المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..47

نكتة نصب المبتدأ ..

( ملحوظة: من يشقّ عليه قراءة البحث والشواهد كلها، بإمكانه بعد المقدمة أن ينتقل مباشرة إلى النتيجة والتلخيص)


الاعتراض:

قيل بخطأ المسيح الموعود عليه السلام في العبارتين التاليتين:

  • وأما إقامته في مقام عيسى وتسميته باسمه فله ((وجهين)) {حمامة البشرى (2/ 39)}
  • ولك من الورق ((ألفين))، إن كنتَ تُثبتُ فضل الإنجيل بغير المَيْن. {نور الحق (3/ 10)}

وموضع الخطأ وفق زعمهم يكمن في نصب الكلمات (وجهين) و (ألفين)، وحقها أن تُرفع على الابتداء، على اعتبار أنها مبتدأ مؤخر في “كلتا العبارتين”؛ وشبه الجملة من الجار والمجرور (لك) و (له) السابقة لها هي الخبر المقدم، ووجب القول: (فله وجهان) و (ولك من الورق ألفان).

الردّ:

المقدمة:

إنها في الحقيقة من عظيم النكات الأدبية التي علمها الله تعالى للمسيح الموعود عليه السلام!!

فلا نصب لمبتدأ في كل هذا، وذلك لسبب بسيط جدا؛ وهو أنه لا وجود لمبتدأ ولا لخبر في هذه العبارات البتة؛ فليست أشباه الجمل المذكورة آنفا أخبارا مقدمة، ولا ما جاء بعدها مبتدأ مؤخرا.

بل الحقيقة أن الكلمات (ألفين) و (وجهين) هي أسماء منصوبة على أنها مفعول به منصوب لفعل محذوف تدل عليه القرائن السياقية والعقلية والحالية، إن لم تكن اللفظية أيضا.

وهذا يندرج تحت باب ما يسمى ” حذف عامل المفعول به” أو ” نصب المفعول به بفعل محذوف”؛أو وفق سيبويه “النصب بإضمار فعل يقصده المعنى” أو ما يندرج تحت أجمل الأساليب البلاغية المعروفة ” بالحذف” و ” الإيجاز”. وكلها أساليب لغوية نحوية وبلاغية قمة في البلاغة والفصاحة، شائعة وفاشية في كلام العرب المنظوم والمنثور، لا سيما أرقى مستويات البلاغة وهو لغة القرآن الكريم، كما سوف نبينه خلال هذا البحث.

تفصيل البحث والشواهد:

وإليكم ما يقوله النحو الوافي في هذا الشأن “حذف عامل المفعول به”:

حذف عامل المفعول به:

بمناسبة الكلام على حذف المفعول به الواحد أو المتعدد يعرض النحاة إلى حذف عامله جوازًا أو وجوبًا.

  • فيجيزون حذفه إن كان معلومًا بقرينة تدل عليه، مثل؛ ماذا حصدت فتقول: قمحًا: أي: حصدت قمحًا, وماذا صنعت؟ فتجيب: خيرًا. أي: صنعت خيرًا 2….

ب- ويوجبون حذفه في أبواب معينة؛ منها: الاشتغال؛ وقد سبق، ومنها: النداء، ومنها: التحذير والإغراء، ومنها: الاختصاص….، بالشروط المدونة ..ومنها: الأمثال المسموعة عن العرب بالنصب؛ نحو: أحشفا وسوء كيلة؟ وكذلك ما يشبه الأمثال؛ كقوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} ، أي: واعملوا خيرًا لكم. {النحو الوافي (2/ 182- 181)

وفي الهامش يقول النحو الوافي مستشهدا بألفية ابن مالك ما يلي:

وفي حذف العامل الناصب للفضلة يقول ابن مالك:

ويُحذف الناصبها إن علما … وقد يكون حذفه ملتزمًا

أي يجوز حذف ناصب الفضلة “والمراد بها هنا: المفعول به” إن كان الناصب معلومًا بقرينة، وقد يكون الحذف أحيانًا لازمًا لا بد منه. {النحو الوافي (2/ 182)}

وفي التعليق على أبيات ابن مالك الآنفة الذكر جاء في شرح التصريح ما يلي:

ويحذف الناصبُها “إن عُلما” … ….

