من المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ما جاء في الفعل الناقص “ليس”. فالشائع والمعروف عن “ليس” في لغتنا العربية أنها فعل ناقص جامد من أخوات كان، يدخل على المبتدأ والخبر فيرفع الأول وينصب الثاني.

ويندر أن نجد ليس في لغتنا العربية خارجة عن هذا الإطار، إلا أننا قد وجدناها كذلك في لغة المسيح الموعود في عدة مواضع مثلما سوف نبيّنه لاحقا. فما حقيقة هذا الخروج عن القاعدة المعروفة التي ذكرناها، أكان هذا خطأ أو سهوا من حضرته عليه السلام مثلما يظن البعض!؟ أم أن الأمر إعجاز آخر يتجلى لنا في كلمة “ليس” ليكون شاهدا على صدق المسيح الموعود عليه السلام!؟ وهاكم تفصيل الأمر:

عند الفحص والتحري الدقيق في المراجع اللغوية والنحوية يظهر لنا اختلاف النحاة في أمر “ليس” من حيث اعتبارها فعلا أو حرفا، فرغم أن الشائع والمعروف في اعتبارها فعلا ناقصا من أخوات كان، إلا أن هنالك من النحاة من اعتبرها حرفا للنفي أو حرفا للعطف أيضا في بعض المواضع.

وبناء على هذا الاختلاف شذّت “ليس” عن القاعدة الأساسية المذكورة أعلاه، لتأخذ لها منحى مغايرا عن رفع المبتدأ ونصب الخبر وفق ما جاء في المصادر التالية: ملحوظة: التركيز على الكلام في الخط العريض

جاء في مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام (ص: 386)

لَيْسَ

كلمة دَالَّة على نفي الْحَال وتنفي غَيره بِالْقَرِينَةِ نَحْو لَيْسَ خلق الله مثله وَقَول الْأَعْشَى:  (لَهُ نافلات مَا يغب نوالها … وَلَيْسَ عَطاء الْيَوْم مانعه غَدا)

وَهِي فعل لَا يتَصَرَّف … وَزعم ابْن السراج أَنه حرف بِمَنْزِلَة مَا وَتَابعه الْفَارِسِي فِي الحلبيات وَابْن شقير وَجَمَاعَة وَالصَّوَاب الأول بِدَلِيل لست ولستما ولستن وليسا وَلَيْسوا وَلَيْسَت ولسن

وتلازم رفع الِاسْم وَنصب الْخَبَر وَقيل قد تخرج عَن ذَلِك فِي مَوَاضِع

  1.  أَحدهَا أَن تكون حرفا ناصبا للمستثنى بِمَنْزِلَة إِلَّا نَحْو أَتَوْنِي لَيْسَ زيدا …
  2. وَالثَّانِي أَن يقْتَرن الْخَبَر بعْدهَا ب إِلَّا نَحْو لَيْسَ الطّيب إِلَّا الْمسك بِالرَّفْع فَإِن بني تَمِيم يَرْفَعُونَهُ حملا لَهَا على مَا فِي الإهمال عِنْد انْتِقَاض النَّفْي كَمَا حمل أهل الْحجاز مَا على لَيْسَ فِي الإعمال عِنْد اسْتِيفَاء شُرُوطهَا …
  3. الْموضع الثَّالِث أَن تدخل على الْجُمْلَة الفعلية أَو على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مرفوعين كَمَا مثلنَا وَقد أجبنا على ذَلِك
  4. الرَّابِع أَن تكون حرفا عاطفا أثبت ذَلِك الْكُوفِيُّونَ أَو البغداديون على خلاف بَين النقلَة وَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ قَوْله:  (أَيْن المفر والإله الطَّالِب … والأشرم المغلوب لَيْسَ الْغَالِب)

وجاء في كتاب النحو الوافي :

ليس: تفيد مع معموليها نفى اتصاف اسمها بمعنى خبرها فى الزمن الحالىّ نحو: ليس القطار مقبلاً. فالمراد نفى القدوم عن القطار الآن. ولا تكون للنفى فى الزمن الحالى إلا عند الإطلاق، أى: عند عدم وجود قرينة تدل على أن النفى واقع فى الزمن الماضى، أوفى المستقبل: فإن وجدت قرينة تدل على أنه واقع فى أحدهما وجب الأخذ بها؛ نحو: ليس الغريب مسافراً أمس، أو: ليس سافر الغريب،

