المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..15

إن من بين النكات الأدبية التي علّمها الله تعالى للمسيح الموعود عليه السلام، ما ظُن خطأ أنه رفع الفعل المضارع المجزوم في الفقرات التالية:

  • فإن كنت لا تخاف الله فامْضِ على وجهك، يأتي الله بعوضك. (الاستفتاء)
  • وقال اسجدني، أعطيك دولة عظمى، ومُلكًا لا يبلى (نور الحق)

والحديث هنا عن الفعل “يأتي” والفعل “أعطيك” اللذين يجب أن يكونا مجزومين بحذف حرف العلة لوقوعهما في جواب الطلب، على أن تكون الصيغة الصحيحة وفق ما نعرفه من قواعد اللغة العربية المعاصرة لنا كما يلي: “يأت” و”أعطِك”.

لذلك فقد ظن البعض أن المسيح الموعود عليه السلام قد وقع في خطأ أو سهو فأبقى أحرف العلة في آخر هذه الأفعال كعلامة للرفع، وطنطنوا ودندنوا على ذلك جهلا وتهورا. وقالوا إن المسيح الموعود عليه السلام رفع الفعل المضارع في هذه الفقرات رغم وجوب جزمه في جواب الطلب.

أما حقيقة الأمر فهي، أن المسيح الموعود عليه السلام لم يخطئ قط في هذه الفقرات ولم يرفع هذين الفعلين بإثبات حرف العلة فيهما. وإنما هذان الفعلان بقيا مجزومين رغم ثبوت حرف العلة فيهما، وذلك وفق قاعدة غير معروفة وغير متبعة في أيامنا هذه وهي: إجراء المعتل مجرى الصحيح السالم، والتي هي لغة من لغات العرب، أقر بها كبار النحاة واللغويين، وإليكم تفصيل ذلك من المراجع النحوية الأصلية: التركيز على ما في الخط العرض

جاء في كتاب همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (1/ 203)

الْبَاب السَّابِع: الْفِعْل الْمُضَارع المعتل الآخر ص السَّابِع الْمُضَارع المعتل وَهُوَ مَا أَخّرهُ ألف أَو وَاو أَو يَاء فيحذف آخِره جزما والحذف بالجازم وَقَالَ أَبُو حَيَّان التَّحْقِيق عِنْده وتسكين مَا قبله ضَرُورَة وَكَذَا بَقَاؤُهُ وَقيل سَائِغ كحذفه دونه وَإِذا بَقِي فالمحذوف الحركات الظَّاهِرَة وَقيل الْمقدرَة وَقيل الْبَاقِي إشباع … وَيجوز فِي الشّعْر تسكين مَا قبل هَذِه الْحُرُوف بعد حذفهَا تَشْبِيها بِمَا لم يحذف مِنْهُ شَيْء كَقَوْلِه 109 –

  • (ومَنْ يَتَّقْ فإنْ اللَّهَ مَعْهُ … )
  • وَورد إبْقَاء هَذِه الْحُرُوف مَعَ الْجَازِم كَقَوْلِه 110 –
  • (ولاَ تَرَضّاها وَلَا تَمَلّقْ … )
  • (ألم يَأْتِيك والأنباء تَنْمى … )

فالجمهور على أَنه مُخْتَصّ بِالضَّرُورَةِ وَقَالَ بَعضهم إِنَّه يجوز فِي سَعَة الْكَلَام وَإنَّهُ لُغَة لبَعض الْعَرَب وَخرج عَلَيْهِ قِرَاءَة {لَا تخف دركا وَلَا تخشى} طه 77 {إِنَّه من يَتَّقِي ويصبر} يُوسُف 90” (إ.ه)

وفي حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 152) جاء:

فقيل: حرف العلة الموجود هو الأصلي وثبت مع الجازم للضرورة وقيل: ليس هو الأصلي بل الأصلي حذف ثم أشبعت الفتحة إلخ فلا حاجة إلى ما تكلفه البعض. هذا وفي الهمع أن ثبوت حرف العلة مع الجازم لغة فيكون أهل هذه اللغة قد اكتفوا عند دخول الجازم بحذف الحركة المقدرة. قوله: “في قوله وتضحك إلخ” وأما قراءة

قنبل: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقيِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] ، بإثبات الياء وتسكين الراء فقيل: من موصولة وتسكين يصبر للتخفيف أو الوصل بنية الوقف وقيل: شرطية والياء إشباع أو لإجراء المعتل مجرى الصحيح فجزم بحذف الحركة المقدرة.” (إ.ه)

وجاء في كتاب الأصول في النحو (3/ 443) ما يلي:

فَيِومًا يُجَازينَ الهَوى غَيْرَ مَاضِيٍ … ويَومًا ترَى مِنْهنَّ غُوْلًا تَغَوَّلُ1

فهذِه الياءُ حكمُها على هَذا الشَرطِ أَن تفتحَ في موضعِ الجَرِّ إِذَا وقعتْ في اسم لا يَنصرفُ كما ترفعُ في موضِع الرفعِ فإِنْ اضطرَّ شَاعِرٌ إلى صَرفِ ما لا ينصرفُ حرّكها في موضعِ الجَر بالكسرِ ونَوَّنَها كما يَفعلُ في غيرِ المعتلِّ فأَجراها في جميعِ الأشياءِ مَجرى غير المعتلِّ وكذلكَ حكمُها في الأَفعالِ أَنْ ترفعَ في الياءِ والواوِ فتقولُ: زيدٌ يرميُكَ ويغزُوكَ كَما قالَ:

أَلَمْ يَأْتِيْكَ والأَنباءُ تَنمِي … بَمَا لاقَتْ لَبُونُ بني زِيَادِ2

2 من شواهد سيبويه 2/ 59 على إسكان الياء في يأتيك في حال الجزم حملا لها على الصحيح، وهي لغة بعض العرب، يجرون المعتل مجري السالم في جميع أحواله فاستعملها ضرورة.” (إ.ه)

وجاء في كتاب معاني القرآن للفراء (1/ 161) ما يلي:

وقد قرأ يحيى بْن وثاب وحمزة: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تخف دركا ولا تخشى» «6» بالجزاء المحض.

فإن قلت: فكيف أثبتت الياء فِي (تخشى) ؟ قلت: فِي ذلك ثلاثة أوجه إن شئت استأنفت «وَلا تَخْشى» بعد الجزم، وإن شئت جعلت (تخشى) فِي موضع جزم وإن كانت فيها الياء لأن من العرب من يفعل ذلك قال بعض «7» بني عبس:

ألم يأتيك والأنباء تنمي … بما لاقت لبون بنى زياد

فأثبتت الياء فِي (يأتيك) وهي فِي موضع جزم لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونها كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدني بعض بني حنيفة:

قال لها من تحتها وما استوى … هزي إليك الجذع يجنيك الجنى” (إ.ه)

وجاء في كتاب حجة القراءات (ص: 364)

قَرَأَ ابْن كثير / إِنَّه من يتقى ويصبر / بِإِثْبَات الْيَاء وحجته أَن من الْعَرَب من يجْرِي المعتل مجْرى الصَّحِيح فَيَقُول زيد لم يقْضِي وَيقدر فِي الْيَاء الْحَرَكَة فيحذفها مِنْهَا فَتبقى الْيَاء سَاكِنة للجزم …” (إ.ه)

وجاء في كتاب شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو (1/ 89) عن قراءة ” إنه من يتقي ويصبر”

” وقيل: “من” شرطية، و”الياء” في “يتقي” إما إشباع، فلام الفعل حذفت للجازم، وإما على إجراء المعتل مجرى الصحيح، فجزم بحذف الحركة المقدرة؛ ولم يستتبع حذفها حذف حرف العلة.” (إ.ه)

و أكد ذلك كتاب شرح شذور الذهب للجوجري (1/ 212) حيث جاء فيه:

وتأويلها إما بأن (يتقي) مجزوم، كما ذكر السائل وهذه الياء تولّدت عن إشباع حركة القاف الباقية بعد حذف يائه للجازم1.

أو أنه عومل معاملة الصحيح في جزمه بحذف الحركة. وهي لغة لبعض العرب حيث يراعي الحركة المقدرة، فيحذفها للجازم، كما يحذف الملفوظة، كما في قول الشاعر:

ألم يأتيك والأنباء تنمي … بما لاقت لبُونَ بني زياد3

وكما في قوله:

لم تَهجُو ولم تَدَع1

وإلى هذه اللغة أشار في التسهيل بقوله: “وقد يقدَّر جزم المعتل في السعة”2.” (إ.ه)

النتيجة:

  • الهمع يقرّ بأن بقاء حرف العلة عند الجزم سائغ كحذفه، وورد إبقاء حرف العلة للضرورة وفق البعض وفي سعة الكلام عند الآخرين على أنه لغة لبعض العرب اكتفوا عند الجزم بحذف الحركة دون حذف حرف العلة.
  • الصبان يقرّ بأن من تخريج هذا الإثبات لحرف العلة هو إجراء المعتل مجرى الصحيح فجزم بحذف الحركة .
  • حمل المعتل على الصحيح وإجرائه مُجراه في جميع أحواله لغة من لغات العرب، كما أقرّ بذلك كتاب الأصول في النحو.
  • هذه اللغة واردة في قراءات القرآن الكريم، إذ نرى أن الفراء في معاني القرآن، قد خرّج قراءة “فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تخف دركا ولا تخشى” على أنها أمر وجزاء، أي أن جزمَ “تخف” جزمٌ في جواب الأمر أو جواب الطلب، و”تخشى” معطوفة عليها بنفس الجزم، مع إثبات حرف العلة كلغة من لغات العرب، نسبها لبني عبس وبني حنيفة؛ ومثّل لذلك ببيت من الشعر في جزم المضارع المعتل في جواب الطلب مع إثبات الياء فيه.

وهذا مطابق تمام التطابق مع فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه، والتي جزم فيها المضارع في جواب الطلب مع إثبات حرف العلة فيه.

  • من القراءات القرآنية التي وردت فيها هذه اللغة هي الآية {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقي وَيَصْبِرْ} (يوسف 91) وقد قرأها ابن كثير، وحجته فيها أَن من الْعَرَب من يجْرِي المعتل مجْرى الصَّحِيح وَيقدر فِي الْيَاء الْحَرَكَة فيحذفها مِنْهَا فَتبقى الْيَاء سَاكِنة للجزم.
  • وقد أُكّد ما ذهب إليه ابن كثير في كتابي شرح التصريح وشرح شذور الذهب حيث خُرّجت قراءة “من يتقي ويصبر” على إجراء المعتل مجرى الصحيح، فجزم “يتقي” كان بحذف الحركة المقدرة؛ ولم يستتبع حذفها حذف حرف العلة. وهي لغة لبعض العرب حيث يراعي الحركة المقدرة، فيحذفها للجازم، كما يحذف الملفوظة.
  • وفي شرح شذور الذهب خُرجت هذه القراءة وفق ما جاء في التسهيل على أنه تقدير جزم المعتل في سعة الكلام.
  • هذه اللغة واردة في الشعر العربي كما في شواهد سيبويه. وكالبيت التالي: قال لها من تحتها وما استوى … هزي إليك الجذع يجنيك الجنى”

بقي أن نذكر أن هذه اللغة قد وردت في لغة الإمام الشافعي التي تعتبر حجة، إذ قد وردت في رسالة الإمام الشافعي ما يقارب السبع عشرة مرة، حيث ورد فيها المضارع المجزوم بصورة المرفوع، ومنها بإثبات حرف العلة عند الجزم؛ نذكر منها الفقرات التالية:

  • الَّتِي لَمْ تُصَلِّي مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ .(1/ 259)
  • فاستدللنا على أنها لم ترضى. (1/ 311)
  • ” لاَ يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ بِصَلاَتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا ” .(1/ 317)
  • ولو صلى لم يؤدي (1/ 320)
  • لم تعْدُوا العرايا أن تكون رخصة. (1/ 334)
  • إنما المختلِف ما لم يُمْضَى إلا بسقوط غيره. (1/ 342)
  • ولمْ يُسَوِّي اللهُ بينهما. (1/ 363)
  • إن لم يعفو اللهُ . (1/ 365)
  • ومَنْ أرَى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَى. (1/ 395)
  • وإن لم يمضي. (1/ 423)
  • لم يسمِّي مجهولاً ولا مرغوباً. (1/ 463)
  • فلما لم يُحكَا أن رسول الله سأل عن الجنين. (1/ 552)

غير أنها هنا في لغة الشافعي لها تخريجان: الأول ما ذكرناه من إجراء المعتل مُجرى الصحيح، والثاني: إهمال حرف الجزم “لم” وحمله على “لا” أو “ما” والتي هي أيضا لغة من لغات العرب. وسواء أخذنا بالتخريج الأول أو الثاني، فإن ورود المضارع مجزوما بإثبات حرف العلة في لغة الإمام الشافعي، لهو أيضا دليل على صحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام أعلاه. بحيث لا يمكن لأحد ان يعترض على ما جاء في فقرات المسيح الموعود عليه السلام.

وبناء على كل هذا، ثبت أن ما ظُن أنه رفع للفعل المضارع المجزوم في لغة المسيح الموعود عليه السلام، ليس هو رفع في الحقيقة بل جزم، يكون فيه المضارع المعتل مجزوما مع إثبات حرف العلة وبحذف الحركة المقدرة عليه. وما هذا إلا لغة من لغات العرب تنسب إلى بني عبس وبني حنيفة وتعرف بإجراء المعتل مجرى الصحيح. ويشهد على صحة هذه اللغة ورودها في القراءات القرآنية المختلفة وإقرار كبار النحاة بها وبصحتها.

وكل ما ذكرناه آنفا ينطبق أيضا على فقرة أخرى من كلام المسيح الموعود عليه السلام والتي زادها المعارضون في اعتراضاتهم لاحقا، وهي: فليُفْتِي المفتون (الهدى والتبصرة، ص 70). حيث جاء فيها الفعل (يفتي) مجزوما بلام الأمر دون حذف حرف العلة إجراء له مجرى الصحيح السالم على لغة من لغات العرب.

وثبت بذلك أن رفع المضارع المجزوم في لغته عليه السلام ما هي إلا نكتة أدبية ومظهر من مظاهر الإعجاز في لغته عليه السلام، جاءت تحقيقا لقوله عليه السلام: ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين.كما جاءت تحقيقا لقوله عليه السلام بأن الله تعالى علمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة.