المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية .. 75

(ملحوظة: من يشق عليه قراءة المقال كله بإمكانه بعد المقدمة الانتقال مباشرة إلى الخلاصة والنتيجة وما بعدها من أمثلة من كلام العرب)

نكتة الخطأ في دخول (أنْ) على كان وأخواتها..2

نقض الاعتراض من باب جواز الإخبار عن ذات (جثة) بالمصدر المؤوَّل إما بنفسه وإما تأويلًا

******************

الاعتراض:

ادعى المعارضون أن المسيح الموعود عليه السلام يُقحم ويزيد حرف النصب (أنْ) بعد كان وأخواتها خطأ؛ وذلك فيما يزيد عن العشرين جملة صنّفوها في عداد الخطأ. كمثل الجمل التالية التي نُوردها هنا وإلى جانبها ما يزعمه المعارضون أنه هو الصحيح الذي يجب أن يُقتصر عليه:

  1. وإن كنتَ أن تشتهي أن تسبّني أو تلعنني أو تكذّبني (تحفة بغداد، ص 16). الصحيح: وما كنتَ لتشتهي ..
  2. وعلّمني من أسرارٍ ما كنت أن أعلمها لو لا أن يعلّمني الله (تحفة بغداد، ص 39). الصحيح: وما كنتُ لأعلمها.
  3. وما كنتُ أن أفتري عليه، إنه ربي أحسنَ مثواي (مكتوب أحمد، ص 30). الصحيح: وما كنتُ لأفتري ..
  4. ولست أن أعادي أحدا لِما عاداني (حمامة البشرى، ص 197). الصحيح: ولستُ أعادي، أو ولستُ لأعادي.

وملخص هذا الاعتراض، أنّ (أنْ) المصدرية الناصبة مع الفعل المضارع، هي في محل أو قُل على تقدير مصدر مؤوَّل يُسبك منها، والذي هو في هذه الجمل من المفروض أن يكون خبرا لكان وأخواتها، وهو في الأصل يخبِر عن اسم كان.

إلا أنه في هذه الجمل، فإن هذا المصدر المؤول لا يصح أن يكون الخبر لعدم استقامة المعنى؛ فمثلا الجملة : “ما كنت أنْ أفتريَ”، تصبح بعد سبك المصدر المؤول من (أنْ) والفعل كما يلي: ما كنت افتراءً، ولا يصح لكلمة (افتراء) أن تصف الشخص الذي هو المسيح الموعود عليه السلام.

ولذا فكان لا بد من إدخال اللام بدلا من (أنْ) الناصبة على الفعل؛ لتكون الجملة الصحيحة وفق زعمهم: “ما كنت لأفتريَ”.

************************************************

الردّ:

المقدمة

لقد قلنا في المقال السابق إن اعتراض المعترضين – سواء عن وعي أو غير وعي- يرتكز بالأساس على أمرين أساسيين، وهما:

1- وجوب دخول لام الجحود على الفعل المضارع في هذه الجمل بدلا من أن الناصبة.

2- عدم استقامة الجملة وصحتها – في الظاهر- بالإخبار عن ذات أو (جثة) بأمر معنوي. إذ لا يصح القول في الظاهر : أنا افتراء / ما كنت افتراءً. لأن أنا ضمير عن ذات (جثة: مثل شخص ، كتاب، شجرة..)، وكلمة افتراء هي أمر معنوي غير محسوس لا يصلح لوصف شيء محسوس كذات أو جثة.

كما يوضحه النحو الوافي هذه المصطلحات:

هذا تعبير النحاة. يريدون بالمعنى: الأمر غير المحسوس، أي: الذي لا يكون جسما نحسه بإحدى الحواس الخمس، كالبصر….، وإنما يكون شيئا مفهوما بالعقل، مثل: العلم، الذكاء، الأدب، النبل، الشرف…. أما الجثة فالجسم الذي نحسه بالبصر، أو بغيره من الحواس، ومنه. الشجرة، المنزل، القلم….” {النحو الوافي (1/ 479)}

وقد نقضنا في المقال السابق الأساس الأول الذي بني عليه هذا الاعتراض، بإثبات أن بعض النحاة يجيزون حذف لام الجحود وإظهار (أنْ) الناصبة بدلا منها، كما في القرآن الكريم: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} (يونس 38).