“كقولك لمن سدد” بالمهملة “سهمًا: “القرطاسَ”، ولمن تأهب لسفر: “مكةَ”، ولمن قال: من أضرب؟ ” بالمضارع “شرَّ الناس”. فالقرطاس: منصوب “بإضمار “تصيب””، ودل عليه المشاهدة، “و” “مكة”: منصوب بإضمار “تريد”، ودل عليه قرينة الحال، “و” “شر الناس”: منصوب بإضمار “اضرب”، ودل عليه قرينة المقال، “وقد يجب ذلك” الحذف، كما أشار إليه الناظم بقوله:

………….. … وقد يكون حذفه ملتزمًا

وذلك “كما” تقدم “في” باب “الاشتغال .. “و” باب “النداء” …”وفي الأمثال” العربية؛ …. “وفيما جرى مجرى الأمثال” في كثرة الاستعمال، وهو كل كلام اشتهر، فبسبب شهرته جرى مجرى المثل، فأعطي حكمه في أنه لا يغير، “نحو: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} ” [النساء: 171] فـ”خيرًا” مفعول بفعل محذوف وجوبًا “أي: وائتوا” خيرًا، ولا يجوز ذكره لما تقدم، وذهب بعضهم، إلى أن “خيرًا” خبر لـ”كان” محذوفة، والتقدير:

“انتهوا يكن خيرًا لكم” وهو تخريج على قلة؛ لأن “كان” لا تحذف مع اسمها ويبقى خبرها كثيرًا إلا بعد “إن” و”لو” الشرطيتين. ” {شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو (1/ 473- 474)}

إذن، يتضح من كل هذا ما يلي:

  • جواز حذف عامل المفعول به وهو الفعل أو الفعل مع فاعله معا .
  • يشترط لهذا الحذف، أن يكون هذا الناصب معلوما بقرينة. والقرائن أنواع: فمنها القرينة اللفظية كأن يُذكر نفس الناصب أو ما يشابهه من قبل؛ أو القرينة الحالية، أو العقلية أو قرينة المشاهدة .

وكل هذا يندرج تحت قاعدة الحذف العامة في النحو، والتي يقول عنها النحو الوافي ما يلي:

عملا بالقاعدة اللغوية التي تبيح عند أمن اللبس حذف ما لا يتأثر المعنى بحذفه..” {النحو الوافي (1/ 635)}

فهذا الحذف لناصب المفعول به جائز عند أمن اللبس وعدم تأثر السياق به.

ولا يقف هذا الجواز عند القواعد النحوية بل يندرج تحت أسلوب الحذف وأسلوب الإيجاز المعروفَين في البلاغة العربية تحت ما يُعرف بعلم المعاني.

فعن (الحذف) جاء في كتاب البلاغة العربية للدكتور بن عيسى با طاهر ما يلي:

الحذف هو اسقاط جزء من الكلام لدليل.

والمحذوف يفهم بالقرينة اللفظية، أو العقلية، أو السياق. وقد عني علماء البلاغة بالحذف ؛ إذ من خصائص العربية الإيجاز والاختصار. { البلاغة العربية 121}

وعن أغراض الحذف ودواعيه يقول الكاتب:

للحذف أهمية كبيرة في البلاغة؛لأن له مَيزتين:

أولاهما: كمال المعنى مع المحذوف من جهة .

ثانيهما: له حكم بيانية وأغراض بلاغية تفهم من هذا الحذف. قال عبد القادر الجرجاني: “هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة ، أزيد للإفادة ، وتجدك انطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن“{ البلاغة العربية 122-123}

وأما عن (الإيجاز) فذكر نفس المصدر ما يلي:

الإيجاز في الاصطلاح: ” هو تأدية المعنى الكثير في لفظ قليل، من غير خلل في الأداء”( نقلا عن تلخيص المفتاح للقزويني)؛ أي  أنه نوع من الاختصار في الألفاظ والعبارات ، مع الدلالة الكاملة على المعنى المراد، ومن غير أن يكون في ذلك أي لبس، أو عدم وضوح. { البلاغة العربية 162}

ويذكر نفس المصدر أن من أنواع الإيجاز هو إيجاز الحذف. فيقول: “وهو الذي يكون بحذف جزء من الكلام الذي يعبَّر به عن المعنى المراد، مع وجود القرينة التي تدل على ذلك المحذوف.

فقد يعرف المحذوف بالقرينة الحالية ، كقوله تعالى: { قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } (الذاريات 26) أي :سلام عليكم. وقد يعرف بالقرينة اللفظية: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا } (النحل 31) أي: أنزل خيرا. وقد يعرف بالقرينة العقلية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (المائدة 4) أي: حرم الله عليكم اكل لحم الميتة والدم ولحم الخنزير. ( البلاغة العربية 163}

ومن بين أنواع الإيجاز بالحذف ذكر نفس المصدر “حذف الكلمة” وقال عنه ما يلي: ” إيجاز الحذف بالكلمة كثير في القرآن الكريم وكلام العرب المنظوم والمنثور،فالمحذوف قد يكون: مبتدأ أو خبرا، أو مضافا أو مضافا إليه، أو صفة أو موصوفا، ((أو فعلا)) أو مفعولا، أو منادى، أو حرفا من حروف النداء، وغير ذلك من الكلمات التي تحذف من الكلام ويُنصب لها القرائن التي تدل عليها. { البلاغة العربية 164}

وفي تبيينه لأنواع القرائن الدالة على المعنى يقول نفس المصدر ما يلي:

ويمكن تعريف القرينة بأنها دليل مساعد من جهة اللغة أو العقل أو الحال، تكون وظيفته تحديد المراد وإزالة الإلتباس.

وتنقسم القرينة إلى نوعين أساسيين: قرينة مقالية وقرينة حالية …

فأما المقالية فتنقسم إلى: قرينة لفظية، وقرينة معنوية..

فالقرينة اللفظية كقولك: رأيت أسدا يخطب على المنبر. فعبارة (يخطب على المنبر) قرينة لفظية دلت على أن المقصود بالأسد الرجل الشجاع.

وأما القرينة المعنوية فتعتمد على العقل في فهم الكلام، مثال ذلك قولك: “محبتك جاءت بي إليك” فمعلوم بالعقل أن المحبة لا تجيئ فدل ذلك على المجاز.

وأما القرينة الحالية، وهي التي سماها عبد القادر “دليل الحال”، فهي التي تعرف من خلال العادة وأحوال الناس في حياتهم، ومن أمثلة ذلك قولك: بنى الأمير قصرا؛ ومعروف بالعادة والعرف أن الأمير لا يقوم بعملية البناء وإنما يقوم به البناؤون، فدل على ذلك المجاز. { البلاغة العربية ص 247}

وقد أكد هذا النوع من (حذف عامل المفعول به) أو (نصب المفعول بفعل محذوف) أكابر النحاة  والمفسرين أمثال سيبويه والقرطبي ، حيث جاء في شرح أبيات سيبويه تحت باب “النصب بإضمار فعل يقصده المعنى” ما يلي:

النصب بإضمار فعل يقصده المعنى

قال سيبويه: في المنصوبات، قال كعب بن جعيل:

أعنيّ أميرَ المؤمنين بنائل … أعِنْكَ وأشْهَدْ من لقائِكَ مَشْهَدا

أعِنّي بخَوّار العِنان تخالُهُ … إذا راح يَرْدي بالمدجج أحْرَدا

وأبيضَ مصقولَ السَّطامِ مُهَنَّدا … وذا حَلَقٍ من نَسْجِ داودَ مُسْرَدا

كذا إنشاد البيت الأخير في كتاب سيبويه. والشاهد فيه إنه نصب (أبيضَ) بإضمار فعل كأنه قال: وأعطني أبيض. . . {شرح أبيات سيبويه (1/ 234)}

وجاء في تفسير القرطبي في معرض تفسي الآية: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} (النساء 172)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) ” خَيْراً” مَنْصُوبٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: ائْتُوا خَيْرًا لَكُمْ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِإِتْيَانِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمِمَّا يَنْتَصِبُ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إِظْهَارُهُ” انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ” لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ائْتِهِ فَأَنْتَ تُخْرِجُهُ مِنْ أَمْرٍ وَتُدْخِلُهُ فِي آخَرَ،..“{تفسير القرطبي (6/ 25)}

وكما نرى فإن هذا النصب وارد القرآن الكريم  في قوله تعالى:(انتهوا خيرا لكم) أي: (ائتوا خيرا) وأشعار العرب في قول الشاعر ( و”أبيضَ مصقول السطام..) أي: (أعطني أبيضَ).

وجاء في الإنصاف عند الحديث عن أدلة الكوفيين في رفع (لولا) الاسمَ الذي بعدها بفعل محذوف- أي: لولا زيدٌ، يعني لو لم يمنعني زيد- ما يلي:

وكذلك قالوا “ما أغفله عنك شيئًا” وتقديره: انظر شيئًا، كأن قائلا قال “ليس بغافل عني” فقال المجيب: ما أغفله عنك شيئًا، أي انظر شيئًا، فحذف. والحذف في كلامهم لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يُحْصَى؛ { الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (1/ 61)}

وما يهمنا في ما جاء في الإنصاف أن الحذف لدلالة الحال أكثر من أن يحصى.

