المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..16

وردت في كتابات المسيح الموعود عليه السلام الفقرات التالية:

وينصرهم في المجاهدات والرياضات الموجبة لظهور المناسبات التي بينهم وبين ما يصلون إليه من النفوس كنفس العرش والعقول المجردة إلى “أن يصلون” إلى المبدأ الأول وعلّة العلل (كرامات الصادقين )

بل أعلّمكم رُقْيتي، “لكيلا تضطربون” عند غيبتي (نور الحق )

ونرى في هذه الفقرات أن الفعلين المضارعين “يَصِلون” و”تضطربون” قد جاءا في صيغة الرفع، حيث ثبتت فيهما النون كعلامة للرفع لأنهما من الأفعال الخمسة، هذا رغم أن الفعلين قد سُبقا بحرفي النصب “أن المصدرية” و “كي ” على التوالي، واللذين ينصبان الفعل المضارع بعلامة حذف النون إذا كان هذا الفعل من الأفعال الخمسة. وللناظر في كل هذا أن يظن لأول وهلة أن خطأ أو سهوا قد وقع في هذه الفقرات من قبل المسيح الموعود عليه السلام مقارنة بقواعد النحو المعروفة لنا في يومنا هذا.

إلا أنه بتفحص الأمر يتضح لنا أنه لم يقع أي خطأ فيهما كما سنبينه وفق التفصيل التالي:

بالنسبة للعبارة الأوى “أن يَصلون” فإن صحتها تثبت وفق لغة من لغات العرب أُهملت فيها “أنْ المصدية” فلم تنصب الفعل المضارع حملا لها على ” ما المصدرية” كما تقر به النصوص التالية:

جاء في كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 915) ما يلي:

من ملح كَلَامهم تقارض اللَّفْظَيْنِ فِي الْأَحْكَام

وَلذَلِك أمثله

أَحدهَا ….وَالثَّانِي إِعْطَاء أَن المصدرية حكم مَا المصدرية فِي الإهمال كَقَوْلِه

أَن تقرأان على أَسمَاء ويحكما … مني السَّلَام وَألا تشعرا أحدا

الشَّاهِد فِي أَن الأولى وَلَيْسَت مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة بِدَلِيل أَن المعطوفة عَلَيْهَا وإعمال مَا حملا على أَن كَمَا رُوِيَ من قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا تَكُونُوا يُولى عَلَيْكُم ذكره ابْن الْحَاجِب وَالْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَة كَمَا تَكُونُونَ..” (إ.ه)

وجاء في الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (1/ 319)

وقرئ: “لِمَنْ أَرَاد أن يتمُّ الرضاعة” برفع “يتم” وخرجه قوم على أن الأصل: “يتموا الرضاعة” فحذفت الواو اجتزاء بالضمة عنها، وخرجها قوم على أن “أن” المصدرية في “أن يتم” مهملة غير عاملة النصب حملًا على “ما” المصدرية أختها نظير قول الشاعر:

أن تقرآن على أسماء ويحكما … مني السلام، وألا تشعرا أحدًا” (إ.ه)

ويؤكد كل هذا النحو الوافي (4/ 284) بقوله عن أن المصدرية:

أنّ بعض القبائل العربية يهملها؛ فلا ينصب بها المضارع، برغم استيفائها شروط نصبه؛ كقراءة من قرأ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} برفع المضارع: “يتم” على اعتبار “أن” مصدرية مهملة. والأنسب اليوم ترك هذه اللغة لأهلها، والاقتصار على الإعمال؛ حرصا على الإبانة، وبعدا على الإلباس.

فثبت من كل هذا أن إهمال أن المصدرية وعدم نصبها للمضارع حملا لها على أختها “ما المصدرية ” في الإهمال، لهي لغة من لغات العرب يشهد عليها القراءات القرآنية والروايات الحديثية وأقرت بها أمهات المصادر النحوية. وبناء على هذا تُحمل الفقرة الأولى من فقرات المسيح الموعود عليه السلام والتي ورد فيها الفعل المضارع مرفوعا بعد أن المصدرية، وهي ” أن يَصِلون” باعتبار أن المصدرية مهملة وغير ناصبة حملا لها على ما المصدرية المهملة.

وأما بالنسبة للفقرة الثانية من كلام المسيح الموعود عليه السلام “ لكيلا تضطربون” فالحق أنني لم أجد دليلا أو تخريجا لإهمال “كي” سوى دليل وتخريج عقلي لها مبني على ما أثبتناه من إمكانية إهمال أن المصدرية، سنبين هذا الدليل بعد ذكر النصوص التي تؤكده، وهي كما يلي:

جاء في كتاب همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 368):

كي

(ص) كي إِن كَانَت الموصولة فالنصب بهَا عِنْد الْجُمْهُور أَو الجارة فبأن مضمرة …وَأنكر الكوفية كَونهَا جَارة وَقوم كَونهَا ناصبة …. (ش) الثَّالِث من نواصب الْمُضَارع كي وَمذهب سِيبَوَيْهٍ والأكثرين أَنَّهَا حرف مُشْتَرك فَتَارَة تكون حرف جر بِمَعْنى اللَّام فتفهم الْعلَّة وَتارَة تكون حرفا تنصب الْمُضَارع بعده وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فمذهب سِيبَوَيْهٍ أَنَّهَا تنصب بِنَفسِهَا وَمذهب الْخَلِيل والأخفش أَن (أَن) مضمرة بعْدهَا وَذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّة بِالْفِعْلِ فَلَا تكون جَارة فِي الِاسْم وَقيل إِنَّهَا مُخْتَصَّة بِالِاسْمِ فَلَا تكون ناصبة للْفِعْل….وَيدل أَيْضا على أَنَّهَا جَارة دُخُولهَا على (مَا) المصدرية كَقَوْلِه: 1003 –

(يُراد الْفَتى كَيْما يَضُرُّ ويَنْفَعُ … )

فَرفع الْفِعْل على معني يُرَاد الفتي للضر والنفع وَأما جِئْت كي أتعلم فَيحمل عِنْدهم أَن تكون الناصبة بِنَفسِهَا إِذْ قد ثَبت أَنَّهَا تنصب بِنَفسِهَا فَتكون بمعني أَن وَاللَّام الْمُقْتَضِيَة للتَّعْلِيل محذوفة كَمَا تحذف فِي جِئْت أَن تعلم وَيحْتَمل عِنْدهم أَن تكون الجارة وَتَكون أَن مضمرة بعْدهَا كَمَا أضمرت بعد غَيرهَا من الْحُرُوف ….

وَهِي إِذا كَانَت ناصبة لَا يفهم مِنْهَا السَّبَبِيَّة لِأَنَّهَا مَعَ الْفِعْل بعْدهَا بِتَأْوِيل الْمصدر كَأَن ….وَدخُول اللَّام على الناصبة لكَونهَا مَوْصُولَة كَأَن وَلذَلِك شبه سِيبَوَيْهٍ إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى” (إ.ه)

وجاء في النحو الوافي: (1/ 410)

وهي (كي) مثل: “أن” المصدرية عملا ومعنى، ولكن لا بد أن يسبقها لام الجر لفظا وتقديرا “…(إ.ه)

أما الدليل العقلي بناء على هذه النصوص فهو:

– لا بد من الأخذ بعين الاعتبار اختلاف النحويين في “كي” أهي مختصة بالأسماء أم الأفعال، فهناك من اعتبرها ناصبة بنفسها لاختصاصها بالأفعال، وهناك من قال أنها حرف جرّمختصة بالأسماء ولا تنصب الفعل، أي لا تنصب الفعل بنفسها بل بأن مضمرة بعدها.

– من الممكن كفّها عن العمل في نصب المضارع إذا اتصلت بها ما المصدرية فتصبح “كيما”، والذي هو ليس كف عن العمل في الحقيقة بل إثبات على أنها في الأصل حرف جر ( وفق رأي بعض النحاة) لإمكانية دخولها على ما المصدرية .

– اذا ما اعتُبرت ناصبة أي مختصة بالأفعال أو مشتركة للأفعال والأسماء، فنصبها بنفسها يكون على معنى أن المصدرية نفسها، وذلك بتأويل مصدر منسبك منها وفعلها. لذلك شبّه سيبويه كي الناصبة المصدرية بأن المصدرية، وأقر النحو الوافي بأنهما متشابهتان معنى وعملا.

– بناء على هذا فنحن مع كي أمام احتمالين: الأول أن تكون ناصبة بنفسها وهي في هذه الحال شبيهة بأن المصدرية عملا ومعنى. والثاني: اعتبارها حرف جر وفي هذه الحال يكون نصبها للمضارع بأن المصدرية المضمرة. وعليه فإن عملها في المضارع إما لشبهها بأن المصدرية أو بعمل أن المصدرية المضمرة.

