المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية .. 23

نصب معمولي “أنّ” كلغة من لغات العرب والإمام الشافعي الحُجّة..

الاعتراض:

جاء في كتاب نور الحق للمسيح الموعود عليه السلام الفقرة التالية:

  • ليُروهم أنهم متنفرين من الإسلام وفي التنصُّر متشدّدين. (نور الحق، 27).

وقد اعتُرض على ما جاء فيها من نصب لخبر “أنّ” في كلمتي ” متنفّرين” و “متشدّدين“، حيث قيل بأن الصحيح: “متنفّرون” و “متشدّدون” على الرفع، باعتبارها أخبارا لـ “أنّ” وفق القاعدة النحوية المعروفة بنصب اسم أن ورفع خبرها، واعترف المعترضون أنّ هذا هو المكان الوحيد الذي نُصب فيه خبر إنّ في كتابات المسيح الموعود عليه السلام.

الرد:

ليس في هذه الفقرة أي خطأ ولا أي سهو! إنما مظهر جديد من مظاهر الإعجاز اللغوي، وإثبات آخر على تحقق معجزة المسيح الموعود عليه السلام، بتعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية من الله تعالى في ليلة واحدة، وأن الله عز وجل قد علّمه لسانا عربية وأعطاه نكاتا أدبية وفضّله على العالمين المعاصرين.

فنصب خبر “أنّ” الوارد في الفقرة المذكورة لم يكن إلا واحدة من هذه اللغات الأربعين ألفا ونكتة أخرى من هذه النكات الأدبية في لغة المسيح الموعود عليه السلام؛ وهو في الحقيقة يندرج تحت لغة عربية قديمة أقرّت بها المراجع النحوية وأمهات المصادر اللغوية، والتي بها نَصَبَ بعضُ العرب معمولَي أنّ على خلاف القاعدة التي توجب رفع الخبر فيها. وعن هذه اللغة قال النحو الوافي ما يلي:

من العرب من ينصب بهذه الحروف ( الحروف الناسخة أي إن وأخواتها) المعمولين؛ كما تنطق الشواهد الواردة به. لكن لا يصح القياس عليها فى عصرنا؛ منعاً لفوضى التعبير والإبانة، وإنما نذكر رأيهم – كعادتنا فى نظائره – ليعرفه المتخصصون فيكشفوا به، فى غير حيرة ولا اضطراب – ما يصادفهم من شواهد قديمة وردت مطابقة له مع ابتعادهم عن محاكاتها. ” {النحو الوافي (1/ 641)}

إذن، يقرّ عباس حسن مؤلف النحو الوافي بأن نصب معمولي الحروف الناسخة هي لغة من لغات العرب. وإلى جانب ذلك يقول بعدم القياس عليها في عصرنا هذا، وأن سبب ذكر مثل هذه اللغات القديمة هي لكي يفهم المتخصصون النصوص القديمة، لأنّ مثل هذه اللغات واردة في النصوص القديمة.

ومن أهم هذه النصوص القديمة التي وردت فيها لغة نصب معمولي الحروف الناسخة، هي لغة الإمام الشافعي كما يظهر في رسالته المعروفة برسالة الشافعي. ونحن لسنا بحاجة أن نكرر في كل مرة أن الإمام الشافعي يعتبر حجة في اللغة، كما جاء عنه في كتاب أصول النحو فيما يلي:

وكما جاز الاحتجاج بلغة هذه القبائل جاز الاحتجاج بأمرين آخرين:

أحدهما: ما روي من نثر العرب ونظمهم بعد أن دوِّنت الدواوين بشرط أن يكون الراوي ثقةً صدوقًا أمينًا عدلًا:

والآخر: كلام الإمام الشافعي -رضي الله عنه- الذي تأخر زمانه عن زمن الاحتجاج. وقد أورد السيوطي كلمة أحمد بن حنبل: “كلام الشافعي في اللغة حجة”، ولم يكن هذا رأي ابن حنبل وحده، بل تعدَّدت أقوال العلماء التي تدل على الاحتجاج بلغة الشافعي، ومنها قول عبد الملك بن هشام: “الشافعي بصير باللغة يؤخذ عنه، ولسانه لغة فاكتبوه”، وقول الوليد بن أبي الجارود: “كان يقال: إن الشافعي لغة وحده يحتج بها”، وقول أبي منصور الأزهري: “والشافعي فصيح حجة في اللغة” ومعنى هذه الأقوال أن ما جاء في مصنفات الإمام الشافعي من عبارات شذَّت عن القواعد العربية المعروفة لا يمكن حملها على الخطأ، وإنما تُجعل عباراته شاهدًا لما استعملت فيه كما تُعدُّ وجهًا من وجوه سعة العربية.

