المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..61

نكتة الخطأ في الأفعال الخمسة 5

“حتى” التي يُقصد بها حكاية الحال..

الاعتراض:

قيل بخطا المسيح الموعود عليه السلام في الفقرة التالية:

وتنكشف هذه الحقائق متجردةً عن الألبسة على نفوس ذوي العرفان، فإن أهل المعرفة يسقطون بحضرة العزة، فتمسّ روحهم دقائقَ لا تمسّها أحدٌ من العالمين. فكلماتهم كلمات، ومن دونها خرافات، ولكنهم يتكلمون بأعلى الإشارة ((حتى يتجاوزون)) نظر النَّظّارة، فيُكفّرهم كل غبي من عدم فهم العبارة. سر الخلافة (4/ 50)

وموضع الخطأ وفق زعم المعترضين هو في رفع الفعل (يتجاوزن) بثبوت النون فيه، رغم أن حقّه أن ينتصب بعلامة حذف النون منه، لأنه من الأفعال الخمسة، وواقع بعد (حتى) التي تنصب المضارع بأن مضمرة.

الردّ:

لقد وجهنا هذه الفقرة في المقال السابق على لغة إهمال (أنْ) الناصبة المضمرة وفق لغة للعرب (يُنظر المظاهر الإعجازية 60). وقد ذهبنا إلى ذلك التوجيه على فرض صحة القول بأن (حتى) الواردة في هذه الفقرة، هي التي يجب أن تنصب المضارع بــ(أن) مضمرة، وتبكيتا لمن يصرّ على ذلك.

إلا أنه في الحقيقة بعد تفحّص الأمر وتمحيصه والنظر إلى سياق الحديث الذي يتحدث عنه المسيح الموعود عليه السلام، نخلص إلى نتيجة بأن (حتى) هذه ليست هي (حتى) المعروفة والتي تنصب المضارع بأن مضمرة؛ بل هي نوع آخر من (حتى) لا ينصب المضارع بعده، بل يبقى الفعل مرفوعا؛ وهذه الـ (حتى) ما يُؤتى بها لحكاية الحال وفق التفصيل التالي.

من المعلوم أن (حتى) تنصب الفعل المضارع بأن مضمرة إذا كان معناها ( إلى أن) والفعل المضارع بعدها يكون بمعنى الاستقبال للحال. أما إذا كانت بغير هذا المعنى، فهي لا تنصب الفعل المضارع.

وقد أكد ذلك ابن مالك في شواهد التوضيح في توجيهه لقول عائشة رضي الله عنها ” رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب راحلته ثم يُهلّ حتى تستويْ به راحلته” بما يلي:

ومنها قول ابن عمر رضي الله عنهما (رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ركب راحلته، ثم يُهل حين تستوي به راحلته) (518). ويروَى: حتى تستويْ (519) به راحلته.

قلت: هذا الموضع صالح لـ “حين” ولـ “حتى”.

أما صلاحيته ل “حين” فظاهرة.

وأما صلاحيته ل ” حتى” فعلى أن يكون قصد حكايته الحال، فاتى ب “حتى” مرفوعًا بعدها الفعل، كقراءة نافع: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} وكقول العرب (مرض فلان حتى لا يرجونه)، على تقدير: مرض فاذا هو لا يُرجَى.

وكذا تقدير الحديث: ثم يهل فإذا هي مستوية به راحلته، والمعنى أن أهلاله مقارِن لاستواء راحلته به، كما أن انتفاء رجاء المريض مقارِن للحال التي انتهى إليها. ولو نصب “تستوي” لم يجز؛ لأنه يستلزم أن يكون التقدير: ثم يهل إلى أن تستوي به راحلته. وهو خلاف المقصود [12و] إلا إن يريد: يهل بلا قطع حتى تستوي به راحلته، فيقطع قطع استراحة مردفا باهلال مستأنَف فذلك جائز.

وفي الهامش من نفس الصفحة جاء:

(518) اللفظ فى صحيح البخاري 2/ 156 هو (رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ركب راحلته بذي الحليفة، ثم يُهل حتى تستوي به قائمة). وفى نسخة: حين تستوي.

(519) ضبط ياء” تستوي ” في صحيح البخاري بالفتح فقط، ويفهم من كلام ابن مالك الآتي أنه يريد توجيه رواية إسكان الياء وتقدير علامة الرفع عليها. ولعله اطّلع على نسخة فيها هذه الرواية.” { شواهد التوضيح 130}

بناء على هذا نرى ما يلي:

  • لقد وقع الفعل المضارع مرفوعا بعد (حتى) في القراءات القرآنية كقراءة نافع: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ}؛ وكذلك في قول عائشة رضي الله عنها كما في الحديث (يُهلُّ حتى تستويْ)؛ وكذلك في كلام العرب (مرض فلان حتى لا يرجونه).
  • معنى (حتى) في هذه العبارات التي رُفع فيها المضارع هو حكاية الحال، بمعنى أن الفعل الواقع بعدها يحدث بالتزامُن مع بداية الحال أو الفعل السابق لـ (حتى) . فعندما قال الله تعالى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ}؛ يكون القصد أن الزلزال وقول الرسول يحدثان بتزامن ويكون قول الرسول مقارِن لحدوث الزلزال، فيكون المعنى كما يلي: وزلزلوا فإذا بالرسول يقول؛ وليس القصد والمعنى أنهم زُلزلزا واستمروا بزلزالهم إلى أن قال الرسول…

وبالنظر إلى عبارة المسيح الموعود عليه السلام، نرى أنها تنطبق تمام الانطباق بالذات على هذا المعنى لــ (حتى) التي تعني حكاية الحال فيكون معنى الفقرة كما يلي:

ولكنهم يتكلمون بأعلى الإشارة ((حتى يتجاوزون)) نظر النَّظّارة؛ أي فإذا هم يتجاوزون نظر النظارة بمعنى أن تجاوزهم نظر النظارة يكون مقارِن ومتزامن لبداية تكلمهم بأعلى الإشارة ؛ وليس القصد أنهم يتكلمون بأعلى الإشارة إلى أن يتجاوزوا نظر النظارة. أي ما أن يتكلموا بأعلى الإشارة فإذا بهم (مباشرة وفي الحال) يتجاوزون نظر الناظرين.

وهذا يؤكد أن معنى (حتى) في هذه الفقرة ليس (إلى أن) بل حكاية الحال الذي لا يستلزم فيه نصب الفعل المضارع بها.

ومن كل هذا نرى بأن رفع المضارع قد جاء للفتة بلاغية غاية في الروعة والجمال، والتي غيّرت معنى الفقرة ونحَت به منحًى قد يغيب عن نظر القارئ العادي، مما يزيد من قدر وعظمة أهل المعرفة التي تتحدث عنهم الفقرة نفسها، لو انعمنا النظر بهذا المعنى الذي تعبر عنه (حتى).

والعجيب أن حتى هذه ينطبق عليها معنى الجملة كلها؛ فإنها (حتى) التي جاءت بأعلى الإشارة ممن اجتباه ربُه من أهل العرفان (المسيح الموعود عليه السلام) فجاوز بهذه الـ (حتى) نظر النَّظارة من الذين في قلوبهم مرض فكفّروه بسببها لأنهم لم يفهموا لغبائهم معنى العبارة. ويا له من إعجاز ما بعده إعجاز….

فهذه هي حكاية حتى التي رفعت الفعل المضارع ولم تنصبه بأن المضمرة.