المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية..55

نكتة نصب الفاعل..

الاعتراض:

قيل بأن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في الفقرتين التاليتين:

  • فما لكم لا تقبلون فيصلةً اتفق عليها ((حكمين)) عدلين (نور الحق)
  • ولَلَزم أن يبقى ((بني)) إسرائيل كلهم إلى نزول عيسى – عليه السلام – أحياء سالمين. (حمامة البشرى )

وموضع الخطأ في نصب الفاعل وهو كلمتا (حكمين) و (بني) إذ وجب رفعهما كما يلي: (حكمان) فيرفع بالألف على أنه مثنّى؛ و( بنو) فيرفع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.

الردّ:

لا يمكن لشخص سويّ متّزن العقل أن يدعيَ الخطأ في مثل هاتين الفقرتين؛ في الوقت الذي يقرأ به الفاعلَ مرفوعا في لغة المسيح الموعود عليه السلام مليون مرة. فوجود الفاعل مرفوعا في كل كتابات المسيح الموعود عليه السلام، سوى في فقرتين، يؤكد أنه لا يمكن للمسيح الموعود عليه السلام أن يكون جاهلا بوجوب رفع الفاعل فيهما أيضا، كما هي لغة العرب الرائجة.

بل إن أبعد ما يمكن أن يذهب إليه “مسيء” الظن، هو القول بأن هنالك سهوٌ حاصل إما من الكاتب أو الناقل أو الطابع؛ ولكن أقول مرة أخرى، حذارِ ثم حذار ِمن الحكم والجزم بالسهو على لغة المسيح الموعود عليه السلام قبل التحقق والبحث المستفيض.

فبعد كل ما اكتشفناه وبيّناه من أن الكثير مما ظننّاه سهوا في كلام المسيح الموعود عليه السلام اتضح بأنه ليس سهوا؛ فإن الحكم بالسهو على مثل هذه المواضع بعجالة ودون تحقق قد يندرج تحت الاستخفاف والاستهتار بمكانة المسيح الموعود عليه السلام، وعظمة معجزته في تعلم اللغة العربية من الله تعالى وبتأييد من الوحي الرباني.

وأعود وأكرر، أننا لا بدّ لنا من الاستماتة في تخريج وتوجيه كل ما يُشكل علينا في لغة حضرته العربية؛ وكلُّ ما نجد له توجيها لغويا لا بد من الأخذ به وعدم القول بوجود السهو فيه. بل وأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إننا حتى لو لم نجد تخريجا لغويا، فلا يمكننا بشكل قطعيّ القول بوقوع السهو؛ لأن هنالك بعضا من لغات العرب لم تنقلها إلينا المراجع اللغوية، كاعتبار شبه الجملة اسما للنواسخ مثلا، وهو ما يقرّ به محقق رسالة الشافعي العلامة أحمد شاكر. لذلك أقول لإخوتي الأحمديين، الأحرى بنا أن نفوض أمر مثل هذه الإشكالات التي لا نعثر لها على تخريج لغوي إلى علم الله تعالى، عالم الغيب والشهادة، إذ من الممكن أن نجد لها توجيها في المستقبل، أو قد تكون مندرجة تحت لغة للعرب لم تُنقل إلينا.

كل هذا انطلاقا من قوله عليه السلام:

فلا تستطلعوني طِلْعَ أديبٍ، وما أنا في بلدة الأدب إلا كغريبٍ.” (إعجاز المسيح )

فالمعايير التي يجب أن نحكم بها على المسيح الموعود عليه السلام ولغته، ليست هي تلك التي تُتبع في قواعد اللغة السائدة والرائجة في بلدة الأدب اليوم، بل لا بدّ أن تكون معايير أخرى نابعة من محيط الأدب واللغة الذي لا شاطئ له، حيث تَعلّم منه حضرته أربعين الفا من اللغات العربية وصدّق على ذلك بقوله:

وإني مع ذلك عُلِّمتُ أربعين ألفًا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطةً كاملة في العلوم الأدبية، .. فكمْ مِن مُلح أُعطيتُها، وكم من عذراءَ عُلِّمتُها! …. ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين” (مكتوب أحمد )

فما يهمنا أن تكون لغاته من بين اللغات العربية الصحيحة التي يشهد عليها أئمة اللغة والأدب والمراجع اللغوية. وما دامت لغاته عليه السلام من هذا القبيل؛ زال الخطأ عنها، ولا يمكن القول بوقوع السهوّ فيها.