فإذا كانت هذه اللغات الشاذة الواردة في لغة الإمام الشافعي قد وردت أيضا في لغة المسيح الموعود عليه السلام، فبإمكاننا أن نحكم بنفس هذا الحكم على كتابات المسيح الموعود عليه السلام، وبنفس المبدأ لنقول: أن ما جاء في مصنفات المسيح الموعود عليه السلام من عبارات شذَّت عن القواعد العربية المعروفة لا يمكن حملها على الخطأ، وإنما تُجعل عباراته شاهدًا لما استعملت فيه كما تُعدُّ وجهًا من وجوه سعة العربية.

وقد جاء نصب معمولي أنّ في رسالة الشافعي في المواضع التالية في الخط العريض:

  1. فَبَيَّنَ النبي أن انتهاءَ اللهِ به إلى أربع حَظْرًا عليه أن يجمع بين أكثر منهُنَّ، {الرسالة للشافعي (1/ 346)}
  2. ولكنْ أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفتُ من أن ذلك موجوداً (5) على كلهم. {الرسالة للشافعي (1/ 457)}

(ملحوظة: أقرّ أحمد شاكر محقق الرسالة أن الفقرة الأولى هكذا وردت في الأصل بنصب “حظرا” رغم أنه أبقاها على الرفع في تحقيقه)

فنرى في هذه الفقرات أن الكلمات “حَظْرًا ” و”موجوداً ” قد انتصبت رغم أنها أخبار لـ”أن”، وقد أكّد على ذلك محقق الرسالة أحمد شاكر وقال في توجيه هذا النصب بأنه جائز على قلة، ومحمول على لغة من ينصب معمولي أنّ.

وبناء على ذلك كله نقول: إذا وردت هذه اللغة من نصب معمولي أن وأمثالها من اللغات الشاذة في النصوص القديمة ولغة الإمام الشافعي، ويشهد لكل هؤلاء بفصاحتهم وبلاغتهم وحجّيتهم في اللغة، فمن ذا الذي يجرؤ بعد اليوم أن يعترض على ورود مثل هذه اللغات في لغة المسيح الموعود عليه السلام، إلا الذي كتب على نفسه الذل والمهانة يوما بعد يوم؟

وهنا لا بدّ أن نذكّر بما قاله المسيح الموعود عليه السلام حيث قال:

فلا تستطلعوني طِلْعَ أديبٍ، وما أنا في بلدة الأدب إلا كغريبٍ {إعجاز المسيح (2/ 26)}

ومن بين ما يعنيه المسيح الموعود عليه السلام هنا، وفق فهمي الشخصي، أنه لا يمكننا الحكم على لغته وكتاباته عليه السلام بناء على قواعد الأدباء والنحاة اليوم، فلا بد إلى جانب الفصاحة والبلاغة أن نرى أمورا قد تبدو غريبة للأديب والمتخصص المعاصر، ولا بدّ أن نجد نكاتا لغوية غريبة، ولغات عربية قديمة كتلك التي في النصوص والكتابات العربية القديمة، والتي هي جائزة وفق اللغة العربية إلا أن اللغة المعاصرة امتنعت عن محاكاتها لمنع الفوضى والبلبلة وبهدف ضبط اللغة. ولذلك لا يحق لأحد مهما ظن نفسه عالما في اللغة العربية أن يعترض على مثل هذه اللغات القديمة ويصنفها في عداد الممنوع أو الخطأ أو الخطأ الفاحش، فنحن لسنا بحاجة إلى أقزام اللغة اليوم أن يحكموا على أمثال الإمام الشافعي ويخطّؤوا لغته.

لذا يتثبت من كل هذا، أن ما ورد في فقرة المسيح الموعود عليه السلام من نصب لخبر أنّ، ما هو إلا لغة عربية صحيحة وجائزة ويكفي للإثبات جوازها ورودها في رسالة الإمام الشافعي؛ فيكون توجيه الفقرة كما يلي:

ليُروهم أنهم متنفرين من الإسلام وفي التنصُّر متشدّدين.

أنهم : ضمير الها، اسم أنّ منصوب والميم للجمع. متنفرين: خبر أن منصوب على لغة من نصبه.

وما ينطبق على ” متنفرين من الإسلام” ينطبق على التوالي على “في التنصر متشددين” المعطوفة عليها، لأنه من قبيل عطف جملة اسمية على جملة اسمية أخرى، وذلك بتقدير حذف “أنّ” واسمها في الجملة الثانية؛ ليكون التقدير” ليرُوهم أنهم متنفرين من الإسلام، وأنهم في التنصر متشددين”. وهذا وفق ما أقرّه النحو الوافي في إمكانية حذف الحروف الناسخة مع أحد معموليها، وإمكانية عطف الجملة الاسمية على الأخرى عند هذا الحذف.{يُنظر: (النحو الوافي (1/ 641)، ( النحو الوافي (1/ 666)}

فتكون ” متشددين” خبرا منصوبا لـ “أن” المحذوفة مع اسمها.

فلا خطأ ولا سهو في كل هذا، إنما هو إعجاز الوحي الإلهي المتنزل على المسيح الموعود عليه السلام !!!!