المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية..25

حذف اسم كان للعلم به ..ككلام البلغاء ..2

أعجمة هذه يا أعاجم العرب!؟؟؟

لقراءة الجزء الأول نرجو النقر هنا


اسم النواسخ الفعلية “كان وأخواتها” هو في منزلة الفاعل، وما يسري على أحدهما من أحكام الحذف يسري على الآخر. فمثلما كاد أن يُجمع النحاة على عدم جواز حذف اسم كان وأخواتها، كذلك كادوا أن يُجمعوا على عدم جواز حذف الفاعل، وكاد أن يكون منع الحذف هذا مسلّما به، لولا أنه لم يسلّم به بعض النحاة، لا في منع حذف الفاعل ولا في منع حذف اسم النواسخ الفعلية.

وقد أثبتنا في المقال السابق جواز حذف اسم كان عند بعض النحاة وأهمهم الكسائي، الذي استدل بجواز حذف اسم كان على جواز حذف الفاعل.

وفي هذا المقال سنسلك السبيل العكسي، حيث سنستدل بجواز حذف الفاعل عند بعض النحاة لإثبات جواز حذف اسم كان والنواسخ الفعلية؛ لأنهما سيان في أحكام الحذف هذه؛ ذلك ولنورد شواهد جديدة تؤكد ما ذهبنا إليه في المقال السابق من جواز حذف اسم كان للعلم به. ولنا أن نتتبع النصوص التالية والاستنتاجات منها لإثبات ذلك: التركيز على ما في الخط العريض

1- “قيل لَهُ: إِن الْمصدر، وَإِن عمل عمل الْفِعْل فَيظْهر فِي نَفسه اسْم، وَهُوَ مُتَعَلق بالفاعل وَالْمَفْعُول، فَهُوَ فِي نَفسه اسْم، وَهُوَ مُتَعَلق بالفاعل وَالْمَفْعُول، كَمَا قلت، إِذا كَانَ الْفَاعِل أحدثه، وَالْمَفْعُول بِهِ وَقع بِهِ، فَصَارَ مَا تعلق بِهِ مَعَه كالشيء الْوَاحِد، وكما يجوز أَن يُحذف فِي بعض الْكَلَام للدلالة عَلَيْهِ، جَازَ أَيْضا حذف الْفَاعِل.” (إ.هـ) {علل النحو (ص: 309)}

الاستنتاج: إذا كان يجوز حذف الفعل للدلالة عليه، وهو جائز؛ فجاز كذلك حذف الفاعل المتعلق به، لأنهما كالشيء الواحد.

2- “ تقول (قام وقعد زيد) فإن علقت زيداً بالفعل الثاني، فبين النحويين في ذلك اختلاف: الفراء لا يجزيه، والكسائي يجزيه على حذف الفاعل، وغيره يجزيه على الإضمار، الذي يفسره ما بعده، والدليل على حذفه ما بعده والدليل على حذفه قول الشاعر:

وكُمْتاً مدمَّاةً كأنَّ متونه … جرى فوقها واستشعرتْ لونَ مُذْهَب

فجرى لا فاعل له ظاهراً، فإما أن يكون محذوفاً، وأما أن يكون مضمراً، ومن الدليل عليه قوله تعالى

{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وقوله {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الأَعْمَى }. فهذه الأفعال لا فاعل لها ظاهراً. وأما أي الرأيين أحق، فرأى الكسائي لأنه غيره يقول: حذفُ الفاعل لا يجوز، لأن الفاعل والفعل كالشيء الواحد، فمهما متلازمان، فعلى هذا لا يجوز حذف الفعل وإبقاء الفاعل، وهم يجيزونه!. ومن الدليل على صحة مذهب الكسائى قول علقمة:

تعفَّقَ بالأرطي لها وأرادها … رجالٌ فبذَّت نَبْلَهُم وكَلِيبُ” (إ.هـ) {الرد على النحاة لابن مضاء القرطبي (ص: 85-87)}

الاستنتاج: فابن مضاء يوافق الكسائي في جواز حذف الفاعل، ويبين التناقض في رأي من يمنع حذف الفاعل، في أن حجّتهم هي أن الفعل والفاعل كالشيء الواحد ومتلازمان فلا يجوز حذف أحدهما وإبقاء الآخر، ورغم ذلك فهم يجيزون حذف الفعل مع إبقاء الفاعل، فلماذا لا يجوز العكس إذن؟ أي حذف الفاعل مع بقاء الفعل!!!؟.هذا ما يقوله ابن مضاء.

