المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..74

نكتة الخطأ في زيادة (أنْ) على كان وأخواتها ..1

نقض الاعتراض من باب جواز حذف لام الجحود وإظهار (أنْ) الناصبة مكانها وفق مذهب بعض النحاة

الاعتراض:

ادعى المعارضون أن المسيح الموعود عليه السلام يُقحم ويزيد حرف النصب (أنْ) بعد كان وأخواتها خطأ؛ وذلك في العديد من الجمل التي صنّفوها في عداد الخطأ. نُورد هنا هذه الجمل، وإلى جانبها ما يزعمه المعارضون أنه هو الصحيح الذي يجب أن يُقتصر عليه:

1- وما كنت أن أُنجى من هذه البلايا لولا رحمتك (التبليغ، ص 145). الصحيح: وما كنتُ لأُنجى ..

2- وأما أنا فما كنتُ أن آبى مِن أمر ربّي (دافع الوساوس، ص 13). الصحيح: فما كنتُ لآبى أمرَ ربي.

3- وما كنتُ أن أردّ فضل الله الكريم (سر الخلافة، ص 84). الصحيح: وما كنتُ لأردّ …

4- وإن كنتَ أن تشتهي أن تسبّني أو تلعنني أو تكذّبني (تحفة بغداد، ص 16). الصحيح: وما كنتَ لتشتهي ..

5- وعلّمني من أسرارٍ ما كنت أن أعلمها لو لا أن يعلّمني الله (تحفة بغداد، ص 39). الصحيح: وما كنتُ لأعلمها.

6- وما كنت أن أشقّ على نفسي في هذا الضعف والنحافة (نور الحق، ص 69). الصحيح: وما كنتُ لأشقّ ..

7- وما كنتُ أن أحتاز فما أبالي الإفزاز (نور الحق، ص 116). الصحيح: وما كنتُ لأحتاز …

8- وما كنتُ أن أفتري عليه، إنه ربي أحسنَ مثواي (مكتوب أحمد، ص 30). الصحيح: وما كنتُ لأفتري ..

9- وما كنت أن أفُوه بزُورٍ، وأدلِّي بغرور (نجم الهدى، ص 22). الصحيح: وما كنتُ لأفوه ..

10- وما كُنْتُ أن أتمنّى (مواهب الرحمن، ص 7). الصحيح: وما كنتُ لأتمنى

11- وما كنتُ أن أخرُج إلى الناس من زاويتي (مواهب الرحمن، ص 73). الصحيح: وما كنتُ لأخرج ..

12- وما كان أن يُحدث سلسلة النبوة ثانيًا بعد انقطاعها (التبليغ) الصحيح: وما كنتُ لأُحدِث ..

13- وأنت تعلم أنه مستبعَد جدا وفاسد بالبداهة، وما كان أن يُصلِحه تأويل المؤولين (حمامة البشرى، ص 125). الصحيح: وما كان ليصلحه ..

14- وما كان أن يتحاماها قبل أن يتوفى أهلَها (حمامة البشرى، ص 147). الصحيح: وما كان ليتحاماها ..

15- فما كان أن يفرّق بين السَكْتة والسُبات (لجة النور). الصحيح: فما كان ليفرّق ..

16- وما كانوا أن يسقوا الحرث (سر الخلافة، ص 56). الصحيح: وما كانوا ليسقوا ..

17- وأمّا الذين طبَع الله على قلوبهم فما كانوا أن يقبلوا الحق وما نفعهم وعظ الواعظين (إتمام الحجة، ص 52). الصحيح: فما كانوا ليقبلوا ..

18- وما كانوا أن يصقلوها كالعُلماء المتبحّرين (منن الرحمن، ص 89). الصحيح: وما كانوا ليصقلوها.

19- فما كانوا أن يبالوا نفسًا أبيّةً (لجة النور، ص 57). الصحيح: فما كانوا ليبالوا ..

20- فما كانوا أن يتحركوا من المكان (إعجاز المسيح، ص 35). الصحيح: فما كانوا ليتحركوا …

21- وظهرت فتن ما كانوا أن يُصلحوها بالشورى والمنتدى (الهدى والتبصرة، ص 37). الصحيح: وما كانوا ليصلحوها.

