المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية..36

نكتة العجمة في تمييز الأعداد..2

الاعتراض:

مما اعتُرض عليه في كلام المسيح الموعود عليه السلام ، هو تمييزره للأعداد في بعض الفقرات، والتي لأول وهلة نرى بأنها قد جاءت مخالفة لقواعد الصرف والنحو المعروفة. كما جاء في الفقرات التالية:

1- فلبثوا في دار غربتهم إلى مدّة نحو ستين أعوام. (لجة النور)

2- وإني جُعلتُ مسيحا منذ نحو عشرين أعوام من ربّ علاّم. (تذكرة الشهادتين)

3- ومشوا معه إلى سبعين فرسخ وباتوا معه وأكلوا معه … أتظن أن سُلَّمَ السماءِ ما كان إلا على سبعين ميل مِن مقام الصليب؟ (الهدى والتبصرة)

ووفق زعم االمعترضين فإن المسيح الموعود عليه السلام، قد أخطأ بجعله تمييز الأعداد (ستين) و( عشرين) بصيغة الجمع وبالرفع وهي كلمة (أعوام)، رغم وجوب كونها مفردة منصوبة (عامًا).

وفي الفقرة الثالثة كان الخطأ فقط في عدم نصب تمييز العدد (سبعين) وهي الكلمات (فرسخ) و (ميل)، والتي وفق زعمهم لا بدّ أن تكون منصوبة مفردة على هذا النحو(ميلا) و(فرسخا)؛ ويبدو أن المعارضين قد ظنوا بأن هذه الكلمات قد وردت مرفوعة أيضا كما ظنوا في الفقرتين السابقتين.

ويرتكز المعارضون في اعتراضاتهم هذه على القاعدة النحوية المعروفة، والتي تقول بوجوب كون تمييز الأعداد من 11 إلى 99 مفردا منصوبا لا غير؛ فلا يجوز جمعه ولا أن يكون غير منصوب.

ويعزو هؤلاء كل هذه الأخطاء المزعومة إلى العجمة في كلام المسيح الموعود عليه السلام، وقالوا إنه من المستحيل أن يكون لها تخريج لغوي.

الرد:

دعونا نفاجئ المعارضين لنجزم بأنه لا خطأ واقع في الفقرات المذكورة أعلاه البتة، وأن لها تخريجات وليس تخريج واحد! وذلك لأنها تسري عليها قواعد نحوية غير التي عرفها المعارضون، بل قواعد فرعية أخرى وفق لغات عربية أقرّت بها أمهات المصادر اللغوية والنحوية، وأقرّ بها كبار النحاة واللغويين، نوردها وفق ما جاء بها الإمام السيوطي في كتابه همع الهوامع في شرح جمع الجوامع كما يلي: ((التركيز على ما بين الأقواس المزدوجة))

“مَسْأَلَة مُمَيّز الْعدَد إِن كَانَ مَا بَين عشرَة وَمِائَة مُفْرد مَنْصُوب ((وَأَجَازَ الْفراء جمعه. وَإِضَافَة عشْرين وأخواته لُغَة))…… وَإِن كَانَ أحد عشر إِلَى تِسْعَة وَتِسْعين ميز بمفرد مَنْصُوب نَحْو: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يُوسُف: 4] {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [الْبَقَرَة: 60] (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الْأَعْرَاف: 142] {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [الْأَعْرَاف: 155] ((وَلَا يجوز جمعه عِنْد الْجُمْهُور. وَجوّزهُ الْفراء)) نَحْو: عِنْدِي أحد عشر رجَالًا، وَقَامَ ثَلَاثُونَ رجَالًا، وَخرّج عَلَيْهِ {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} [الْأَعْرَاف: 160] .

((قَالَ الْكسَائي وَمن الْعَرَب من يضيف الْعشْرين وأخواته إِلَى التَّمْيِيز نكرَة وَمَعْرِفَة فَيَقُول عشرو دِرْهَم وأربعو ثوب..))..{(إ.هـ)همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 348- 347 – 345)}

وبناء على ما أورده السيوطي يثبت ما يلي:

– جواز جمع تمييز الأعداد ما بين 11 و99 وفق ما أقرّ به الفرّاء.

– جواز إضافة العقود ( العشرون وأخواته مثل: ثلاثون..أربعون.. ستون.. سبعون) إلى التمييز وفق لغة من لغات العرب أقر بها الكسائي. فيقال :عشرو درهمٍ.

لذا ووفق الاستنتاج الأول تثبت صحة الجمع في الفقرتين الأُولَيين في كلمة ( أعوام).