واستدل ابن مضاء لإثبات جواز حذف الفاعل بالآيات القرآنية وبيت الشعر المذكورة كلها أعلاه.

3- “وحذف فاعل، وفعله ظهر … جوازه عن الكسائي اشتهر

ولدليل حذفا معا بلا … خلف، وكل سيرى مفصلا

“ش”: أجاز الكسائي -وحده- حذف الفاعل إذا دل عليه دليل ومنع غيره ذلك، لأن كل موضع ادعي فيه الحذف فالإضمار فيه ممكن، فلا ضرورة إلى الحذف.فمن المواضع التي توهم الحذف: قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ}.[وقوله تعالى: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} ].وقول الشاعر:فإن كان لا يرضيك حتى تردني … إلى قطري لا إخالك راضيا، فتقدير الأول: ثم بدا لهم البداء، وتقدير الثاني: وتبين لكم العلم، وتقدير الثالث: فإن كان لا يرضيك ما تشاهد مني. فهذا كله من إضمار ما دل عليه مقال أو حال. وكذلك قولهم: “إذا كان غدا فإيتني” أي: إذا كان غدا ما أنا عليه الآن فإيتني. والكسائي يرى أن هذا حذف. (إ.هـ) {شرح الكافية الشافية (2/ 599-601)}

4- “وحذف أحد الفاعلين من قوله “أتاك أتاك اللاحقون” يقوي ما ذهب إليه الكسائي من حذف الفاعل في باب إعمال الفعلين، ألا تراه لو أضمر الفاعل ولم يحذف لقال: أتوك أتاك اللاحقون. أو أتاك أتوك اللاحقون“. (إ.هـ) {شرح الكافية الشافية (2/ 642)}

الاستنتاج: يذكر شارح الكافية بعض الآيات القرآنية التي يستدل بها الكسائي على جواز حذف الفاعل، رغم أن رأي الشارح نفسه لا يذهب إلى الحذف بل إضمار ما دل عليه الحال أو المقال. إلا أنه يقوي ويؤيد رأي الكسائي من باب آخر.

5- “وقد ذهب الكسائي إلى جواز حذف الفاعل مطلقا“. (إ.هـ) {توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (2/ 585)}

6- “وَقَالَ الْكسَائي وَهِشَام والسهيلي وَابْن مضاء يحذف بِنَاء على رَأْيهمْ من إجَازَة حذف الْفَاعِل.” (إ.هـ) {همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (3/ 120)}

7- “وَعَن الْكسَائي اجازة حذف الْفَاعِل وَتَابعه على ذَلِك السُّهيْلي وَابْن مضاء” (إ.هـ) {شرح شذور الذهب لابن هشام (ص: 216)}

الاستنتاج: اجتمع اربعة من كبار النحاة على تجويز حذف الفاعل وهم : الكسائي الذي يجيز حذف الفاعل مطلقا دون تقييد في باب معين أو وضعية معينة. وتبعه أيضا السهيلي وابن مضاء وهشام.

8- “موطن الشاهد: “فإن كان لا يرضيك”.

وجه الاستشهاد: احتج الكسائي بهذا البيت على جواز حذف الفاعل، وما هو بمنزلة الفاعل اسم الأفعال الناسخة؛ وأما البصريون فأنكروا عليه ذلك؛ لأنهم لا يجيزون حذف الفاعل؛ إلا بأحد أمرين؛ الأول: أن يكون الفاعل مذكورا في الكلام، والثاني: أن يكون مضمرا، ولما لم يكن في هذا الكلام مذكور يصلح أن يكون اسما؛ أو فاعلا لـ “كان” قالوا: إن اسمها مضمر جوازا، تقديره: هو؛ ولما لم يكن في الكلام ما يصلح أن يكون مرجعا لذلك الضمير -الذي لا بد له من مرجع- قالوا: إنه عائد إلى الحال المشاهدة والواقعة للمتكلم والسامع. (إ.هـ) {أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (2/ 83)}

الاستنتاج: البصريون وهم ليسوا من أنصار حذف الفاعل، يجوّزون حذف الفاعل، عندما يكون الفاعل مذكورا في سياق الكلام، أي أن يتواجد لفظ يصلح لأن يكون فاعلا أو اسما لكان.