22- ولست أن أعادي أحدا لِما عاداني (حمامة البشرى، ص 197). الصحيح: ولستُ أعادي، أو ولستُ لأعادي.

وملخص هذا الاعتراض، أنّ (أنْ) المصدرية الناصبة مع الفعل المضارع، هي في محل أو قُل على تقدير مصدر مؤوَّل يُسبك منها، والذي هو في هذه الجمل من المفروض أن يكون خبرا لكان واخواتها، وهو في الأصل يخبر عن اسم كان.

إلا أنه في هذه الجمل، فإن هذا المصدر المؤول لا يصح ان يكون الخبر لعدم استقامة المعنى؛ فمثلا الجملة : “ما كنت أنْ أفتريَ”، تصبح بعد سبك المصدر المؤول من (أنْ) والفعل كما يلي: ما كنت افتراءً، ولا يصح لكلمة (افتراء) أن تصف الشخص الذي هو المسيح الموعود عليه السلام.

ولذا فكان لا بد من إدخال اللام بدلا من (أنْ) الناصبة على الفعل؛ لتكون الجملة الصحيحة وفق زعمهم: “ما كنت لأفتريَ”.

الردّ:

المقدمة

إذا ما أنعمنا النظر في الجمل المعترَض عليها، نرى أن فيها كلها قد جاءت (أن) الناصبة مع الفعل، بعد “كان” المنفية بأحد حروف النفي (ما) أو (إن)؛ سوى الجملة الأخيرة حيث جاءت فيها (ليس) التي هي من أخوات (كان)، والتي تحمل معنى النفي بنفسها دون الحاجة إلى حرف نفي يسبقها.

وأما الجمل التي يزعم المعارضون أنها الصحيحة بدخول اللام بدلا من (أنْ) فيها، فهي تندرج تحت باب نصب الفعل المضارع بأن مضمرة لدخول اللام على الفعل؛ وهذه اللام تُدعى لام الجحود أو لا الإنكار؛ وهي اللام التي تأتي بعد فعل الكون باشتقاقاته المختلفة ( كان/ يكون)، الماضي لفظا ومعنى أو معنى فقط ( أي مضارع مسبوق بلم)، والمنفي بأحد احرف النفي (ما) أو ( لم)، وعند فريق من النحاة (إن) النافية أيضا. ( يُنظر : النحو الوافي، ج 4 ص 319- 320، مسألة 149).

وفي الحقيقة، فإن اعتراض المعترضين – سواء عن وعي أو غير وعي- يرتكز بالأساس على أمرين أساسيين، وهما:

1- وجوب دخول لام الجحود على الفعل المضارع في هذه الجمل بدلا من أن الناصبة.

2- عدم استقامة الجملة وصحتها – في الظاهر- بالإخبار عن ذات أو (جثة) بأمر معنوي. إذ لا يصح القول في الظاهر : أنا افتراء / ما كنت افتراءً. لأن أنا ضمير عن ذات (جثة: مثل شخص ، كتاب، شجرة..)، وكلمة افتراء هي أمر معنوي غير محسوس لا يصلح لوصف شيء محسوس كذات أو جثة.

كما يوضحه النحو الوافي هذه المصطلحات:

هذا تعبير النحاة. يريدون بالمعنى: الأمر غير المحسوس، أي: الذي لا يكون جسما نحسه بإحدى الحواس الخمس، كالبصر….، وإنما يكون شيئا مفهوما بالعقل، مثل: العلم، الذكاء، الأدب، النبل، الشرف…. أما الجثة فالجسم الذي نحسه بالبصر، أو بغيره من الحواس، ومنه. الشجرة، المنزل، القلم….” {النحو الوافي (1/ 479)}

وأما نقض اعتراض المعترضين فهو بنقض هذين الأمرين، حيث يثبت بعد البحث المستفيض أن كل هذه الأمور لهي مواضع خلاف بين النحويين؛ إذ هنالك من النحويين من يجوّز كل هذا. لتثبت صحة العبارات المذكورة أعلاه من بابين:

1- باب إظهار (أنْ) الناصبة بعد لام الجحود وفق المذهب الكوفي، وقول بعض النحاة بجواز حذف هذه اللام وإظهار (أنْ) بدلا منها.

2- جواز الإخبار عن الذات أو الجثة بالمصدر المؤول المسبوك من (أنْ) والفعل، على التأويل، إما مبالغة ومجازا أو بتقدير مضاف في الجملة.

كل هذا وفق التفصيل التالي:

البحث والتفصيل:

جاء في الهمع للسيوطي ما يلي: ((التركيز على ما بين الأقواس المزدوجة))

لَام الْجُحُود…

(أَنْ) أم الْبَاب فَلهَذَا تنصب ظَاهِرَة ومضمرة وَلها إِذا أضمرت حالان حَال وجوب وَحَال جَوَاز فَالْأول بعد نَوْعَيْنِ من الْحُرُوف أَحدهمَا مَا هُوَ حرف جر وَالْآخر مَا هُوَ حرف عطف فَالْأول حرفان أَحدهمَا اللَّام الَّتِي يسميها النحويون لَام الْجُحُود …..

وَعلي الأول لَا يجوز إِظْهَار أَن …….فَكَذَلِك كَرهُوا أَن يجمعوا بَين اللَّام وَأَن فِي اللَّفْظ ، ((وَأَجَازَ بعض الْكُوفِيّين إظهارها بِفَتْح اللَّام تَأْكِيدًا كَمَا جَازَ ذَلِك فِي (كي) نَحْو مَا كَانَ زيد لِأَن يقوم)) قَالَ أَبُو حَيَّان وَيحْتَاج إِلَى سَماع من الْعَرَب ((وَأَجَازَ بعض النُّحَاة حذف اللَّام وَإِظْهَار (أَن) نَحْو {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى} [يُونُس: 37] أَي ليفتري وأوله المانعون ……))

((وَذهب بعض النَّحْوِيين إِلَى أَن لَام الْجُحُود تكون فِي أَخَوَات كَانَ قِيَاسا عَلَيْهَا نَحْو مَا أصبح زيد ليضْرب عمرا وَلم يصبح زيد ليضْرب عمرا وَزعم بَعضهم أَنَّهَا تكون فِي ظَنَنْت وَأَخَوَاتهَا نَحْو مَا ظَنَنْت زيدا ليضْرب عمرا وَلم أَظن)) زيدا ليضْرب عمرا قَالَ أَبُو حَيَّان وَهَذَا كُله تركيب لم يسمع فَوَجَبَ مَنعه وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا تدخل فِي كل فعل منفي تقدمه فعل نَحْو مَا جِئْت لتكرمني قَالَ أَبُو حَيَّان وَهَذَا فَاسد لِأَن هَذِه لَام كي وَالْفرق بَينهمَا من وُجُوه كَثِيرَة ستأتي” {همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 377- 379) }

وجاء في الإنصاف ما يؤكد ذلك:

ذهب الكوفيون إلى أنّ لام الجَحْدِ هي الناصبة بنفسها، ويجوز إظهار “أنْ” بعدها للتوكيد، نحو: “ما كان زيد لأن يدخل دارك، وما كان عمرو لأن يأكل طعامك..” {الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (2/ 485)}

وجاء في توضيح المقاصد ما يؤكد هذا أيضا:

“الأول: أجاز بعض النحويين حذف لام الجحود وإظهار أن مستدلا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} ” {توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (3/ 1245)}

الخلاصة والنتيجة:

فيتضح من كل هذا ما يلي:

  • وفق المذهب الكوفي يصح إظهار (أنْ) الناصبة بعد لام الجحود كما في: ما كان زيد لأن يدخل.
  • أجاز بعض النحاة حذف هذه اللام وإظهار (أنْ) بدلا منها كما في: ما كان زيد (أنْ) يدخل
  • مثيل هذا وارد في القرآن الكريم، وهو ما استند عليه هؤلاء النحاة، كما في الآية الكريمة: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} (يونس 38)
  • ذهب بعض النحويين إلى أن لام الجحود لا يقتصر دخولها على فعل الكون المنفي أي (كان) المنفية، بل تدخل أيضا على أخوات كان مثل ليس، أو أي فعل آخر منفي.

وبهذا يسقط الأساس الأول الذي بُني عليه الاعتراض، إذ ثبت من كل هذا أنه وفق فريق من النحاة ليس بالضرورة إدخال لام الجحود على الجمل أعلاه بدلا من (أنْ) الناصبة، بل يجوز حذف هذه اللام مع إدخال (أنْ) بدلا منها.

ووفق ما ذكرناه فإن الجملة الأخيرة المعترض عليها والتي هي: “ولست أن أعادي أحدا”، تصحّ هي الأخرى على مذهب من يُجري لام الجحود على أخوات (كان) كلهم بما فيها “ليس” والتي تحمل معنى النفي بنفسها.

بقي أن نؤكد أن هنالك من النحاة من يجيز أن يكون أحد حروف النفي التي تسبق كان في هذا الباب هو الحرف (إنْ) النافية، فهذا ما يقرّ به النحو الوافي عند حديثه عن أحرف النفي التي تسبق كان في باب لام الجحود، حيث جاء فيه:

  • أو “إن” النافية عند فريق {النحو الوافي (4/ 319)}
  • ولا يختلف إعراب “إن” النافية عن إعراب: “ما”، في شيء مطلقا -عند من يبيح دخول “إن”- فكلاهما يصح أن يحل محل الآخر بغير تفاوت بينهما. {النحو الوافي (4/ 320)}

وبهذا تثبت صحة الجملة الرابعة والتي تقول: “وإن كنتَ أن تشتهي أن تسبّني أو تلعنني أو تكذّبني” حيث جاءت كان منفية بحرف النفي (إنْ)، ليسري على هذه الجملة جواز حذف لام الجحود وإظهار أن بدلا منها.

وبذلك نكون قد اثبتنا صحة كل الفقرات المعترَض عليها من باب أول، لندع الحديث عن الباب الثاني للمقال التالي.

ولا يخفى علينا من كل هذا اختلاف النحاة واختلاف آرائهم في مثل هذه الأمور، ولكن ما يهمنا إثباته في الدرجة الأولى أن هنالك من النحاة من يجوّز كل هذا، مما يُثبت أنها كلها لغات عربية صحيحة، يدعمها القرآن الكريم ويؤيدها مما يعلو بها إلى درجة الفصيح والبليغ من اللغة العربية.

أقول، إن في هذا آيات لأولي الألباب، وآيات لقوم يتفكرون، وأيات لقوم يسألون ويتساءلون: من أين للمسيح الموعود عليه السلام أن يعلم كل هذه الدقائق الدفينة في مختلف الكتب والمراجع النحوية؟ من أين له أن يعرف أن العرب تكلمت بإظهار أن مع لام الجخود على غير المشهور؟ وأن العرب تكلمت وجوّزت حذف هذه اللام وإبقاء (أنْ) بدلا منها على غير المعروف؟ ومن أين له أن يعرف أنه على رأي بعض النحاة يجوز لكان أن تكون منفية بحرف النفي (إن) في باب لام الجحود على غير الرائج ؟ ومن أين له أن يعرف أنّ هنالك من النحاة من يُدخل لام الجحود على أخوات كان كليس مثلا على غير المتبَع؟ من أين يا أيها العاقلون؟

أقول بأعلى صوتي، إنه امتلاك ناصية اللغة الذي لا يتأتي لكل فصيح وبليغ، بل فقط لمن عرف أدق دقائق اللغة العربية بفضل تعليم الوحي له بشكل إعجازي، فما بالكم إن كان هذا التعليم في ليلة واحدة؟ ألا يكون هذا قمة الإعجاز ومن كبريات المعجزات المؤيدة لنبوّة المسيح الموعود عليه السلام؛ وفق قول الشافعي: “العربية لا يحيط بها إلا نبي“!؟؟؟

فما لكم لا تبصرون!؟


الجزء الثاني من هنا