت القوم إلا زيدًا، ومررت بالقوم إلا زيدٍ، وسواء أكان ما قبل إلا مظهر أو مضمرًا، …” (إ.ه)

وبناء على كل ما تقدم من بحث نخلص إلى ما يلي:

  • لم يقع أي خطأ في فقرات المسيح الموعود عليه السلام الآنفة الذكر والتي ورد فيها المستثنى مرفوعا في الكلام التام الموجب المتصل.
  • وقع رفع هذا النوع من الاستثناء في القراءات القرآنية وبالذات لنفس الكلمة “قليل” في قراءة {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (البقرة 250) التي وردت عن عبد الله بن عباس والأعمش.
  • وقع رفع هذا النوع من الاستثناء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم كما في الأمثلة المذكورة أعلاه، وكفى بهذا شهادة على فصاحة المسيح الموعود عليه السلام.
  • هذا النوع من الرفع في الاستثناء يشهد على صحته وفصاحته كتاب النحو الوافي الذي أخذ على عاتقه غربلة الضعيف والمردود في أحكام المستثنى.
  • هذا الرفع في الاستثناء وارد عن أشهر وأفصح القبائل العربية وهي قبيلة تميم والقبائل الأخرى التي وفق سليقتها لا تجعل فرقا بين الاستثناء التام الموجب والتام غير الموجب إذ تجيز فيها كلها النصب على الاستثناء أو الإبدال من المستثنى منه وحتى الرفع على الابتداء.
  • أقرّ كبار النحاة وعلى رأسهم ابن مالك بأن نصب المستثنى في الكلام التام الموجب يؤخذ على الجواز وليس الوجوب. كما أقرّت بذلك أهم المراجع والمصادر النحوية.
  • إذن، فإن الرفع الوارد في فقرات المسيح الموعود عليه السلام ممكن أن يؤخذ على أنه بدل من المستثنى منه أو مبتدأ، شهدت عليه لغات القبائل العربية الفصيحة، وأهم المراجع النحوية وكبار النحاة، والحديث الشريف والأهم من ذلك الوحي الإلهي الذي نزلت به القراءات القرآنية، وليس أعظم شهادة على الإعجاز في لغة المسيح الموعود عليه السلام من شهادة الوحي الإلاهي والقرآن الكريم وكبار حافظي القرآن وقارئيه.
  • ثبت من كل هذا أن رفع المستثنى في الفقرات الآنفة الذكر من كلام المسيح الموعود ما هو إلا مظهر من عظيم مظاهر الإعجاز اللغوي في كلام المسيح الموعود، والذي ينمّ عن إلمام حضرته عليه السلام بأدق القواعد النحوية التي يجهلها متخصصي اللغة العربية أنفسهم.
  • وما جاء هذا الرفع في الاستثناء في كلام حضرته إلا تأكيدا جديدا على تحقق معجزة حضرته عليه السلام بتعلم أربعين ألفا من اللغات العربية من الله العليم في ليلة واحدة.

ونلخّص هذا البحث بالمقولة التالية: كلُّ كتابات المسيح الموعود عليه السلام صحيحةٌ إلا “قليلٌ” من السهو، ولا ريب في أنّ كل َّكتاباتِه فصيحةٌ، إلا “قليلٌ” من السهو؛ فالأولى على البدلية والثانية على الابتداء، وأيهما شئتم فخذوه لا تخافون لومة لائم.