9- “فممّا تمسّك به في حذف الفاعل قوله عليه الصلاة والسلام: “لا يَزْني الزاني حينَ يَزْني وهو مؤمنٌ ولا يَشْرَبُ الخمرَ حينَ يشربُها وهو مؤمن” . فإن (يشرب) لا يصح أن يجعل فاعله ضميراً يعود على (الزاني) المتقدم ذكره لفساد المعنى، إذ يصير الحديث (لا يشرب الزاني الخمر حين يشربها وهو مؤمن) وليس ذلك مرادا، بل المراد أن الشارب للخمر لا يباشر شربها وهو مؤمن، كما أن الزاني لا يباشر الزِّنى وهو مؤمن. (إ.هـ) {شرح شذور الذهب للجوجري (1/ 341-342)}

الاستنتاج: اضافة إلى الشواهد القرآنية أعلاه، فهذا شاهد من الحديث الشريف على جواز حذف الفاعل وفق النحويين الذين يجوزون ذلك. أما من لا يأخذ بالحذف من النحويين فذهب إلى القول بأن الفاعل مضمر في الفعل نفسه “يشرب” ويدل عليه لفظ الفعل وهو “الشارب”.

وممن ذهب إلى جواز حذف الفاعل هو الإمام الشافعي في رسالته، وكذلك محقق الرسالة أحمد شاكر، حيث ذكر المواضع التي حُذف فيها الفاعل في الرسالة وبين الوجه في ذلك، أنه قد حذف “للعلم به”، وإليكم المواضع التي حُذف فيها الفاعل في رسالة الشافعي مع تعليق المحقق عليها:

1- “وهذا المعنى الذي إذا وُجِّهَ رجلٌ مُخَاطَبًا به كانَ الذي يَسْبِقُ إليه أنَّه لا يَحْرُمُ غيرُ ما سَمَّى اللهُ مُحَرَّمًا، وما كان هكذا فهو الذي يقولُ له: أظْهَرُ المعاني وأعمُّها وأغْلَبُها، والذي لو احتملت الآيةُ معنى سِواه كان هو المعنى الذي يَلْزَمُ أهلَ العِلْم القوْلُ به، إلا أنْ تأتِيَ سنةُ النبي تدُلُّ على معنىً غيْرِهِ، مما تحتمله الآية، فيقولَ: هذا معنى ما أراد الله تبارك وتعالى.” (إ.هـ) {الرسالة للشافعي (1/ 206)}

وفي الهامش قال أحمد شاكر: فاعل ” يقول” محذوف للعلم به، أي: يقول له قائل. وعن فاعل “فيقولَ” قال: يعني القائل، وفي النسخ المطبوعة ” فنقول” وهو مخالف للأصل. (إ.هـ)

2- “وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله، واحتمل غيره، ولا يجوز أن نَعُدَّه له حكايةً، لأنه لا يجوز أن يحكيَ إلا مسموعاً، ولا يجوز أن يحكيَ شيئاً يُتَوَهَّم، يمكن فيه غير ما قال. (إ.هـ) {الرسالة للشافعي (1/ 472)}

وفي الهامش قال الحقق أحمد شاكر: إنه في بعض النسخ المطبوعة زيدت كلمة “أحد” بعد الفعل “يحكي” وكل هذا مخالف للأصل.

إذن، فالمحقق يرفض إدراج كلمة “أحد” بعد الفعل “يحكي” لأنها غير واردة في الأصل، وإنما الفعل محذوف وتقديره “أحد”.

3- قال: فلما لم يُحكَا أن رسول الله سأل عن الجنين: أَذَكَر هو أم أنثى؟ إذ قضى فيه سَوَّى بين الذكر والأنثى إذا سقط ميتا، ولو سقط حياً فمات جَعَلوا في الرجل مائة من الإبل، وفي المرأة خمسين. (إ.هـ) {الرسالة للشافعي (1/ 552)}