وأما في هذا المقال فسوف نهدم الأساس الثاني الذي بُني عليه الاعتراض. حيث يتضح وفق البحث الدقيق، أنه وعلى عكس ما يظن المعارضون، فإنه من الجائز الإخبار عن ذات ( جثة) بالمصدر المؤول من (أنْ والفعل ) على سبيل المجاز والتأويل أو حتى بدونها أيضا، وفق التفصيل التالي..

******************************************

البحث والتفصيل:

من خلال البحث في هذا الموضوع، يتضح بشكل جليّ مدى اختلاف النحاة في هذا الأمر، والنقاش الدائر بينهم فيه، والمواضع التي يجوز فيها الإخبار عن الذات أو الجثة بالمصدر المؤول أو بامر معنويّ.

ففي سياق الحديث عن الفرق بين المصدر المؤوَّل والمصدر الصريح جاء في النحو الوافي ما يلي:

يصح أن يقع المصدر المؤول خبرًا عن الجثة من غير تأويل في نحو: عليّ إما أن يقول الحق وإما أن يسكت؛ لاشتماله على الفعل والفاعل والنسبة بينهما بخلاف المصدر الصريح.” {النحو الوافي (1/ 418)}

وبناء على المثال الذي أورده النحو الوافي يكون تقدير الكلام: عليٌّ إما قوله الحق وإما سكوت. فهذا الذي يجوّزه النحو الوافي هو بالذات ما يعتبره المعارضون خطأ. وكما هو واضح فإن النحو الوافي يجوّز هذا في مثل هذا الموضع، دون اللجوء إلى التأويل بل بقبول الكلام وأخذه على ما هو عليه.

إلا أنه ورغم هذا التجويز يقول النحو الوافي في موضع آخر، في سياق الحديث عن الضمائر المتصلة ما يلي:

ومثل: حَسِبَ فى قولهم: جئتَ، وما حسبتك أن تجئ؛ لأن الكاف لوأعربت ضميرًا لكانت المفعول الأول “لحسب”، ولكان المفعول الثانى هوالمصدر المؤول “أن تجئ” ويترتب على ذلك أن يكون المصدر المؤول خبرًا عن الكاف، باعتبار أن أصلهما المبتدأ والخبر “لأن مفعولى: حسب؛ أصلهما المبتدأ والخبر” ((وإذا وقع المصدر المؤول هنا خبرًا عن الكاف ترتب عليه الإخبار بالمعنى عن الجثة؛ وهوممنوع عندهم فى أغلب الحالات.)) ” {النحو الوافي (1/ 241)}

ويفسر هذا المنع في الهامش بقوله:

هو ممنوع على سبيل الحقيقة، لا المجاز- {النحو الوافي (1/ 241)}

وهذا يبين أن هنالك رأي- وظاهر الكلام أنه الرأي الرائج – والذي لا يُبيح الإخبار عن الجثة بالمصدر المؤوّل أو بالمعنى في أغلب الحالات، إلا أن هذا المنع سائر إذا أُخذ الكلام على حقيقته وليس على سبيل المجاز.

ومن هنا نخلص إلى أن هذا الإخبار جائز دائما على سبيل المجاز، وأما على سبيل الحقيقة فهو ليس جائز في جميع الحالات.

ومن بين المواضع التي يجوز فيها هذا الإخبار أي الإخبار بالمعنى عن الذات تأويلا، هو الإخبار عنها بظرف الزمان والذي هو أمر معنوي أيضا، وذلك على تقدير مضاف معنوي قبل المبتدا الذات ( الجثة)؛ كما يؤكده النحو الوافي في النص التالي:

الثالثة: أن يكون المبتدأ الذات صالحاً لتقدير مضاف قبله تدل عليه القرائن؛ بحيث يكون ذلك المضاف أمراً معنوياً مناسباً؛ كأنْ يلازم المرء بيته يومياً للراحة، فيعرض عليه صديقه الخروج لنزهة بحرية، فيعتذر قائلا: البيتُ اليومَ، والبحرُ غدا. أى: ملازمة البيت اليوم، ونزهة البحر غدا. ومثله: الكتابُ الساعةَ، والحديقةُ عصراً. أى: قراءةُ الكتاب الساعةَ، ومتعةُ الحديقة عصراً … وفى هذه الصورة يكون الظرف منصوباً فى محل رفع خبراً. {النحو الوافي (1/ 482)}

وفي نفس هذا السياق جاء في شرح الأشموني لألفية ابن مالك ما يلي:

ولا يكون اسم زمان خبرا … عن جثة وإن يفد فأخبرا

“وَلاَ يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرا عَنْ جُثَّةٍ” فلا يقال: “زيد اليوم”؛ لعدم الفائدة “وَإِنْ يُفِدْ” ذلك بواسطة تقدير مضاف هو معنى “فَأَخْبِرَا” كما في قولهم: “الهلال الليلة”، و”الرطب شهري ربيع”، و”اليوم خمر، وغدا أمر”…..

أي: طلوع الهلال، ووجود الرطب، وشرب خمر، وإحراز نعم؛ فالإخبار حينئذٍ باسم الزمان إنما هو عن معنى لا جثة.

هذا مذهب جمهور البصريين، وذهب قوم -منهم الناظم في تسهيله- إلى عدم تقدير مضاف، نظرا إلى أن هذه الأشياء تشبه المعنى، لحدوثها وقتا بعد وقت، وهذا الذي يقتضيه إطلاقه. {شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 191)}

يتضح من هنا:

  • في أي حال يصلح فيها تقدير أمر معنوي كمضاف قبل الجثة أو الذات، يصح الإخبار عنها بالمعنى، كظرف الزمان أو المصدر المؤول.
  • نرى أن الناظم لم يأخذ بهذا الرأي، بل أجاز هذا الإخبار دون اللجوء إلى تقدير مضاف واللجوء إلى والتأويل.

وكذلك من المواضع التي يجوز فيها الإخبار بالمعنى عن الجثة، دون اللجوء إلى التأويل، هو وقوع المصدر المؤول خبرا لأفعال الرجاء مثل (عسى) وبعض أفعال المقاربة مثل (كاد)، والتي هي كلها أفعال ناسخة من أخوات (كان). ( يُنظر النحو الوافي ج 1 ص 622). فهذا ما خلص إليه عباس حسن في النحو الوافي رغم الأراء التي تخالفه فيها حيث قال في باب أفعال المقاربة والرجاء:

نترك للنحاة اختلافهم في نوع “أن” الداخلة في أخبار هذا الباب كله “كأخبار أفعال المقاربة هذه، وأفعال الرجاء ص 612” فأكثرهم يميل إلى أنها حرف نصب غير مصدري وأن فائدته تخليص المضارع للزمن المستقبل، دون زمن آخر، ويرفضون أن تكون مصدرية، بحجة أنها لو كانت مصدرية لوجب أن تسبك مع الجملة المضارعية بعدها بمصدر مؤول يكون خبرا للناسخ، فيترتب على ذلك الإخبار بالمعنى عن الجثة، وهو ممنوع – غالبا -. ففي مثل: عسى محمود أن يجود، يقع المصدر المؤول من أن والمضارع وفاعله خبر “عسى” في محل نصب، فيكون التقدير: عسى محمود جوده. فيقع “جود” – وهو أمر معنوي – خبرا عن “عسى” وهو في الحق خبر عن محمود، لأن اسم عسى وخبرها أصلهما المبتدا والخبر، ولا يجوز أن يكون المبتدأ جثة وخبره امرا معنويا – غالبا – ولا يبيح ذلك ناسخا قبلها.

((وقال فريق آخر: لا مانع من اعتبار “أن” الداخلة في أخبار هذا الباب هي الناصبة المصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن المضارع مع فاعله – هو خبر الناسخ، إما على سبيل المبالغة، وإما على تقدير مضاف قبله، أو قبل اسم الناسخ، فيكون التقدير في المثال السابق: عسى محمود صاحب جوده، أو عسى حال محمود جوده …))

((هذا كلام السابقين. وخير منه أن تكون “مصدرية ناصبة ويغتفر في هذا الباب كله الإخبار بالمعنى عن الجثة، فنستريح من تكلف التأويلات)) البصرية السالفة، كما نستريح من تكلف التأويلات الكوفية التي تجعل المصدر المؤول بدل اشتمال من الاسم المرفوع السابق، ويجعلون: “عسى” فعلا تاما معناه: “التوقع”. ففي مثل: عسى على أن يحضر…. يكون التقدير: عسى على حضوره، أي: يتوقع على حضوره، ويكون الغرض من “البدل” هو التفصيل بعد الإبهام الداعي للتشويق. والذي يعنينا من هذا كله هو أن التعبير السالف صحيح، لا ضعف في استعماله ومحاكاته، ولا يعنينا بعد هذا نوع التأويل الذي يأخذ به فريق دون الآخر. “ولهذا إشارة في رقم 1 من هامش ص 636“. { النحو الوافي (1/ 616)}

وعن أفعال الرجاء جاء في شرح شذور الذهب:

لأن قولنا: (عسى زيد أن يقوم) إذا جعلنا (أنْ) والفعل فيه خبرا عن (زيد) يلزم منه الإخبار عن الذات بالمعنى، وهو ممتنع فيحتاج إلى التأويل المذكور، وهو إما المبالغة بجعل (زيد) نفس القيام وإما بتقدير مضاف وكأنه قيل: عسى أمر زيد القيام” {شرح شذور الذهب للجوجري (2/ 503)}

ومن هذه النصوص نستنتج ما يلي:

  • فريق من النحاة لا يجيز الإخبار بالمعنى عن الجثة، في باب أفعال المقاربة والرجاء كلية، ويذهب إلى أنّ (أنْ) الداخلة على أخبارها ليست المصدرية ولا يؤوَّل منها والفعل مصدرا مؤولا.
  • فريق آخر من النحاة يجيز الإخبار بالمعنى عن الجثة في هذا الباب، وذلك باللجوء إلى التأويل، إما على سبيل المبالغة والمجاز، وإما بتقدير مضاف قبل الجثة أو قبل المصدر المنسبك من (أنْ) والفعل. وهذا رأي منسوب للمدرسة البصرية.
  • فريق من النحاة يجيز هذا الإخبار بتأويل المصدر المؤول على أنه بدل اشتمال من الجثة التي يخبِر عنها. وهذا التأويل منسوب للمدرسة الكوفية.
  • أما عباس حسن في النحو الوافي فهو يضرب بكل هذه الآراء عُرض الحائط، ويقول بجواز هذا الإخبار دون اللجوء إلى أيٍّ من هذه التأويلات، فيُغتفَر عنده الإخبار بالمعنى عن الجثة في كل هذا الباب.
  • فواضح وجليّ اختلاف النحاة في هذا الأمر وآرائهم المتضاربة.
  • ولا ننسى أن أفعال المقاربة والرجاء مثلها كمثل (كان) ومن أخواتها فهي أفعال ناسخة.

ومن المواضع الأخرى الشبيهة بأفعال المقاربة والرجاء هو دخول (أن) على خبر لعل، ففيها يجوز الإخبار عن الجثة بالمعنى، كما يصرّح به النحو الوافي في سياق الحديث عن إن وأخواتها:

وينفرد خبر “لعل” بجواز تصديره “بأن” المصدرية، نحو: لعل أحدكم أن يسارع في الخيرات فيلقى خير الجزاء…. ((“ولا مانع في هذه الحالة أن يقع المعنى خبرا عن الذات كوقوعه خبرا لعسى ))… وقد سبق الكلام عليهما في باب أفعال المقاربة رقم 1 من هامش ص 616“. {النحو الوافي (1/ 636)}

**************************************************

الخلاصة والنتيجة:

ينتج عن البحث الأمور التالية:

– جواز الإخبار عن الذات ( الجثة) بالمعنى كالمصدر المؤول من أنْ والفعل على سبيل التأويل والمجاز . فإذا صحّت بعض التأويلات التالية يجوز هذا الإخبار.

– التأويل الأول: حمل المعنى على المجاز والمبالغة. كمثل : عسى زيد أن يقوم ؛ أي: عسى زيدٌ قياما. بجعل زيد نفسه القيام للمبالغة.

– تأويل ثان: بتقدير مضاف قبل اسم الذات ( الجثة) كـ: عسى أمر زيد القيام .

– تأويل ثالث: بتقدير مضاف قبل المصدر المؤوَّل كـ: عسى زيد رجل القيام

– تأويل رابع : اعتبار المصدر بدل اشتمال من اسم الذات. وهذا تأويل بعيد سنتركه.

– فهذا الإخبار جائز على التأويل والمجاز دائما أينما قُصد هذا التأويل.

– منع هذا النوع من الإخبار عندما يكون على سبيل الحقيقة في أغلب الأحيان.

– رغم هذا المنع ورغم آراء التأويل المختلفة إلا ان هنالك من النحاة من يجيز هذا النوع من الإخبار دون اللجوء إلى كل هذه التأويلات، بل بأخذ الكلام على ما هو عليه، وذلك في أبواب مختلفة، كالإخبار بظرف الزمان عن الجثة وفق الناظم، والإخبار بالمصدر المؤول في أفعال المقاربة والرجاء، وفي باب لعل، وحتى في الخبر بشكل عام مثل: عليّ إما أن يقول الحق وإما أن يسكت.

وبالنظر إلى كل هذا ومقارنته مع الجمل المعترَض عليها في كتابات المسيح الموعود عليه السلام، نرى أن كل هذه التأويلات جائزة فيها وتنطبق عليها، مما يجعل الإخبار عن الجثة بالمصدر المؤول من (أنْ) والفعل فيها جائزا وصحيحا، وذلك إما بتقدير مضاف قبل اسم الذات أو قبل المصدر المؤوَّل، أو أخذ الكلام في بعضها على المجاز مبالغة، بجعل المصدر مخبرا عن الذات وكأنه هُو للمبالغة. (أنظر التقديرات المرفقة أدناه)

هذا عدا عن أن في جملة أو أكثر من بين هذه الجمل، لاحظنا أنه قد يجوز حمل (كان) فيها على أنها شأنية، أو أنّ المصدر لم يكن أصلا مخبِرا فيها عن جثة بل عن أمر معنوي؛ الأمر الذي يجعلها جمل صحيحة، وفق توجيهات واعتبارات أخرى غير هذا التوجيه الذي نحن بصدد البحث فيه.

وناهيك عن كل هذا، وعن كل هذه التقديرات والتأويلات؛ فكما نرى بأن النحو الوافي قد أجاز الإخبار بمعنى أي بالمصدر المؤول عن الجثة دون اللجوء والاهتمام بكل هذه التأويلات، وذلك في أبواب عدة، منها باب الأفعال الناسخة من أفعال المقاربة والرجاء، والتي هي من أخوات (كان) وفق تصنيف النحو الوافي نفسه؛ وكذلك في باب (لعل)، وحتى في غير ذلك من الإخبار عن المبتدأ في بعض التراكيب مثل “عليّ إما أن يقول الحق وإما ان يسكت”، وقد أجاز الناظم هذا الإخبار دون اللجوء إلى التأويل والتقدير في باب ظرف الزمان.

وهنا أقول، إذا جاز كل هذا واغتُفر في كل هذه الأبواب، فلماذا لا يُغتفر أيضا في باب كان الداخلة على لام الجحود، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أفعال المقاربة والرجاء من أخوات (كان)، والتطابق التام في التأويلات والتقديرات عند الأخذ بها في كل هذه الأبواب المتشابهة!؟

كما لا نجد فرقا بين ما جوّزه النحو الوافي دون اللجوء إلى التأويل في ” عليٌّ إما أن يقولَ الحق وإما أن يسكتَ” وبين “ما كان علي أن يسكت”؛ فكلاهما على نفس التقدير : علي إما قول الحق وإما سكوت” و ” ما كان علي سكوتا”.

كما لا نجد فرقا بين ما جوّزه النحو الوافي دون اللجوء إلى التأويل في ” عسى محمود أن يجود” و”ما كان محمود أن يجود” فكلاهما على نفس التقدير : عسى محمود الجود” و ” ما كان محمود الجود” .

وكذلك لا نجد فرقا بين الجمل المعترض عليها وبين الجمل التي أجازها النحويون على المجاز وتقدير مضاف فيها، فالتقديرات والتاويلات متطابقة إيما تطابق.

ولذا، فسواء بالأخذ بالتأويلات المختلفة أو عدم الأخذ بها، فإنه يصحّ الإخبار بالمصدر المؤول عن إسم ذات أو جثة، في باب (كان) وأخواتها الداخلة على لام الجحود، بعد حذف هذه اللام وإظهار أن الناصبة بدلا منها.

ولا شك أن صحة هذا الإخبار وتشابهه وتطابقه مع الكثير مما جوّزه النحاة -من الإخبار بالمصدر المؤول عن الجثة- ، وخاصة بورود السماع عن العرب كما في القرآن الكريم : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} (يونس 38). ؛ لهو ما دفع بعض النحويين إلى تجويز حذف لام الجحود وإظهار أن الناصبة بدلا منها مع وجود (كان) قبلها في مثل هذه الجمل، كما أثبتناه في المقال السابق كتوجيه أول لفقرات المسيح الموعود عليه السلام المعترض عليها.

ومن هنا نرى أن صحة الفقرات المعترض عليها تثبت سواء بأخذ التأويلات والتقديرات المختلفة التي ذكرناها أو بعدم الأخذ بها أيضا. إذ لا تختلف هذه الجمل والإخبار فيها عن الجثة بالمصدر المؤول عن العديد مما جوّزه المجوّزون من العلماء والنحويين؛ فالجمل هي ذاتها والتقديرات هي ذاتها. وإذا اغتُفر كل هذا في أفعال المقاربة والرجاء الناسخة التي من أخوات (كان) فلماذا لا تُغتفر في (كان) نفسها التي جاءت في باب لام الجحود المحذوفة المستبدلة بأن الناصبة.

وبهذا تثبت صحة تلك الفقرات من كلام المسيح الموعود عليه السلام والمعترض عليها، وذلك من باب جواز الإخبار بالمصدر المؤول عن اسم ذات أو جثة كما بيّناه بالتفصيل هنا.

*******************************************

وإليكم التقديرات في كلام المسيح الموعود عليه السلام والمطابقة لتقديرات النحاة.

1- وما كنت أن أُنجى من هذه البلايا لولا رحمتك (التبليغ، ص 145). تقدير 1:وما كان حالي/ أمري/ مصيري/ مآلي نجاة من هذه البلايا

تقدير 2: وما كنت حائز نجاة من هذه البلايا

تقدير 3: وما كنت نجاةً (مبالغة ومجازا)

2- وأما أنا فما كنتُ أن آبى مِن أمر ربّي (دافع الوساوس، ص 13).

تقدير 1: فما كان ردّي/ خلقي/ تصرفي إباءً من أمر ربي

تقدير 2: فما كنت قابلَ/ مريدَ إباءٍ

تقدير 3: فما كنت إباءً (مبالغة ومجازا)

3- وما كنتُ أن أردّ فضل الله الكريم (سر الخلافة، ص 84).

تقدير 1: وما كان خلقي/ ديني ردَّ فضل الله

تقدير 2: وما كنت قادر/ راغب ردِّ فضل الله

تقدير 3: وما كنت ردَّ فضل الله (مبالغة ومجازا)

4- وإن كنتَ أن تشتهي أن تسبّني أو تلعنني أو تكذّبني (تحفة بغداد، ص 16).

تقدير1: وإن كان شأنك /خلقك اشتهاءَ سبي ..

تقدير2: وإن كنت ضامرَ اشتهاءٍ أن تسبني

تقدير3: وإن كنت اشتهاءَ سبي (مبالغة ومجازا)

في هذه الجملة يصح من منظار أول حمل (إنْ) في (إن كنتَ) على أنها إنْ النافية. ولكنها من منظار ثان يمكن حملها على أنها (إنْ) الشرطية كما يبينها سياقها التالي:

وإن كنت أن تشتهي أن تسبّني أو تلعنني أو تكذّبني أو تقتلني بسيف بتّار أو تلقيني في نارٍ، فاصنع ما شئت، وما أرُدّ عليك إلا دعاء الخير والعافية” {تحفة بغداد}.

ولكن على كلا الحالتين سواء كانت نافية ام شرطية فإن التقديرات التي ذهبنا إليها تبقى صحيحة لا إشكال فيها.

5- وعلّمني من أسرارٍ ما كنت أن أعلمها لو لا أن يعلّمني الله (تحفة بغداد، ص 39).

تقدير: وما كان شأني/ قدرتي علمَ

تقدير 1: ما كنت نائلَ/حائزَ علمِها

تقدير 2: ما كنت علمَها (مبالغة ومجازا)

6- وما كنت أن أشقّ على نفسي في هذا الضعف والنحافة (نور الحق، ص 69).

تقدير 1: ما كان أمري/ هدفي/ مبتغايَ / إرادتي شقّا على نفسي

تقدير 2: ما كنت مريدَ/ باغيَ شقٍّ على نفسي

تقدير 3: وما كنت شقا على نفسي (مبالغة ومجازا)

7- وما كنتُ أن أحتاز فما أبالي الإفزاز (نور الحق، ص 116).

تقدير1: ما كان أمري/ شأني احتيازا ..

تقدير2: ما كنت مريدَ احتيازٍ

8- وما كنتُ أن أفتري عليه، إنه ربي أحسنَ مثواي (مكتوب أحمد، ص 30).

تقدير 1: وما كان أمري/ هدفي افتراء عليه

تقدير 2: وما كنت مجترئَ افتراءٍ عليه

تقدير 3: وما كنت افتراءً (مبالغة ومجازا)

9- وما كنت أن أفُوه بزُورٍ، وأدلِّي بغرور (نجم الهدى، ص 22).

تقدير 1: وما كان شأني/ أمري/ خلقي/ قدرتي فوها بزور

تقدير 2: وما كنت مجترئَ فَوهٍ بزور

تقدير 3: وما كنت فوها بزور (مبالغة ومجازا)

10- وما كُنْتُ أن أتمنّى (مواهب الرحمن، ص 7).

تقدير 1: وما كان شأني/ خلقي/ قدرتي تمنيا ( أي كذبا)

تقدير 2: وما كنت مجترئَ تمنٍّ

تقدير 3: وما كنت تمنيا (مبالغة ومجازا)

11- وما كنتُ أن أخرُج إلى الناس من زاويتي (مواهب الرحمن، ص 73).

تقدير 1: وما كان أمري/ شأني/ طلبي/ مبتغاي خروجا إلى الناس

تقدير 2: وما كنت طالب/ باغيَ خروجٍ

تقدير 3: وما كنت خروجا إلى الناس (مبالغة ومجازا)

12- وما كان أن يُحدث سلسلة النبوة ثانيًا بعد انقطاعها (التبليغ، ص 8).

تقدير 1: وما كان شأنه/ مبتغاه إحداثَ سلسلة النبوة ..

تقدير 2: وما كان آذنِ/ مريدَ إحداثِ سلسلة النبوة

13- وأنت تعلم أنه مستبعَد جدا وفاسد بالبداهة، وما كان أن يُصلِحه تأويل المؤولين (حمامة البشرى، ص 125).

تقدير 1: وما كان إصلاحَه تأويلُ المؤولين

تقدير 2: وما كان الشأن تأويلُ المؤولين إصلاحُه

لا إشكال في هذه الجملة قطعا إذ المصدر المؤول يخبر عن معنى وهو كلمة (تأويل) وليس ذات. كما يمكن اعتبار كان هنا شأنية كما في التقدير الثاني.

14- وما كان أن يتحاماها قبل أن يتوفى أهلَها (حمامة البشرى، ص 147).

تقدير 1: وما كان شأنه تحاميها ..

تقدير 2: وما كان قادرَ تحاميها

15- فما كان أن يفرّق بين السَكْتة والسُبات (لجة النور).

تقدير 1: فما كان مقدوره/ قدرته/ شأنه/ أمره تفريقا بين..

تقدير 2: فما كان صاحب/ عالم/ قادر تفريق بين السكتة

16- وما كانوا أن يسقوا الحرث (سر الخلافة، ص 56).

تقدير 1: وما كان شأنهم/ مرادهم/طلبهم سقيَ الحرث

تقدير 2: وما كانوا راغبي/ طالبي سقيِ الحرث

17- وأمّا الذين طبَع الله على قلوبهم فما كانوا أن يقبلوا الحق وما نفعهم وعظ الواعظين (إتمام الحجة، ص 52).

تقدير 1: فما كان شأنهم/ أمرهم/ مرادهم/ مصيرهم قبولَ الحق

تقدير 2: فما كانوا راغبي/ مريدي قبولِ الحق

تقدير 3: وما كانوا قبولَ الحق ( مبالغة ومجازا)

18- وما كانوا أن يصقلوها كالعُلماء المتبحّرين (منن الرحمن، ص 89).

تقدير 1: وما كان أمرهم / قدرتهم صقلَها كالعلماء

تقدير 2: وما كانوا قادري صقلِها

19- فما كانوا أن يبالوا نفسًا أبيّةً (لجة النور، ص 57).

تقدير 1: فما كان شأنهم/ مرادهم/ خلقهم مبالاةَ نفسٍ

تقدير 2: فما كانوا مريدي مبالاةِ نفس

20- فما كانوا أن يتحركوا من المكان (إعجاز المسيح، ص 35).

تقدير 1: فما كان مصيرهم/ مرادهم تحركا من المكان

تقدير 2: فما كانوا مريدي تحركٍ من المكان

تقدير 3: فما كانوا تحركا من المكان ( مبالغة ومجازا)

21- وظهرت فتن ما كانوا أن يُصلحوها بالشورى والمنتدى (الهدى والتبصرة، ص 37).

تقدير 1: ما كان شأنهم/ أمرهم/ قدرتهم إصلاحَها

تقدير 2: ما كانوا قادري إصلاحِها

22- ولست أن أعادي أحدا لِما عاداني (حمامة البشرى، ص 197).

تقدير 1: وليس شأني / خلقي/ هدفي معاداةَ أحد

تقدير 2: ولست هادفَ /مبتغيَ معاداةِ أحد

******************************

استعمال هذه الصيغة في كلام العرب:

وإليكم كذلك ما وجدناه في كلام العرب من استعمال لنفس الصيغة مما يؤكد جواز هذا الاستعمال:

  • أعلم أني بريئة وأن الله عز وجل مبرئى ببراءتى ((ولكن الله ما كنت أن ينزل)) فى شأنى وحى يتلى .{ الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني }(22/ 121)}
  • لأن المرأة في الجناية تقول ((ما كنت أن أحبس عبدًا جانيًا)) أفديه (3)،{ عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق (ص: 258)}
  • إذ ما كنت أن أتصور أن كل هذا النضج {مجلة الرسالة (955/ 26، )}
  • وهي نتيجة ما كنت أن تتوقعها أبداً كثمرة لهذا البرنامج؟ {أرشيف ملتقى أهل التفسير }
  • ما كُنتُ أَن أَحسَبَهُ هَيَّنا {أرشيف منتدى الألوكة }
  • ولو رددت إلى المدرسة ما كنت أن أعود إلى ذلك العار مرة أخرى {أرشيف ملتقى أهل الحديث – 5 (21/ 5)}