المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية .. 43

دخول “أن” على خبر كاد وتوسُط هذا الخبر بين كاد واسمها.. 1


الاعتراض:

يقول الاعتراض بخطأ المسيح الموعود عليه السلام في العبارات التالية:

  1. وكاد أن ينفطر عمود الإسلام. (سر الخلافة)
  2. وكاد أن تزهق نفسه بعد سماع هذه المصيبة. (مكتوب أحمد)
  3. وكادت أن تغرب شمس الدين. (الخطبة الإلهامية)
  4. وكاد أن تنعدم جهلاتهم. (لجة النور)
  5. وكاد أن يتفطرنَ منها السماوات. (الهدى والتبصرة)
  6. وكاد أن يشقّ ضحكهم أشداقَهم. (مواهب الرحمن)
  7. وكاد أن تنجاب الثلوج. (مواهب الرحمن)

ويقع الخطأ في أمرين، الأول: هو أنه من المفضّل عدم دخول “أن” الناصبة المصدرية على خبر كاد بشكل عام. والثاني: عدم جواز دخول “أن” على هذا الخبر إذا توسط بين كاد واسمها. فهذه العبارات فيها خطأ وما هو خلاف الأولى.

وقد استشهد المعارضون بعدم وقوع مثل هذا الأسلوب في القرآن الكريم حيث وردت “كاد” في القرآن الكريم 21 مرة، وكان اسمها يقترن بها، إلا في مرة واحدة، حيث توسط خبرها بينها وبين اسمها، ولكن لم يقترن بـ “أن”.

الردّ:

التخريج الأول وفق القواعد النحوية.

لا بدّ أن ننوه أولا إلى أن كاد تندرج تحت نوع من الأفعال التي تدعى أفعال “المقاربة” وهي الأفعال (كاد، كرب، وأوشك) وهي مماثِلة لأنواع الأفعال الأخرى التي تدعى أفعال “الشروع” مثل ( أخذ، وطفق، وهبّ) وأفعال “الرجاء” مثل: (عسى وحرى واخلولق)؛ وهذه الأفعال كلها أفعال ناقصة (على الأغلب) من أخوات (كان)؛ وتسري عليها قواعد متشابهة إلى حد معين.

فأما بالنسبة للشّق الأول من الاعتراض والذي يقول بعدم تفضيل دخول أن على خبر كاد، نقول ان هذا الرأي فيه نظر كما أورد ذلك النحو الوافي حيث جاء فيه:

غير أن الخبر فى أفعال المقاربة لا بد أن يشتمل على:

“1” فعل مضارع، ومرفوعه “من فاعل، أونائبه … ” ضميرٌ فى الغالب.

“2” وأن يكون هذا المضارع مسبوقاً بأن المصدرية” مع الفعل: “أوْشكَ” وغير مسبوق بها مع الفعل: “كاد” أو: “كَرَبَ”، نحو: أوشك المطر أن ينقطع، وكاد الجويعتدل، وكَرَبَ الهواءُ يطيب. ويجوز – قليلا – العكس، فيتجرد خبر: “أوْشَكَ”، من “أنْ” ويقترن بها خبر “كاد” و”كرب”، ولكن الأول هو الشائع فى الأساليب العالية التي يحسن الاقتصار على محاكاتها.” (إ.هـ){النحو الوافي (1/ 616)}

إذا، يقرّ النحو الوافي بجواز دخول أن على خبر كاد، وإن كان هذا ليس هو الشائع الذي يحسن محاكاته.

وفي الهامش تعليقا على اختلاف النحاة في دخول أن على الخبر في كل هذا الباب من أفعال المقاربة والرجاء والشروع، ونوع (أن) هل هي ناصبة فقط أم مصدرية أيضا؛ خلص عباس حسن إلى الرأي التالي:

والذي يعنينا من هذا كله هو أن التعبير السالف صحيح، لا ضعف في استعماله ومحاكاته،( التعبير هو :عسى محمود أن يجود؛ وهو مثال جاء به عباس حسن لدخول أن على خبر الأفعال في كل هذا الباب من أفعال المقاربة والرجاء والشروع ومنها “كاد”. يُنظر الهامش1) ولا يعنينا بعد هذا نوع التأويل الذي يأخذ به فريق دون الآخر.” {النحو الوافي (1/ 616)}

إذا، نرى أن النحو الوافي يقر بأن لا ضعف في هذا الأسلوب من دخول أن على خبر كاد أيضا بل هو أسلوب صحيح لا ضعف في استعماله ومحاكاته.

ويؤكد ابن مالك هذا الجواز بما يلي:

ككان “كاد” و “عسى” لكن ندر … غير مضارع لهذين خبر

وكونه بدون “أن” بعد “عسى” … نزر، و “كاد” الأمر فيه عكسا

أي أن اقتران خبر كاد بأن جائز على قلته.