لذا يقول حضرته عليه السلام إنه أُعطي الكثير من الملح والنكات الأدبية، كما عُلِّم الكثير من العذراوات من الله تعالى، بقوله :كم من عذراء عُلمتها! فما هي هذه العذراوات يا ترى، وما هي الكلمة أو اللغة العذراء يا ترُى!؟

إنها وباختصار اللغات العربية أو الألفاظ العربية التي لم توطأ بعد، أي لم يطأها أحد بعد، ولم تمتد إليها يد بشر أو كاتب أو أديب، بشكل نسبي ّأو مطلق، بمعنى أنه لم يكتبها أو يستعملها أو يَطرقها أديب أو كاتب آخر.

وأقصد بالنسبي والمطلق، ما يتعلق بالزمان والمكان، فقد تكون استعملت في الماضي على قلة، ولكنها اليوم غير مستعملة، فتُعد اليوم عذراء نسبةً إلى هذا الوقت. وقد تكون لم تُنقل إلينا في الكتب العربية، فتكون عذراء على الإطلاق، فلا يَستبعدنَّ أحدٌ أن يكتب المسيح الموعود لغةً عربية لا نجد لها تخريجا في أمهات الكتب العربية؛ إذ يبقى علمها عند الله تعالى، ومن هنا أقول: لا بد من تفويض أمر مثل هذه اللغات إلى علم الله تعالى.

وما نصبُ الفاعل إلا لغة من هذه اللغات ونكتة من هذه النكات وملحة من هذه الملح؛ وعذراء من هذه العذراوات التي تندرج تحت ظاهرة التقارض في النحو أو تقارض الألفاظ؛ التي صدّ ق عليها ابن هشام في كتابه مغني اللبيب عن كتب الأعاريب حيث قال عن هذه الملَح ما يلي:

من مُلح كَلَامهم تقارض اللَّفْظَيْنِ فِي الْأَحْكَام

وَلذَلِك أمثله..

وَالثَّامِن إِعْطَاء الْفَاعِل إِعْرَاب الْمَفْعُول وعكسه عِنْد أَمن اللّبْس كَقَوْلِهِم خرق الثَّوْبُ المسمارَ وَكسر الزّجاجُ الْحجرَ وَقَالَ الشَّاعِر

1197 – (مثل القنافذ هداجون قد بلغت … نَجْرَان أَو بلغت سوءاتِهم هجرُ)

وَسمع أَيْضا نصبهما كَقَوْلِه

1198 – ( … قد سَالم الْحَيَّاتِ مِنْهُ القدما)

وَفِي رِوَايَة من نصب الْحَيَّات وَقيل القدما تَثْنِيَة حذفت نونه للضَّرُورَة كَقَوْلِه

1199 – (هما خطتا إِمَّا إسار ومنة … )

فِيمَن رَوَاهُ بِرَفْع إسار ومنة وَسمع أَيْضا رفعهما كَقَوْلِه

1200 – (إِن من صَاد عقعقا لمشوم … كَيفَ من صَاد عقعقانِ وبومُ)” {مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 915- 918)}

وأكّد كل هذا الدكتور أحمد محمد عبد الله في كتابه ظاهرة التقارض في النحو العربي حيث جاء:

الاقتراض النحوي هو تبادل الأحكام بين كلمتين بحيث تعطي كل كلمة الحكم الذي يختص بها إلى الكلمة الأخرى، سواء كانت هذه الكلمة اسما أم فعلا أم حرفا.” {ظاهرة التقارض في النحو العربي (58/ 235- 234) }

وقال أيضا:

ظاهرة التقارض في اللغة العربية مظهر من مظاهر اتساعها، ولون من ألوان شمولها؛ لأن التوسع شائع في كلام العرب، فإذا كان الترادف والاشتقاق والتضاد والاشتراك والتضمين والمشاكلة الخ.. تمثل أنواع الإحاطة والتنوع في الأسلوب العربي، فإن التقارض يعد واحدا ومن هؤلاء؛ إذ به يستطيع المتكلم أن يقلّب الكلام على وجه عدة، ((وعلى كل حال هو مصيب فيما يذهب إليه))، بشرط أن يكون معه سند من السماع، ووجه من وجوه التوجيه الصحيحة، وهذا يؤكد أن لغتنا العربية مرنة وطيعة وليست جامدة تقف عند لون معين من ألوان التعبير.

فالتقارض يمثل نوعا من أنواع الطرافة والمُلحة في التعبير، وقد تحدث ابن هشام عنه بإيجاز شديد، وألمح عنه بإشارة عجلى في الصفحات الأخيرة من كتابه الذي طبّقت شهرته الآفاق (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب).” {ظاهرة التقارض في النحو العربي (58/ 233)}

وبعد أن ذكر التقارض بين الفاعل والمفعول تماما كما أورده ابن هشام في المغني،

أكّد في الهامش السبب وراء هذا التقارض بين الفاعل والمفعول بقوله:

جرّأهم على ذلك أمن اللبس ووضوح المعنى.” {ظاهرة التقارض في النحو العربي (58/ 247) }

وبناء على كل هذا يتضح:

  • جواز نصب الفاعل باقتراضه هذا الحكم من المفعول وذلك وفق ظاهرة تقارض الأحكام النحوية بين الألفاظ
  • يُشترط لجواز هذا التقارض أمن اللَّبس ووضوح المعنى.
  • هذا الأسلوب من التقارض هو مظهر من مظاهر اتساع وشمول اللغة والتنوع بها ومرونتها، ونوع من أنواع الطرافة والملحة؛ تماما كما صرح المسيح الموعود عليه السلام بأنه عُلم هذه الطرائف والنكات والملح الأدبية.
  • بواسطة هذا الأسلوب يستطيع الكاتب تقليب الكلام وهو على كل حال مصيب وليس مخطئا فيما يذهب إليه.
  • رأينا أمثلة لورود الفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا. وأخرى نُصب فيها الاثنان وأخرى رفع فيها الاثنان.
  • والنتيجة جواز نصب الفاعل عند أمن اللبس وفق هذه القاعدة.

ومن هذا المنطلق ووفق هذه الظاهرة جاء نصب الفاعل في فقرتي المسيح الموعود عليه السلام أعلاه؛ فهو منصوب على هذه اللغة من تقارض الحكم مع المفعول؛ والسبب في ذلك -وهو ما يؤكد صحة قولنا -هو أمن اللبس ووضوح المعنى في كلا الفقرتين؛ إذ لا لَبس أن المنصوب هو الفاعل فلا وجود أصلا لمفعول به في الجملة.

أما إذا أصرّ أحد المتفيهقين على أن هذا سهو أقول : لماذا يا تُرى لم يحدث هذا السهو في نصب الفاعل في مواضع لم يأمن بها اللبس!؟ بل بالذات في مثل هذه المواضع التي أَمِن فيها اللَّبس قد وقع السهو!!!؟؟؟ فأقول مرة أخرى: عدم وقوع هذا النصب في مواضع لم يأمن فيها اللبس، ووقوعه بالذات، وفقط، عند أمن اللبس؛ لهو أكبر دليل على أن الأمر مقصود وليس عبثي، ولا يمكن أن يندرج في عداد السهو. إذ لا هو بسهو ولا هو بخطأ؛ بل هو لغة عربية صحيحة مُلحة من مُلَح الأدب ونكتة من النكات الأدبية وعذراء لم يطأها

ولم يطرقها أحد من قبل.

وبعد كل هذا، هل تريدون إعجازا أكبر من هذا الإعجاز تصديقا للمسيح الموعود عليه السلام ولدعوته ومعجزة اللغة العربية التي مُنحها من الله العلام!؟؟؟