وفي الهامش قال أحمد شاكر عن حذف فاعل الفعل “سوّى” ما يلي: “سوّى رسمت في الأصل “سوّا” وعلى السين فتحة وعلى الواو شدة، فتكون مبنية للفاعل، وهي جواب الشرط “فلما”. والفاعل مستتر يعود على معلوم من المقام ، كأنه قال: سوى أهل العلم الخ، ويدل على ذلك قوله بعد: ” ولوسقط حيا فمات جعلوا” الخ. ولم يفهم قارئو الأصل ومن بعدهم وجه هذا، فتصرف فيه بعضهم وألصق في الأصل فاء بالسين، لتصير “فسوى” وبذلك ثبتت في سائر النسخ، وهو خطأ، لأن الكلام ينقص بهذا جواب الشرط.” (إ.هـ)

وقد عد أحمد شاكر كل هذه المواضع من المواضع التي حذف فيها الفاعل للعلم به. أو كما قال : مستتر يعود إلى معلوم من المقام.

ومن المهم أن نذكر تقييم العلامة أحمد شاكر لمثل هذا النوع من الحذف، حيث يُحذف الشيء للعلم به، فهو يصنفه لا على مستوى فصيح الكلام بل على مستوى البليغ منه، حيث قال في سياق آخر للحذف، يختص بحذف جواب الشرط لـ “إذا”، ردّا على من يسأل أين جواب شرطها؟ قال ما يلي: نقول له: جوابها “محذوف للعلم به”، كما هو معروف في كلام البلغاء.

الخلاصة:

  • يثبت من جديد صحة وفصاحة وبلاغة فقرة المسيح الموعود عليه السلام والتي حذف فيها اسم كان كما ورد فيها:
  • ألا تعلم أنهم كانوا أهل اللسان، وقد غُذُّوا بلبان البيان، وكان يُصبون القلوب بأفانين العبارات ومُلح الأدب ونوادر الإشارات” (نور الحق )
  • إذا كنا قد عددنا في المقال السابق ثلاثة من النحاة واللغويين والمحققين الذين يجوّزون حذف الفاعل أو اسم كان؛ فها، قد أضفنا إليهم ثلاثة آخرين ليكونوا جميعا كما يلي: الكسائي، ابن مضاء، الإمام الشافعي، المحقق أحمد شاكر، هشام، والسهيلي.
  • تصنيف هذا الحذف للفاعل أو اسم النواسخ لا يندرج تحت اللغات المنقرضة، ولا الشاذة، ولا الركيكة، ولا الفصيحة بل اللغات البليغة على حدّ قول المحقق أحمد شاكر، حيث قال عنه” كلام البلغاء”.
  • يشهد على هذا الحذف شواهد قرآنية وحديثية ذكرناها خلال هذا المقال.
  • ووفق ما ذكرناه نخلص إلى ثلاثة تخريجات لفقرة المسيح الموعود عليه السلام وهي:
  • التخريج الأول وفق منهج من أجاز حذف الفاعل: يكون تخريجها على حذف اسم كان ( الذي هو بمنزلة الفاعل) وذلك للعلم به، أو كما قال أحمد شاكر، لأنه مستتر يعود إلى معلوم من المقام.
  • وأكثر ما تنطبق هذه الفقرة على ما جاء في رسالة الشافعي من حذف للفاعل، هو على الفقرة التالية: “سَوّى بين الذكر والأنثى”؛ حيث قُدّر الفاعل بأنه ” أهل العلم” ليكون التقدير “سوّى أهلُ العلم”، وذلك نظرا لما دل عليه السياق بعد ذلك حيث قال “جعلوا”. فهكذا أيضا في فقرة المسيح الموعود عليه السلام، حيث جاء ” كان يصبون” فيُقدّر الفاعل المحذوف بأنه “فصحاء أهل اللسان” المذكور في السياق السابق للحذف والمشار إليه في السياق اللاحق له بواو الجماعة أيضا حيث قال: و”كانوا”.
  • التخريج الثاني وفق البصريين كما جاء في أوضح المسالك أعلاه: أن اسم كان محذوف لوجود لفظ يدل عليه في سياق الكلام وهو” فصحاء أهل اللسان” كما بيناه في المقال السابق.
  • وأما التخريج الثالث فعلى منهج من لا يجوزون الحذف بل يعتبرونه إضمارا لما دل عليه الحال أو المقال، لنقول أن اسم كان مضمر دلت عليه الكثير من الشواهد والألفاظ الموجودة في المقال ( أي في النص والسياق) وأهمها ” فصحاء أهل اللسان”.