التخريج الثاني من باب التقارض في النحو العربي:

لقد سبق وذكرت في أن (كاد) التي هي من أفعال المقاربة شبيهة ب(عسى) التي هي من أفعال الرجاء فكلتاهما من الأفعال الناسخة من أخوات كان وتسري عليها أحكام متقاربة.

غير أن (عسى) وعلى النقيض من (كاد) من الأفصح أن يقترن خبرها بــ (أن)، إلا أنه جائز عدم اقترانه. فقد جاء في النحو الوافي في هذا الصدد عن خبر أفعال الرجاء (مثل: عسى واخلولق وحرى) ما يلي:

وخبرها – فى الأفصح – مضارع مسبوق: بأنْ، وفاعله ضمير، لكن يجوز فى خبر “عسى” أن يكون مضارعه غير مسبوق بأنْ، نحو: عسَى الأمن يدومُ…. كما يجب – فى رأى دون آخر1 – تأخير الخبر المقرون بأن عن الأسم {النحو الوافي (1/ 622)}

ومن هنا فإن كاد وعسى ضدّين من حيث فصاحة اقتران خبرها بأن، ففي الأولى الأفصح عدم الاقتران مع كون الاقتران جائز فصيح، وفي الثانية الأفصح الاقتران مع كون عدم الاقتران فصيح جائز.

إلا أن كاد وعسى من الممكن أن تتقارضا وتتبادلا هذا الحكم بينهما في فصاحة وجواز اقتران خبرها بأن، وذلك من باب التقارض في النحو، والذي يعني:” تبادل الأحكام بين كلمتين بحيث تعطي كل كلمة الحكم الذي يختص بها إلى الكلمة الأخرى، سواء كانت هذه الكلمة اسما أم فعلا أم حرفا. {ظاهرة التقارض في النحو العربي (58/235 – 234) للدكتور أحمد محمد عبد الله}

ويقول الدكتور أحمد محمد عن ظاهرة التقارض ما يلي:

“ظاهرة التقارض في اللغة العربية مظهر من مظاهر اتساعها، ولون من ألوان شمولها؛ لأن التوسع شائع في كلام العرب، فإذا كان الترادف والاشتقاق والتضاد والاشتراك والتضمين والمشاكلة الخ.. تمثل أنواع الإحاطة والتنوع في الأسلوب العربي، فإن التقارض يعد واحدا ومن هؤلاء؛ إذ به يستطيع المتكلم أن يقلّب الكلام على وجه عدة، وعلى كل حال هو مصيب فيما يذهب إليه، بشرط أن يكون معه سند من السماع، ووجه من وجوه التوجيه الصحيحة، وهذا يؤكد أن لغتنا العربية مرنة وطيعة وليست جامدة تقف عند لون معين من ألوان التعبير.

فالتقارض يمثل نوعا من أنواع الطرافة والمُلحة في التعبير، وقد تحدّث ابن هشام عنه بإيجاز شديد، وألمح عنه بإشارة عجلى في الصفحات الأخيرة من كتابه الذي طبّقت شهرته الآفاق (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب).{ظاهرة التقارض في النحو العربي (58/ 246)}

وقد مثّل الدكتور على ظاهرة التقارض هذه بالتقارض الوارد بين عسى وكاد حيث قال:

عسى – كاد

أ- لقد عرفنا فيما تقدم أن الغالب في خبر (عسى) أن يقترن بأنْ المصدرية؛ لأنها من أفعال الترجي، وقد أوجب جمهور البصريين اقتران خبرها بأن، وقالوا: إن خبرها لا يجرد منها إلا لضرورة، وحينئذ يخرج خبرها من مجيئه مقترنا بأن إلى مجيئه مجردا من أن، مقترضا هذا الحكم من (كاد) التي يغلب على خبرها أن يكون مجردا من (أن) ، قال هدبة بن خشرم:عسى الكرب الذي أمسيت فيه … يكون وراءه فرج قريب

ب- أما (كاد) فخبرها يأتي مجردا من أن؛ لأن المنقول عن فصحاء العرب إيقاع أن بعد عسى وإلغاؤها بعد كاد، ..وقد يخرج خبر (كاد) عن الأصل فيأتي مقترنا بأن مقترضا هذا الحكم من (عسى) ، ومن أمثلة هذا النوع:

قوله صلى الله عليه وسلم: “كاد الفقر أن يكون كفرا” ، وقول عمر رضي الله عنه:) وما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب) ، وقول أنس رضي الله عنه: (فما كدنا أن نصل إلى منازلنا) ، وقول جبير بن مطعم رضي الله عنه: (ثم رفع رأسه فلم يكد أن يسجد ثم سجد فلم يكد أن يرفع رأسه).