وعن هذا الأسلوب ” ليس سافر الغريب” جاء في الهامش: هذا الأسلوب صحيح، ولكنه غير شائع في الكلام القديم، فلا داعي لمحاكاته. …. أن الأحسن في هذا الأسلوب ونظائره “مما يقع فيه فعل بعد “ليس” مباشرة بغير فاصل….” أن تكون هي حرف نفي مهمل، أي: لا يعمل، فليس له اسم ولا خبر. وهذا الإعراب أيسر وأنسب، .. وإهمالها في هذه الصورة يوافق لغة تميم التي تهملها في كل الأحوال، وبلغتهم: “ليس الطيب إلا المسك” ولكن لا يحسن اليوم الأخذ برأي تميم، إلا في هذه الصورة التي أشرنا إليها.

والأهم من كل هذا ما يقوله سيبويه نفسه وفق ما جاء في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين :

وقد حكى سيبويه في كتابه أن بعضهم يجعل ليس بمنزلة ما في اللغة التي لا يعملون فيها “ما”؛ فلا يعملون ليس في شيء، وتكون كحرف من حروف النفي؛ فيقولون: ليس زيد منطلق…

وجاء في كتاب الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 495)

واعلم أن ليس لها أربعة أقسام: الأول: أن تكون من أخوات كأن. فترفع الأسم، وتنصب الخبر. وأمرها واضح.

الثاني: أن تكون من أدوات الاشتثناء. ..

الثالث: أن تكون مهملة، لا عمل لها. وذلك في نحو ليس الطيب إلا المسك والوجه الثالث أن يكون الطيب اسم ليس وإلا المسك، عند بني تميم. فإن إلا عندهم تبطل عملليس، كما تبطل عمل ما الحجازية.

وبناء على كل ما سقناه يتضح ما يلي:

  • من الممكن أن تخرج ليس عن عملها كفعل ناقص من أخوات كان.
  • أحد وجوه استعمال “ليس” هو اعتبارها حرفا للنفي سواء بدخولها على الجملة الفعلية وهو الأغلب، وكذلك بدخولها على الجملة الإسمية ليبقى المبتدأ والخبر فيها مرفوعين.
  • أكّد سيبويه إمكانية ذلك وفق ما جاء في “الإنصاف” بأن هنالك من العرب من يهمل “ليس” فلا يُعملها في شيء؛ ومثّل “الإنصاف” على ذلك بــ ” ليس زيدٌ منطلقٌ”.
  • هذا الإهمال في “ليس” موافق للغة تميم التي أهملتها في الاستثناء، بل وهنالك من يقول أن بني تميم أهملتها في كل الأحوال، وهو ما يوافق قول سيبويه السابق الذكر.

وبناء على كل هذا جاءت مظاهر الإعجاز في لغة المسيح الموعود عليه السلام في نحو حضرته هذا النحو من إهمال ” ليس” وفق لغة من لغات العرب يجهلها علماء ومتخصوصون في هذه اللغة وهم أبنائها، وجاء هذا في المواضع التالية:

  • ثم اعلم أن الأحاديث التي مشتملة على الأمور الغيبية والأخبار المستقبلة ليس معيارها الكامل قانونٌ رتَّبها المحدِّثون وكمّلها الراوون (نور الحقّ)
  • فيكون هذا المثل عبثًا وكذبا ليس مِصداقه فردٌ من أفراد هذه الملّة. (الخطبة الإلهامية)
  • الرفع الذي جاء في ذكر عيسى عليه السلام في القرآن، فهو ليس رفع جسماني(مكتوب أحمد، ص 54)
  • فالمهدي الصدوق الذي اشتدّت ضرورته لهذا الزمان، ليس رجل يتقلّد الأسلحة ويعلم فنون الحرب واستعمال السيف والسنان (حقيقة المهدي، باقة، ص 181)

ففي كل هذه المواضع من كلام حضرته عليه السلام، جاءت “ليس” مهملة كحرف نفي غير عامل ، خلافا لما هو مألوف ومعروف في لغتنا المعاصرة. فكل هذه المواضع “ليست مواضعُ” خطأ أو لحن أو سهو في لغة المسيح الموعود عليه السلام، بل إعجاز ينمّ عن إلمام حضرته بأدقّ دقائق اللغة العربية التي يجهلها علماؤها أيضا، و”ليست هذه إلا لغةٌ من لغات العرب” جاءت لتشهد على صدق حضرته عليه السلام وصدق دعواه وصدق آية تعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة.