المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية .. 63

نكتة رفع المضارع في جواب الطلب وجواب الشرط ..2

الاعتراض:

قيل بخطأ المسيح الموعود عليه السلام في العبارات التالية

  • أسلمي ((تسلمين)) (التبليغ، ص 87).

وموضع الخطأ فيما أشير إليه بين الأقواس المزدوجة، حيث ورد فيها الفعل المضارع مرفوعا -أو كأنه مرفوع وهو ليس كذلك-، وذلك لثبوت النون في (تسلمين) وحقها أن تحذف لكون (تسلمين) من الأفعال الخمسة مجزوما في جواب الطلب.

الردّ:

التوجيه الثاني:

لقد قمنا في المقال السابق بتوجيه هذه العبارة وفق لغة للعرب تُثبت النون في الأفعال الخمسة في حالة الجزم، كما أقرّ بذلك ابن جني وابن مالك.

وأما التوجيه الثاني لها فهو كما يلي:

من الممكن رفع الفعل المضارع (تسلمين) في هذه العبارة ليس على اعتباره جوابا للطلب، بل على اعتبار الجملة استئنافية بتقدير ( أسلمي فأنتِ تسلمين)، فتثبت النون فيه كعلامة للرفع وليس الجزم.

فمن المعلوم أن من شروط جزم المضارع في جواب الطلب أن يُقصَد منه الجزاء والنتيجة للطلب الذي سبقه. وهذا الشرط قد يسقط بتغير قصد ونيّة المتكلم أو الكاتب، من جعله جزاء مترتبا عن الطلب إلى استئناف بعده.

ويؤكد كل هذا النحو الوافي في سياق حديثه عن جزم المضارع ورفعه في جواب الطلب حيث قال:

ويشترط لجزم المضارع بعد سقوطها (يقصد فاء السببية التي تنصب المضارع) -على الوجه السالف- ثلاثة شروط مجتمعة:

أولها: أن تكون مسبوقة بنوع من أنواع الطلب المحض أو ملحقاته ..

ثانيها: أن تكون الجملة المضارعية بعدها جوابا وجزاء للطلب الذي قبلها “أي: مسبَّبة عنه: كتسبب جزاء الشرط على فعل الشرط”.

ثالثها: أن يستقيم المعنى بحذف “لا” الناهية ووقوع “إن” الشرطية وبعدها لا النافية محل لا الناهية التي حذفت.

…..

فإن فقد شرط، أو أكثر، لم يصح الجزم، ووجب رفع المضارع وإعرابه على حسب ما يقتضيه السياق ويستلزمه المعنى.” {النحو الوافي (4/ 387- 389) }

ويتابع في هذا السياق ويقول:

وعند فقد الشرط الثاني -“بسبب أن المضارع بعد الفاء المختفية ليس مرادا منه أن يكون جوابا للطلب ولا جزاء، وأن المعنى على غيرهما”- لا يصح جزمه، وإنما يجب رفعه؛ مراعاة لاعتبار معنوي أو أكثر مما يقتضي رفعه. ومن تلك الاعتبارات المعنوية.

1- رفعه على اعتبار الجملة المضارعية استئنافية؛ نحو أتقيم عندنا اليوم؟ يسافرُ غدا زملاؤك. ونحو: قم للصلاة؛ يغفرُ الله لنا ولك.” {النحو الوافي (4/ 390- 391) }

وفي بعض الأحيان يصلح الجزم والرفع معا في الجملة نفسها، بناء على القصد والمعنى المنوي في الكلام، وجاء في الهامش تمثيلا لذلك بالأمثلة التالية من القرآن الكريم وقراءاته:

ويصلح لأكثر من حالة في مثل قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً، يَرِثُنِي} وقوله تعالى لموسى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا} وقوله تعالى له: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} .

وكذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} فيصحّ في المضارع: “تطهر” أن يكون مجزوما في جواب الأمر، أو مرفوعا إما على اعتبار جملته مستأنفة، أو صفة للنكرة المحضة التي قبلها أو حالا من فاعل فعل الأمر: “خذ” … {النحو الوافي (4/ 392)}

فالآيات القرآنية المذكورة آنفا في أمثلة النحو الوافي، قد قُرئت نفسها في القراءات المختلفة برفع وجزم المضارع الواقع بعد الطلب؛ مما يؤكد جواز الوجهين بناء على القصد والمعنى، حيث جاء:

قرأ أبو عمرو والكسائي {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثْنِي وَيَرِثْ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [6] بالجزم وقرأ الباقون {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} بالرفع.{ المبسوط في القراءات العشر (ص: 287)}

وجاء أيضا:

وَاخْتلفُوا فى تَشْدِيد التَّاء وتخفيفها من قَوْله {وألق مَا فِي يَمِينك تلقف}

فَقَرَأَ ابْن عَامر وَحده {تلقفُ} بِرَفْع الْفَاء وَتَشْديد الْقَاف

وروى حَفْص عَن عَاصِم {تلقفْ} بتسكين اللَّام وَتَخْفِيف الْقَاف والجزم. {السبعة في القراءات (ص: 420)}

ويدعم كل هذا ما جاء في كتاب ضياء السالك كما يلي:

وإذا سقطت الفاء بعد الطلب وقصد معنى الجزاء، جزم الفعل جوابًا لشرط مقدر، لا للطلب، لتضمنه معنى الشرط، خلافًا لزاعمي ذلك، نحو: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} ، بخلاف نحو: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا, يَرِثُنِي} في قراءة الرفع؛ فإنه قدّره صفة لوليا، لا جوابًا لهب؛ كما قدره من جزم. {ضياء السالك إلى أوضح المسالك (4/ 27- 26) }

ولا يقتصر الأمر على القرآن الكريم، بل نجد نظائر هذا الرفع في الروايات الحديثية في صحيح البخاري، وصدّق عليها ابن مالك في شواهد التوضيح حيث قال:

وقول بعض الصحابة رضي الله عنهم (فادعُ الله يحبسْها) (1205).

…”ويجوز في “فادع الله يحبسها” الجزم على جعله جوابًا للدعاء؛ لأن المعنى: إنْ تدعه يحبسْها. وهو أجود الأوجه.

ويجوز الرفع على الاستئناف، كأنه قال: ادع الله فهو يحبسُها.”

في الهامش:(1205) صحيح البخاري 2/ 36. وردت الرواية برفع “يحبسها” وجزمه. فقط. {شواهد التوضيح 234- 235}

وبناء على كل هذا نرى ما يلي:

  • جزم المضارع في جواب الطلب يُشترط له أن يُقصد به معنى الجواب والجزاء للطلب المذكور قبله.
  • قد يَسقط هذا الشرط بتغير القصد المنوي في الكلام من الجواب إلى الاستئناف، فلا يُجزم المضارع الواقع في موضع جواب الطلب بل يرتفع على الاستئناف.
  • القضية متعلقة بنية الكاتب وما يقصده وينويه في نفسه.
  • لذا ففي الكثير من الحالات يصح الوجهين معا لإمكانية كون المضارع جوابا للطلب أو استئنافا في نفس الوقت.
  • من هذه الأمثلة التي يجوز بها الوجهين هو بعض الآيات القرآنية التي جاءت بالرفع والجزم في القراءات المختلفة مثل: : {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي}، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا} ، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}.
  • مثل هذا الرفع للمضارع في موضع جواب الطلب وارد كذلك في الروايات الحديثية في صحيح البخاري في قول الصحابة: ادع الله يحبسُها. ووجّهها ابن مالك على أنها رفع على الاستئناف بتقدير : ادع الله فهو يحبسُها.
  • وبناء على توجيه ابن مالك هذا وكل ما ذكرناه يكون أحد توجيهات عبارة المسيح الموعود عليه السلام حيث قال ( أسلمي تسلمين) بأنه رفع على الاستئناف بتقدير : أسلمي فأنتِ تسلمين.
  • ولا شك أن هذا الرفع والاستئناف الذي ذهب إليه المسيح الموعود عليه السلام لم يأت عابثا، بل لا بدّ تكمن وراءه مقاصد بلاغية لها أثرها المعنوي على هذه الجملة؛ نظرا لكون الاستئناف يجعل نوعا من التراخي بين جزأي الجملة فإما يقطعه كلية معنى وإعرابا وهو الاستئناف غير البياني، وإما يقطعه إعرابا فقط مع بقاء الربط المعنوي بين الجزأين وهذا ما يعرف بالاستئناف البياني.
  • ويثبت من كل هذا صحة هذه العبارة وأنها لغة عربية صحيحة وفصيحة نزل بها الوحي القرآني وتكلم بها الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.

وبذلك يكون لغة إثبات النون في الأفعال الخمسة في حالة الجزم كلغة من لغات العرب، وكذلك لغة رفع المضارع الواقع في موضع جواب الطلب على الاستئناف؛ من المظاهر الإعجازية الجديدة في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية، وتجلٍّ آخر لمعجزة تعلمه اللغة العربية من الله تعالى. فاعتبروا يا أولي الأبصار!!!