– فإذا كان عمل كي متعلق وشبيه بعمل أنْ المصدرية ، وكان قد ثبت إهمال أن المصدرية وفق لغة من لغات العرب كما سبق ذكره، فليس من البعيد أن يصح إهمال “كي” في نصبها للمضارع بناء على إهمال أنْ. ليكون هذا الإهمال “لكي” أيضا لغة من لغات العرب التي لم تصلنا ولم تنقلها إلينا الكتب ولم نتوثق منها، والله أعلم في ذلك.

– وهذا الدليل العقلي مبني على فلسفة المسيح الموعود في قواعد الصرف والنحو والتي قال فيها ما يلي: “ليس مذهبي أن هؤلاء الناس (أي: علماء النحو) معصومون من الخطأ تماما في اختراعهم القواعد، وأن نظرهم وصل إلى أساليب كلام الله الدقيقة والعميقة لدرجة أُغلق بعدها باب البحث والتحرِّي كليا.” (مناظرة دلهي، الخزائن الروحانية مجلد 4) وقوله عليه السلام: “ولم يدّع أحد من علماء النحو إلى اليوم أنهم قد أوصلوا قواعد الصرف والنحو كمالها، ويستحيل أن يطرأ أمر جديد أو العثور على نقص في تحقيقهم “. فبناء على قول حضرته هذا ليس من البعيد أن يكون إهمال “كي” بناء على دليلنا العقلي لغة من لغات العرب التي لم يتوصل إليها النحاة أنفسهم.

– إذ لا بدّ لنا من التنبيه إلى ما ذكرناه في المقالات السابقة، أنه ليس هدفنا في هذه الأبحاث أن نثبت كل شيء بشكل قطعي الدلالة، بل ما يهمنا أن نثبته هو إمكانية وقوع عبارات المسيح الموعود عليه السلام التي يُظن وقوع السهو أو الخطأ فيها، تحت لغة من لغات العرب، سواء كانت هذه الإمكانية بثبوت قطعي أو غير قطعي. إذ أنه طالما كانت الإمكانية واردة وممكنة بدليل نقلي أو عقلي بأن تكون هذه العبارات مندرجة تحت لغة من لغات العرب، فلا بدّ لنا أن نسلّم بصحة هذه العبارات أو بإمكانية صحتها، ولا يحق لنا ولا لأحد أن يحكم عليها بالخطأ أو السهو، فمن نحن؟ ومن سيبويه؟ ومن المبرد؟ ومن الفراء؟ ومن كل هؤلاء ليحكموا على لغة نبي من أنبياء الله بالخطأ أو السهو، وفق علمهم الذي اختلفوا فيه كثيرا، والذي لم يكتمل بشواهد عديدة على ذلك.!؟

النتيجة:

ثبت بشكل قطعي أن إهمال أنْ المصدرية في نصب المضارع لغة من لغات العرب، وثبت بناء عليها بشكل قطعي صحة عبارة المسيح الموعود عليه السلام “أن يَصِلون” والتي ارتفع بها الفعل المضارع على إهمال “أن” وفق هذه اللغة.

ثبتت إمكانية إهمال “كي” في نصب المضارع بدليل عقلي، نظرا لكون عملها متعلق بعمل أن المصدرية قابلة الإهمال، وبناء عليه ثبتت إمكانية صحة عبارة المسيح الموعود عليه السلام “لكيلا تضطربون” كلغة عربية لم نستطع التوثق منها بشكلي قطعي، ليفوّض أمرُها لعلم الله تعالى دون القطع في تخطيئها أو إدراجها حتى في عداد السهو، بل لا بدّ أن تبقى العبارة على ما هي عليه لإمكانية صحتها وإن كانت هذه الإمكانية ضعيفة أو ضئيلة.

وبإثباتنا هذه اللغات العربية في لغة المسيح الموعود عليه السلام، والتي يشهد على صحتها أو إمكانية صحتها القرآن الكريم والحديث الشريف، يثبت من جديد صدقه عليه السلام وصدق نبوّته ودعواه ومعجزته في تعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية من الله تعالى في ليلة واحدة. إذ ثبت أن ما ظُن أنه رفع للمضارع المنصوب في لغته عليه السلام ما هو إلا نكتة أخرى من النكات الأدبية التي أعطاه الله تعالى إياها وفق قوله عليه السلام: ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين. ليكون الفعل المضارع فيها مرفوعا على إهمال أدوات النصب السابقة له، ولا خطأ ولا سهو في ذلك.