ومن النظم قول الشاعر:

أبيتم قبول السِّلم منا فكدتم … لدى الحرب أن تغنوا السيوف عن السِّلّ

وليس ذلك بضرورة؛ لتمكنه من أن يقول لدى الحرب مغنون السيوف عن السل، وهكذا فإن خبر (كاد) قد يقترن بأن كما أن خبر (عسى) قد يأتي مجردا من أن، وذلك على سبيل المقارضة بينهما1. {ظاهرة التقارض في النحو العربي (58/ 246- 247)}

إذا، لقد ثبت من كل هذا جواز اقتران خبر كاد بــ (أن)، باقتراضها هذا الحكم من عسى، من باب المقارضة في النحو.

ومما يؤكد صحة وفصاحة هذه اللغة، هو ورودها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء الذي أوتي جوامع الكلم، حيث جاء في حديثه: “كاد الفقر أن يكون كفرا” (الحديث أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: 533، 109.).

كما أن ورود هذا التركيب من اقتران خبر كاد بأن، في كلام أبلغ البلغاء وأفصحهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة الآخرين مثل سيدنا عمر وأنس وجبير بن مطعم؛ إنما يؤكد أن عدم ورود أسلوب نحوي في القرآن الكريم لا يحتم كونه غير فصيح، بل قد نجد الفصاحة في كلام العرب بما لم يرد في القرآن الكريم أيضا، وإلا لاضطررنا أن نقول بأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الصحابة لم يتكلموا بفصيح الكلام في أقوالهم التي أوردناها.

فالذي يعترض على لغة المسيح الموعود عليه السلام، أو يحاول أن ينتقص من قدرها ويطعن فيها فهو في الحقيقة يعترض على كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم. فهل لنا أن نَصِمَ من أوتي جوامع الكلم في اللغة العربية بأنه يلحن في القول أو تعتريه عجمة ولكنة أعجمية في كلامه!؟

لقد قلنا للمعترضين مرارا وتكرارا أنهم باعتراضاتهم على المسيح الموعود عليه السلام، فإنهم يعرّضون بالإسلام والقرآن الكريم وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم في غيّهم غريقون.


الهامش:

1″ نترك للنحاة اختلافهم في نوع “أن” الداخلة في أخبار هذا الباب كله “كأخبار أفعال المقاربة هذه، وأفعال الرجاء ص 612” فأكثرهم يميل إلى أنها حرف نصب غير مصدري وأن فائدته تخليص المضارع للزمن المستقبل، دون زمن آخر، ويرفضون أن تكون مصدرية، بحجة أنها لو كانت مصدرية لوجب أن تسبك مع الجملة المضارعية بعدها بمصدر مؤول يكون خبرا للناسخ، فيترتب على ذلك الإخبار بالمعنى عن الجثة، وهو ممنوع – غالبا -. ففي مثل: عسى محمود أن يجود، يقع المصدر المؤول من أن والمضارع وفاعله خبر “عسى” في محل نصب، فيكون التقدير: عسى محمود جوده. فيقع “جود” – وهو أمر معنوي – خبرا عن “عسى” وهو في الحق خبر عن محمود، لأن اسم عسى وخبرها أصلهما المبتدا والخبر، ولا يجوز أن يكون المبتدأ جثة وخبره امرا معنويا – غالبا – ولا يبيح ذلك ناسخا قبلها.

وقال فريق آخر: لا مانع من اعتبار “أن” الداخلة في أخبار هذا الباب هي الناصبة المصدرية، والمصدر النسبك منها ومن المضارع مع فاعله – هو خبر الناسخ، إما على سبيل المبالغة، وإما على تقدير مضاف قبله، أو قبل اسم الناسخ، فيكون التقدير في المثال السابق: عسى محمود صاحب جوده، أو عسى حال محمود جوده …

هذا كلام السابقين. وخير منه أن تكون “مصدرية ناصبة ويغتفر في هذا الباب كله الإخبار بالمعنى عن الجثة، فنستريح من تكلف التأويلات البصرية السالفة، كما نستريح من تكلف التأويلات الكوفية التي تجعل المصدر المؤول بدل اشتمال من الاسم المرفوع السابق، ويجعلون: “عسى” فعلا تاما معناه: “التوقع”. ففي مثل: عسى على أن يحضر…. يكون التقدير: عسى على حضوره، أي: يتوقع على حضوره، ويكون الغرض من “البدل” هو التفصيل بعد الإبهام الداعي للتشويق. والذي يعنينا من هذا كله هو أن التعبير السالف صحيح، لا ضعف في استعماله ومحاكاته، ولا يعنينا بعد هذا نوع التأويل الذي يأخذ به فريق دون الآخر. “ولهذا إشارة في رقم 1 من هامش ص 636”.” النحو الوافي (1/ 616)