المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود العربية ..72

نكتة نائب فاعل الفعل اللازم المبني للمجهول

تضمين الفعل اللازم المبني للمجهول معنى فعلٍ متعدٍّ

الاعتراض:

يقول الاعتراض ما يلي:

الفعل المبني للمجهول من الفعل اللازم ليس له نائب فاعل، لأن فعله لم يكن متعديا لمفعول. لكنّ المسيح الموعود عليه السلام قد جعل له نائب فاعل، وذلك في الجمل التالية:

  1. أم حسبتم أن ((تُغفَروا)) ويرضى عنكم ربكم ولما يجَدْكم ساعين لمرضاته والطائعين كالمخلصين (نور الحق، ص 15).
  2. وأوجب عليهم حسن الظن ليجتنبوا طرق الهلاك ويُعصَموا، وفتح أبواب التوبة ليُرحَموا ((ويُغفَروا)) (سر الخلافة، ص 104).
  3. وتظنّون أنكم ((تُغفَرون)) بمجاورة الأتقياء (حجة الله، ص 102).
  4. الذين إذا استغفروا متندمين ((فيُغفرون)) (التبليغ، ص 75).
  5. وأنعَم عليه كما ((يُنعَم)) المرسلون؟ (الاستفتاء، ص 20).

فوفق زعم المعارضين فإن صيَغ البناء للمجهول للأفعال التالية خاطئة: تُغفَروا / يُغفَروا/ تُغفَرون/ يُغفرون/ يُنعَم. وذلك لأنها أفعال لازمة، ولا بدّ أن تتعدى بحرف الجر ّلتكون كما يلي: يُغفر لكم/ يُغفر لهم/ يُغفر لكم / فيُغفر لهم/ يُنعَم على المرسلين.

الردّ:

التوجيه الأول: على أسلوب التضمين في اللغة

كما نرى من الاعتراض فإن الحديث بالذات عن فعلين وهما الفعل (غفر) والفعل (أنعم)، والتي تتعدى بأحرف الجر (اللام) و (على)، فنقول (غفر الله له) و (أنعم عليه). إلا أننا نرى بأن المسيح الموعود عليه السلام، قد عاملها معاملة الفعل المتعدي للمفعول، فجعل لها مفعولا والذي تحوّل إلى نائب فاعل عند البناء للمجهول.

وهذا الاعتراض شبيه بالاعتراض السابق الذي رددنا عليه بالتفصيل والشرح الطويل، والذي يقول بخلط المسيح الموعود بين الفعل اللازم والمتعدي، أي أنه يعدّي اللازم ويُلزم المتعدي. وقلنا آنذاك أن كل هذا يندرج تحت أسلوب “التضمين” ( يُنظر: المظاهر الإعجازية 26. على الرابط هنا).

وفي الحقيقة فإن هذا الاعتراض الذي نحن في صدد الردّ عليه يندرج تحت ذاك الاعتراض وهو ذاته، إذ مفهومه هو أن المسيح الموعود عليه السلام قد عدّى الفعلين (غفر) و(أنعم) بدلا من جعلهما لازمين. فكأنه قال في المبني للمعلوم: (يَغفِرهم/ يَغفرِكم) و (يُنعِم المرسلين)، وجعل المفعول عند البناء للمجهول نائب فاعل ( يُغفَرون/ تُغفَرون) و (يُنعَم المرسلون).

ولذا فإن الردّ على هذا الاعتراض هو نفس ما قلناه في الرد على الاعتراض الأصليّ، وهو أنه لا خطأ في كل هذا، بل هذا ما يُعرف بأسلوب “التضمين” في اللغة؛ والذي يعني كما يدل عليه معناه، تضمين لفظ معنى لفظ آخر وإجراؤه مجراه في الحكم. ومن هنا، فإن التضمين هو أحد الأساليب المتّبعة لتعدية الفعل اللازم بتضمينه معنى فعل متعدٍّ يناسبه في المعنى والظرف، وكذلك فهو أسلوب للزوم الفعل المتعدي بإشرابه معنى فعل لازم يناسبه في المعنى والظرف. وقد اشترطوا لكل هذا وجود المناسبة والقرينة بين الفعلين وعدم وقوع اللَّبس.

ومن أهم ما قلناه في الردّ الأول عن أسلوب التضمين ما يلي:

– فَائِدَة التَّضْمِين هِيَ أَن تُؤدِّي كلمة مؤدى كَلِمَتَيْنِ، فالكلمتان معقودتان مَعًا قصدا وتبعا.

– أنه “قياسي” كما أقرّ به مجمع اللغة العربي في القاهرة وفق رأي كبار النحاة. وهذا يعني أنه يجوز إجراؤه على ما لم يسمع من العرب وفق ما سُمع عنهم.

– التضمين هو كلام البلغاء وركن من أركان البيان، وأسلوب العارفين بأسرار العربية ودقائقها، والبلغاء يستعملونه في كلامهم بلا حرج.

– وأهم من كل هذا أنه أسلوب قرآنيّ في قمة الروعة والبلاغة والفصاحة، ومن الأمثلة القرآنية التي تشابه الأمثلة المعترض عليها من كتابات المسيح الموعود عليه السلام، من تعدية الفعل اللازم، والتي نحن بصدد الرد عليها، ما يلي:

– {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوه}، أي: فلن تُحرَموه، فعُدّي إلى اثنين. (الفعل كفر لازم، عُدّي إلى مفعولين على صيغة المبني للمجهول، فاحتمل نائب فاعل ومفعولا به). وهذا المثال يقوّض اعتراض المعترضين، حيث يطابق ويشابه الأمثلة التي اعترضوا عليها في تضمين الفعل اللازم المبني للمجهول وتعديته.

لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم َ(الأَعراف 17) وفيه: ضمّنَ لأقعدنّ معنى لألزمنّ وهو فعل متعد، فنصب صراطك على المفعول به.

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه ( البقرة 131) تضمن (سفه) معنى (جهل)، وهو فعل متعد بنفسه ولذلك تعدى (سفه) إلى مفعوله. أي أن (سفه) فعل لازم تمّت تعديته بتضمينه معنى (جهل).

– {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، أي: لا تنووه، فعُدي الفعل (تعزموا) بنفسه لا بـ “على”، (جعل الفعل اللازم :”تعزموا” متعديا، رغم كونه لازما يتعدى بحرف الجر ” على”.

ومن هنا وبناء على كل هذا فيكون المسيح الموعود عليه السلام في الأمثلة أعلاه المعترَض عليها، قد ضمّن الفعل (غفر) معنى الفعل (رحم) أو (حفظ) وعدّاه مثلها؛ فتضمن الفعل المعنيين معا. وضمّن الفعل (أنعم) معنى الفعل (أكرم) أو (نعَّم) وعداه كمثلها؛ فتضمن الفعل هذه المعاني سوية. كما في الآية الكريمة:{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} (الفجر 16). ليكون معنى الجمل والعبارات كما يلي:

  • أم حسبتم أن ((تُغفَروا )) ويرضى عنكم ربكم ولما يجَدْكم ساعين لمرضاته والطائعين كالمخلصين (نور الحق، ص 15). ( أي أن تُرحموا، فتضمن الفعل معنى الرحمة والمغفرة معا)
  • وأوجب عليهم حسن الظن ليجتنبوا طرق الهلاك ويُعصَموا، وفتح أبواب التوبة ليُرحَموا ((ويُغفَروا)) (سر الخلافة، ص 104). ( أي يُرحموا ويُحفظوا، فتضمن الفعل معنى المغفرة والرحمة أو الحفظ في آن واحد)
  • وتظنّون أنكم ((تُغفَرون)) بمجاورة الأتقياء (حجة الله، ص 102).( أي تُرحمون فتضمّن معنى الرحمة والمغفرة)
  • الذين إذا استغفروا متندمين ((فيُغفرون)) (التبليغ، ص 75). (أي يرحمون، فتضمن معنى الرحمة والمغفرة معا)
  • وأنعَم عليه كما ((يُنعَم)) المرسلون؟ (الاستفتاء، ص 20).( أي يُكرم ويُنعّم المرسلون، فتضمن الفعل هذه المعاني أيضا بالإضافة إلى الإنعام)

التوجيه الثاني: جواز تعدية هذه الأفعال مباشرة

جواز تعدية هذه الأفعال بنفسها دون أي أداة أو صلة، أي دون حرف جر؛ حيث جاء في لسان العرب ما يلي:

الفعل غفر

وأَصل الغَفْرِ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ. غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ أَي سَتَرَهَا؛….

وَقَدْ غَفَرَه يَغْفِرُه غَفراً: سَتَرَهُ. وَكُلُّ شَيْءٍ سَتَرْتَهُ، فَقَدْ غَفَرْته…

والغُفْرةُ: مَا يغطَّى بِهِ الشَّيْءُ. وغَفَرَ الأَمْرَ بِغُفْرته وغَفيرتِه: أَصلحه بِمَا يَنْبَغِي أَن يَصْلَح بِهِ. يُقَالُ: اغْفِروا هَذَا الأَمرَ بِغُفْرتِه وغَفيرتِه أَي أَصْلحوه بِمَا يَنْبَغِي أَن يُصْلَح…” (لسان العرب)

إذن، فإن أصل معنى الغفر هو الستر. ومن هذا المنطلق يحق للفعل (غفر) أن يتعدى بنفسه حين يكون معناه (ستر)، فيصح بناؤه للمجهول وتعديته بجعل المفعول نائب فاعل له. وحينها يصح القول تُغفَرون/ يُغفَرون بمعنى تُستَرون/ يُستَرون، دون اللجوء إلى التضمين في الكلام. ولا عجب أن يكون هذا هو قصد المسيح الموعود عليه السلام، إذ نرى أن السياق يدعم هذا المعنى، فليس القصد فقط غفران الذنوب بل ستر من يتحدث عنهم.

وجاء في لسان العرب عن الفعل أنعم ما يلي:

وأَمَّا أَنْعَمَ اللهُ بِكَ عَيْناً فَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ لأَن الْهَمْزَةَ كَافِيَةٌ فِي التَّعْدِيَةِ، تَقُولُ: نَعِمَ زيدٌ عَيْنًا وأَنْعَمَه اللهُ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مِنَ أَنْعَمَ إِذَا دَخَلَ فِي النَّعيم فيُعدَّى بِالْبَاءِ، … وَنَزَلُوا مَنْزِلًا يَنْعِمُهم ويَنْعَمُهم بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ، أَيْ يُقِرُّ أَعْيُنَهم ويَحْمَدونه، وَزَادَ اللِّحْيَانِيُّ: ويَنْعُمُهم عَيْنًا، وَزَادَ الأَزهري: ويُنْعمُهم، وَقَالَ أَربع لُغَاتٍ.” (لسان العرب)

فوفق هذا، يصح أن يتعدى الفعل (أنعم) مباشرة، لنقول (أنعمه الله) بمعنى (أقرّ عينه)، ليصح وفق هذا تعديته في حال البناء للمجهول وجعل نائب فاعل له؛ فيصح القولُ: يُنعَم المرسلون، بمعنى تُقَرّ عينهم.

فأي خطأ بالله عليكم بعد كل هذا في كل هذا!؟؟؟

أقول: إنها الفصاحة والبلاغة في أسمى صورها!!! وإنه الإعجاز في أسمى تجلياته.

للتفصيل عن أسلوب التضمين ( يُنظر: المظاهر الإعجازية 26. على الرابط هنا).