المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية .. 45

نكتة الخطأ في الأفعال الخمسة ..1

نكتة نصب أو جزم المضارع المرفوع


الاعتراض:

يزعم البعض أن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في الفقرات التالية:

  1. فالذين يحكّمونه في تنازعاتهم ثم ((لا يَجِدوا)) في أنفسِهم حَرَجًا مما قضى لرفعِ اختلافاتهم… فأولئك هم المؤمنون حقّا (نجم الهدى)
  2. ويُحبّون أن يُحمَدوا بما ((لا يعملوا)) (مكتوب أحمد)
  3. وكانوا يتيهون في الأرض مُقْتَرين مستَقْرين، لعلهم ((يجدوا)) أثرا مِن قاتلٍ أو ((يلاقوا)) بعض المُخبِرين (نجم الهدى، ص 56).

ويكمن الخطأ وفق زعمهم في أن المسيح الموعود عليه السلام قد نصب أو جزم الأفعال المشار إليها بين الأقواس المزدوجة، وذلك بحذف النون منها حيث إنها أفعال مضارعة من الأفعال الخمسة، وحقها أن تكون مرفوعة بثبوت النون لأنه لم يسبقها لا ناصب ولا جازم، فلا بد أن تكون العبارات  مرفوعة كما يلي: (لا يجدون) و ( لا يعملون)، و(لعلهم يجدون) و (أو يلاقون).

الرد:

إنها يا سادة ليست أخطاء، بل نكات أدبية ولغوية منحها الله تعالى للمسيح الموعود عليه السلام، من عجيب قدرته، وجاءت كلها تأكيدا ومصداقا لقوله عليه السلام: وإني أُيّدتُ من الله القدير، وأُعطيت عجائب من فضله الكثير. ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين. (مكتوب احمد )

والنكتة تكمن في جهل المعارضين أن حذف النون في الأفعال الخمسة في حالة الرفع جائز فصيح ووارد في لغات العرب، لا سيما لغة سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة، ولغة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وأئمة المحدِّثين والمفسرين كما سنبينه في هذا المقال. فمن يجرؤ بعد هذا أن يطعن في هذه اللغة سوى الجاهل المتهور!؟

فعن ثبوت النون وحذفها في حالة الرفع في الأفعال الخمسة يقول النحو الوافي ما يلي:

عرفنا أن نون الرفع تحذف وجوبًا للناصب أو الجازم؛ كحذفها فى قوله تعالى: {لن تَنالُوا الْبِرَّ حَتى تنفقُوا مما تُحِبّون} ، وقول الشاعر المصري:

لا تقْربوا النيل إنْ لم تعملوا عملاً … فماؤهُ العذبُ لم يخلَق لكسْلان

وقد تحذف لغير ناصب أو جازم، وجوبًا أو جوازًا؛ فتحذف وجوبًا إذا جاء بعدها نون التوكيد الثقيلة؛ مثل: أنتما، يا صاحباي، لا تقصرانّ في الواجب، وأنتم -يا رجال- لا تهملُنّ فى العمل، وأنت -يا قادرة- لا تتأخَرنِّ عن معاونة البائس، فحذفت نون الرفع في الجميع؛ لتوالي الأمثال “أي: لتوالي ثلاثة أحرف متماثلة زائدة؛ هي: النونات الثلاث … ” وحذفت معها أيضًا واو الجماعة، وياء المخاطبة دون ألف الاثنين، ولكن عند إعراب المضارع المرفوع نقول: مرفوع بالنون المقدرة، كما سبق بيان سببه وتفصيله.

وتحذف جوازًا عند اتصالها بنون الوقاية، مثل: الصديقان يُكْرمانِني، أو: يُكْرِمَانِي، والأصدقاء يكرمُونني، أو: يكرموني، وأنت تكرمينني، أو: تكرِمينِّي.

فتلخص من هذا أن نون الأفعال الخمسة لها ثلاثة أحوال عند اتصالها بنون الوقاية: الحذف، أو الإدغام في نون الوقاية، أو الفك مع إبقاء النونين.

وهناك لغة تحذف نون الرفع “أي: نون الأفعال الخمسة” في غير ما سبق؛ وبها جاء الحديث الشريف: “لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا”، أي: لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا. ولا تؤمنون حتى تتحابوا. وقوله أيضًا: “كما تكونوا يولَّى عليكم” في بعض الآراء، وليس من السائغ اتباع هذه اللغة في عصرنا، ولا محاكاتها، وإنما ذكرناها لنفهم ما ورد بها في النصوص القديمة. {النحو الوافي (1/ 180- 179) }

إذن، يتبين مما أورده النحو الوافي بأن ثبوت النون في الأفعال الخمسة في حالة الرفع، ليست هي قرآنا منزلا، ولا هي من ألواح التوراة المنزلة على موسى عليه السلام في جبل سيناء؛ كما يقول المثل العبري “لُوو تُورا مِسِينَايْ” ( לא תורה מסיני).

فعدّدَ النحو الوافي ثلاث حالات لحذفها في حالة الرفع:

  • إذا جاء بعدها نون التوكيد الثقيلة فتحذف لتوالي الأمثال أي توالي ثلاث نونات فتحذف وجوبا
  • إذا جاء بعدها نون الوقاية فتحذف جوازا
  • وفي لغة أخرى تحذف هذه النون جوازا في غير الحالتين الأوليين.

ويقر النحو الوافي بأن هذه اللغة الثالثة التي حَذَفت نون الأفعال الخمسة بلا ناصب ولا جازم واردة في النصوص القديمة مثل الحديث الشريف، كلام النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء حيث قال:

{وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا} (سنن الترمذي, كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله)

وكذلك الحديث ” كما تكونوا يولى عليكم” (رواه الحاكم والبيهقي عن حديث يَحْيَى بن هاشم حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه أظنه عن أبي بكرة مرفوعاً.)

ومما يؤكد صحة هذه اللغة من حذف النون في الأفعال الخمسة في حالة الرفع، هو ورودها في النصوص القديمة للغة الإمام الشافعي الذي يعتبر حجة في اللغة وتؤخذ اللغة منه، حيث جاءت في رسالته في المواضع التالية:

  • وقال نفر من أصحاب النبي: ” الأقراء الحيض”، فلا يُحِلُّوا المطلقةَ حتى تغتسل من الحيضة الثالثة. الرسالة للشافعي (1/ 562)
  • قلت له: ما وجدنا في هذا كتاباً ولا سنةً ثابتة، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة، ويتركونه أخرى، ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم. الرسالة للشافعي (1/ 597)

وبيّن محقق الرسالة العلامة أحمد شاكر وجود هذه اللغة في سنن الترمذي أيضا:

حيث جاء فيه:

– {دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ فَقَامَ يُصَلِّي فَجَاءَ الْحَرَسُ لِيُجْلِسُوهُ فَأَبَى حَتَّى صَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَيْنَاهُ فَقُلْنَا رَحِمَكَ اللَّهُ إِنْ كَادُوا لَيَقَعُوا بِكَ } (سنن الترمذي, كتاب الجمعة عن رسول الله)

وقد علق المحقق الكبير العلامة أحمد شاكر على هذه اللغة الواردة في رسالة الشافعي وسنن الترمذي في هامش تحقيقه على سنن الترمذي بقوله:

ويجوز حذف النون تخفيفا في الشعر والنثر لغير ناصب ولا جازم، تشبيها لها بالضمة. واستشهد بقول سيدنا عمر بن الخطاب في الحديث الشريف الوارد في صحيح مسلم حيث جاء:

{فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا  وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ } (صحيح مسلم, كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها)

وقال أحمد شاكر متابعا: وهي لغة صحيحة وإن كانت قليلة الاستعمال .

أذن، يقرّ أحمد شاكر بجواز وصحة حذف النون في حالة الرفع للأفعال الخمسة في النثر والشعر ، وعلل سبب هذا الحذف بالتخفيف.

فإذا كانت هذه اللغة واردة على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذن، فهي لغة واردة في لغة قريش أفصح القبائل العربيىة والتي بلُغتها نزل وجُمع القرآن الكريم، ونرى ورود هذه اللغة في الأحاديث الشريفة وتناقلها رواة الحديث والمحدِّثين، إذ نجدها في صحيح مسلم وسنن الترمذي، ولغة الإمام الشافعي الحجة، ويشهد عليها وعلى صحتها كبير المحققين أحمد شاكر كما بيّنا.

لذا، فالطاعن في هذه اللغة فإنه يطعن في كل هؤلاء الذين سبق ذكرهم ويطعن في فصاحتهم! والحقيقة أنه لا يجرؤ على هذا الطعن إلا الجاهل الذي سفه نفسه.

ولنا أن نستنتج من كل هذا، نظرا لاستعمال هؤلاء البلغاء والفصحاء هذه اللغة غير الدارجة والتي تصنّف بأنها ليس مما يجوز محاكاته في عصرنا هذا على حد قول النحو الوافي، لنا أن نفهم بأن بلغاء اللغة هؤلاء كانوا يجيزون لأنفسهم التفنّن في لغاتهم واستعمال شتى الأساليب الصحيحة حتى لو لم تكن مما جُمع القرآن عليه في النهاية، وكل هذا لا يمكن أن يقدح في فصاحتهم ولغتهم وبلاغتهم.

وهذا هو الفنّ الذي اتبعه المسيح الموعود عليه السلام الذي قال عن نفسه ما يلي:

وهذا فضل ربي أنه جعلني أبرَعَ مِن بني الفُرات، وجعلني أعذبَ بيانًا من الماء الفُرات. وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. فكمْ مِن مُلح أُعطيتُها، وكم من عذراءَ عُلِّمتُها! فمن كان مِن لُسْنِ العلماء، وحوَى حُسْنَ البيان كالأدباء، فإني أستعرضه لو كان من المعارضين المنكرين.” {مكتوب أحمد (3/ 78)}

فبكونه عليه السلام أفصح المتكلمين، فإنه يجيز لنفسه التفنن في أساليب الكلام وتطييع اللغة كيفما يشاء، بتضمينها ملحا أدبية ونكاتا لغوية لا يعلمها إلا من علم أسرار ودقائق اللغة العربية، وعُلّمها من لدن عزيز قدير عليم وأعلم العالمين. فاعتبروا يا أولي الألباب!!!!