ووفق الاستنتاج الثاني يتضح أن التمييز في هذه الفقرات كلها ليس مرفوعا كما ظنه المعارضون، بل مجرور بالإضافة. إلا أن هذه الإضافة تختلف عمّا ذكره الكسائي، بإضافة العقود مع حذف نونها بقوله “عشرو درهمٍ” على اعتبار أن “عشرون ملحقة بجمع المذكر السالم، والقاعدة الرائجة تقول بوجوب حذف نونها عند الإضافة، إذ جاءت رغم ذلك في فقرات المسيح الموعود عليه السلام بإثبات النون “سبعين فرسخٍ”. ولعل هذا ما أوقع المعارضين في الوهم بأن التمييز في هذه الفقرات قد جاء مرفوعا.

وأما السبب في ذلك، أي إثبات النون في كلام المسيح الموعود عليه السلام رغم الإضافة، هو أن أسماء العقود ( عشرون، وثلاثون …) ليست هي جمع مذكر سالما حقيقيا، بل ملحقة به. وعليه فإن النون الواردة فيها من الممكن أن تعتبر من أصل الكلمة وليست نون الجمع ومن الممكن إثباتها دائما حتى عند الإضافة.

فقد أكّد ابن عقيل في شرحه على ألفية أبن مالك، أن إثبات الياء والنون في جمع المذكر السالم قاطبة، سواء الجمع نفسه أو ما ألحق به، وفي كل الأحوال سواء في الإضافة أو دونها، هي لغة من لغات العرب حيث قال:

” وقد يرد هذا الباب (وهو باب سنين) معربا بحركات ظاهرة على النون مع لزوم الياء، مثل إعراب ” حين ” بالضمة رفعا والفتحة نصبا والكسرة جرا، ((والاعراب بحركات ظاهرة على النون مع لزوم الياء يطّرد في كل جمع المذكر وما ألحق به عند قوم من النحاة أو من العرب)).” {شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 63)}

وقال أيضا: ((التركيز على ما بين الأقواس المزدوجة))

” اعلم أن إعراب سنين وبابه إعراب الجمع بالواو رفعا وبالياء نصبا وجرا هي لغة الحجاز وعلياء قيس.

((وأما بعض بني تميم وبني عامر فيجعل الاعراب بحركات على النون ويلتزم الياء في جميع الاحوال،)) وهذا هو الذي أشار إليه المصنف بقوله ” ومثل حين ” وقد تكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه اللغة، وذلك في قوله يدعو على المشركين من أهل مكة: ” اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنينِ يوسف ” وقد روى هذا الحديث برواية أخرى على لغة عامة العرب: ” اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ” فإما أن يكون عليه الصلاة والسلام قد تكلم باللغتين جميعا مرة بهذه ومرة بتلك، لان الدعاء مقام تكرار للمدعو به، وهذا هو الظاهر، وإما أن يكون قد تكلم بإحدى اللغتين، ورواه الرواة بهما جميعا كل منهم رواه بلغة قبيلته، لان الرواية بالمعنى جائزة عند المحدثين، وعلى هذه اللغة جاء الشاهد رقم 7 الذي رواه الشارح، كما جاء قول جرير: أرى مر السنينِ أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال وقول الشاعر: ألم نسق الحجيج سلي معدا سنينًا ما تعد لنا حسابا وقول الآخر: سنيني كلها لاقيت حربا أعد مع الصلادمة الذكور .

((ومن العرب من يلزم هذا الباب الواو، ويفتح النون في كل أحواله، فيكون إعرابه بحركات مقدرة على الواو)) منع من ظهورها الثقل، ((ومنهم من يلزمه الواو ويجعل الاعراب بحركات على النون كإعراب زيتون ونحوه،)) ((ومنهم من يجري الاعراب الذي ذكرناه أولا في جميع أنواع جمع المذكر وما ألحق به، إجراء له مجرى المفرد،)) ويتخرج على هذه اللغة قول ذي الاصبع العدواني: إني أبيّ أبيّ ذو محافظة وابن أبيّ أبيّ من أبيينِ ويجوز في هذا البيت أن تخرجه على ما خرج عليه بيت سحيم (ش 9) الآتي قريبا فتلخص لك من هذا أن في سنين وبابه أربع لغات، وأن في الجمع عامة لغتين. {(إ.ه) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 64)}

وأكد ابن عقيل إثبات النون عند الإضافة في باب سنين عند إجرائها مجرى “حين” بإيراده بيتا من الشعر كما يلي:

“دعاني من نجد فإن سنينه … لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا

الشاهد فيه: إجراء السنين مجرى الحين في الإعراب بالحركات وإلزام النون مع الإضافة.

وفي الهامش تعليقا على بيت الشعر قال:

الشاهد فيه: قوله ” فإن سنينه ” حيث نصبه بالفتحة الظاهرة، بدليل بقاء النون مع الاضافة إلى الضمير، فجعل هذه النون الزائدة على بنية الكلمة كالنون التي من أصل الكلمة في نحو مسكين وغسلين، ألا ترى أنك تقول: هذا مسكين، ولقد رأيت رجلا مسكينا، ووقعت عيني على رجل مسكين، وتقول: هذا الرجل مسكينكم، ((فتكون حركات الاعراب على النون سواء أضيفت الكلمة أم لم تضف،)) لان مثلها مثل الميم في غلام والباء في كتاب، ولو أن الشاعر اعتبر هذه النون زائدة مع الياء للدلالة على أن الكلمة جمع مذكر سالم لوجب عليه هنا أن ينصبه بالياء ويحذف النون فيقول

” فإن سنيه ” ومثل هذا البيت قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف ” والابيات التي أنشدناها (في ص 58) وتقدم لنا ذكر ذلك.” {شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 66)}

 

ثبت وفق كل ما أورده ابن عقيل فيما سبق، ما يلي:

– يجري على “سنين” وبابه في إلحاقه بجمع المذكر السالم ما يجري على كلمة “حين” بإثبات النون فيها في جميع الأحوال وإعرابها بالحركات على النون حتى عند الإضافة .

– أن في باب سنين أربع لغات للعرب وهي : 1- إعرابها كجمع المذكر السالم بالحروف، الرفع بالواو والنصب بالألف، والجر بالياء. 2- إلزامها الياء والنون دائما وإعرابها بحركات على النون3- إلزامها الواو ويعربها بحركات ظاهرة على النون4- إلزامها الواو وثبون الفتحة على النون وإعرابها بحركات مقدرة على الواو.

– من هذه الأربع لغات فإن اللغتين الأولَيين تسريان على جميع أقسام جمع المذكر السالم وملحقاته.

– فوفق لغة للعرب ولقوم من النحاة يطّرد في كل جمع المذكر السالم وملحقاته اللغة الثانية من إلزامها الياء والنون في كل الأحوال حتى في الإضافة وإعرابها بحركات ظاهرة على النون.

– من أمثلة اللغة الثانية الحديث الشريف بإحدى رواياته: “اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنينِ يوسف “.

فالخلاصة: إن إثبات النون عند إضافة جمع المذكر السالم وملحقاته، مثل: العقود في الأعداد؛ هي لغة من لغات بعض القبائل العربية وقوم من النحاة، حيث يجرونه مجرى الكلمات المفردة( حين، غسلين، مسكين) فتثبت النون والياء فيها في جميع الأحوال وتعرب بالحركات الظاهرة على النون.

وبناء عليه فإن تمييز العدد الوارد في فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه، لم يأت مرفوعا كما ظن المعارضون بل هو مجرور بالإضافة وفق هذه اللغة فيكون تحريك الفقرات كما يلي:

1- فلبثوا في دار غربتهم إلى مدّةِ نحوِ ستينِ أعوامٍ. (لجة النور)

2- وإني جُعلتُ مسيحا منذ نحوِ عشرينِ أعوامٍ من ربّ علاّم. (تذكرة الشهادتين)

3- ومشوا معه إلى سبعينِ فرسخٍ وباتوا معه وأكلوا معه … أتظن أن سُلَّمَ السماءِ ما كان إلا على سبعينِ ميلٍ مِن مقام الصليب؟ (الهدى والتبصرة)

حيث وردت العقود ( ستينِ، سبعينِ، عشرينِ) فيها على أنها أعداد مجرورة بالكسرة الظاهرة على النون المثبتة رغم الإضافة على اعتبارها ( أي النون) من أصل الكلمة وفق لغة للعرب. وأما ألفاظ التمييز التي وردت بعدها ( أعوامٍ، فرسخٍ، ميلٍ) فقد وردت مجرورة على أنها مضافة إليه.

وبذلك أثبتنا صحة كل ما جاء في هذه الفقرات من العدد وتمييزه.

 

تلخيص البحث:

أقرت المراجع اللغوية بصحة اللغات التالية:

– جواز جمع تمييز الأعداد ما بين 11 و99 وفق ما أقرّ به الفرّاء.

– جواز إضافة العقود ( العشرون وأخواته مثل: ثلاثون..أربعون.. ستون.. سبعون) إلى تمييزها وفق لغة من لغات العرب أقر بها الكسائي. فيقال :عشرو درهمٍ.

– جواز إلزام العقود الياء وإثبات النون فيها، وإعرابها بحركات ظاهرة على النون، في جميع الأحوال حتى عند إضافتها، رغم كونها ملحقة بجمع المذكر السالم؛ وذلك وفق لغة للعرب.

ووفق هذه اللغات تثبت صحة الفقرات المعترض عليها، حيث أنها كلها اعداد عقود أضيفت إلى معدودها (تمييزها) سواء بكون المعدود مفردا أو جمعا. وكل هذه لغات عربية صحيحة لا عجمة فيها البتة.