ومما ورد في القرآن الكريم من هذا النصب بالحذف، ما جاء في الآية القرآنية: { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ  بَلَى ((قَادِرِينَ)) } (القيامة 4-5) وعنها جاء في المغني ما يلي:

وَقَالَ الْفراء فِي قَوْله تَعَالَى {أيحسب الْإِنْسَان ألن نجمع عِظَامه بلَى قَادِرين} إِن التَّقْدِير بلَى ليحسبنا قَادِرين ..

.. فِيهَا قَول سِيبَوَيْهٍ إِن قَادِرين حَال أَي بلَى نجمعها قَادِرين .. { مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص:792 – 791)

فالفراء يأخذ الآية على نصب المفعول الثاني (قادرين) بفعل محذوف مع فاعله تدل عليه القرينة اللفظية ..

ويتابع المغني في قوله:

”  وَلَا خلاف فِي جَوَاز حذف الْفَاعِل مَعَ فعله نَحْو {قَالُوا خيرا} وَيَا عبد الله وزيدا ضَربته” {مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 793)}

ويؤكد ابن مالك هذه البلاغة واللغة القرآنية، من حذف الفعل مع فاعله لقيام القرينة عليه بما جاء في شرح الكافية الشافية كما يلي:

وأما حذف الفعل وفاعله معا لدليل يدل عليهما فلا خلاف في جوازه وذلك كثير.

كقوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم}.

أي: نتبع ملة إبراهيم.

و [قوله تعالى]: {بَلَى قَادِرِين}.

أي: بلى نجمعها قادرين.”  { شرح الكافية الشافية:  (2/ 601)}

ومما ورد في القرآن الكريم أيضا لهذا النوع من النصب على حذف أو إضمار الناصب ما جاء في الآية التالية:

{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } (هود 72)

حيث جاء في المغني لابن هشام في معرض الحديث عن العطف على المعنى أو المحل ما يلي:

وَأما الْمَنْصُوب اسْما فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب} فِيمَن فتح الْبَاء كَأَنَّهُ قيل وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب على طَريقَة قَوْله

863 – (مشائيم لَيْسُوا مصلحين عشيرة … وَلَا ناعب إِلَّا ببين غرابها)

وَقيل هُوَ على إِضْمَار وهبنا أَي وَمن وَرَاء إِسْحَاق وهبنا يَعْقُوب بِدَلِيل {فبشرناها} لِأَن الْبشَارَة من الله تَعَالَى بالشَّيْء فِي معنى الْهِبَة وَقيل هُوَ مجرور عطفا على بِإسْحَاق أَو مَنْصُوب عطفا على مَحَله. وَيردّ الأول أَنه لَا يجوز الْفَصْل بَين العاطف والمعطوف على الْمَجْرُور كمررت بزيد وَالْيَوْم عَمْرو ..” {مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 622)}

فيتبين من هذا أن كلمة (يعقوبَ) إلى جانب عطفها على محل (بإسحاق) بالنصب، قد تُحمل على أنها مفعول به منصوب لفعل محذوف تقديره ( وهبنا) دلت عليه القرينة العقلية المستنبطة من السياق، أو قد يذهب البعض إلى أنها قرينة لفظية من السياق ككلمة (بشرناها).

وهذا المثال شبيه جدا بعبارات المسيح الموعود قيد البحث، حيث سبقت شبه الجملة (ومن وراء اسحاق) كلمة يعقوبَ، ما أمكن اعتبار هذه الفقرة مركّبة من مبتدأ مؤخر وخبر مقدم كما هي عبارات المسيح الموعود نفسه، لتكون الآية (ومن وراء إسحاق يعقوبُ) ، وهذا بالفعل ما قُرئت به هذه الآية في إحدى القراءات القرآنية برفع (يعقوبُ). مما يدل على جواز الحالتين حالة الرفع والنصب تماما كما هي عبارات المسيح الموعود عليه السلام.

وهذا ما يؤكده الطبري في تفسيره لهذه الآية حيث قال:

واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء العراق والحجاز: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ) ، برفع “يعقوب “، ويعيد ابتداء الكلام بقوله. (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، وذلك وإن كان خبرًا مبتدأ، ففيه دلالة على معنى التبشير.

وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم، (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب) نصبًا.

فأما الشامي منهما، فذكر أنه كان ينحو ب”يعقوب” نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة، كأنه قال: ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم يظهر “وهبنا” عمل فيه “التبشير” وعطف به على موضع “إسحاق …

وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. …

قال أبو جعفر: وأَوْلى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية، وما عليه قراءة الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به، لأن كتاب الله نزلَ بأفصح ألسُن العرب، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة. {تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (15/ 397- 396)}

ولا بدّ أن نقف هنا عند قول أبي جعفر الذي يعتبر قراءة الرفع هي الأفصح! فماذا لمعارضينا أن يقولوا إذا سمعوا أن أبا جعفر يعتبر القراءة الرائجة والمتداولة بين أيدينا والتي فيها قرئت الآية بالنصب، أنها أقل فصاحة من القراءات الأخرى!!؟؟ وهم الذين يتطاولون على فصاحة المسيح الموعود لاتباعه قواعد ليست متبعة في القراءة المتداولة بين أيدينا!؟؟

أقول: إن قول أبي جعفر هذا دليل واضح على أن معايير الفصاحة والبلاغة ليست معايير قطعية ولا هي معايير جامدة، فقد تختلف من ناقد إلى آخر؛ وما هو الأبلغ والأفصح عند مدرسة معينة أو عالم معين قد لا يكون هو الأفصح عند غيره والعكس صحيح. فها هو أبو جعفر يعتبر قراءة معينة أفصح من القراءة التي نقرأها كل يوم، على اعتبار أن كلها وحي قرآني فصيح.

وبالإضافة إلى كل هذه الشواهد فإن من أكبر الشواهد على صحة وفصاحة وبلاغة هذه اللغة، من نصب المفعول بفعل محذوف، هو ورودها في لغة الإمام الشافعي الذي يُعتبر حجة في اللغة، حيث جاءت في رسالته في الموضع التالي:

وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، ((وموْجوداً )) عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، {الرسالة للشافعي (1/ 358)}

حيث نراه نصب (موجودا) الثانية على تقدير حذف فعل وفاعله وهو (تراه) أو (تجده) بدلالة السياق والحال والعقل عليه.وتعليقا على (موجودا) قال محقق الرسالة أحمد شاكر ما يلي:

هكذا هي في الأصل بألف بعد الدال وعليها فتحتان، والوجه الرفع؛ ولكن لها هنا وجها أيضا، أن يكون مفعولا لفعل محذوف ، كانه قال: وتجده موجودا، أو: ونراه موجودا، أو نحو ذلك..

ويقول أحمد شاكر عن الشافعي ما يلي:

الشافعي لغته حجة لفصاحته وعلمه بالعربية، وإنه لم يدخل على كلامه لكنة، ولم يحفظ عليه خطأ أو لحن. وأصل الربيع من هذا الكتاب “كتاب الرسالة” أصل صحيح ثابت، غاية في الدقة والصحة. فما وجدناه فيه مما شذ عن القواعد المعروفة في العربية، أو كان على لغة من لغات العرب، لم نحمله على الخطأ، بل جعلناه شاهدا لما استعمل فيه، وحجة في صحته، واستنبطنا من ذلك بعض المسائل، ولعله فاتنا منه غيرها. …

النتيجة والتلخيص:

يثبت من كل ما تقدم :

  • أن نصب المفعول به بفعل وفاعل محذوفين لغة عربية قرآنية فصيحة وبليغة .
  • يُشترط لهذا الحذف أن يكون المحذوف معلوما بالقرائن اللفظية أو العقلية أو الحالية .
  • يُشترط لهذا الحذف أن يأمن اللبس ولا يتأثر المعنى.
  • هذا الأسلوب هو أحد الأساليب البلاغية المعروفة بالحذف والإيجاز .
  • ومن أهمية هذا الأسلوب هو الإيجاز وكمال المعنى مع الحذف؛ وتأدية المعنى الكثير في لفظ قليل دون الإخلال بالمعنى. وأن له حكم بلاغية ومعنوية.
  • هذا الأسلوب وارد في العديد من الآيات القرآنية مثل : {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } (البقرة 136)و {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة 5) و {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} (النساء 172) و { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } (هود 72)
  • هذا الأسلوب من الحذف لدلالة الحال أكثر من أن يُحصى في كلام العرب المنظوم والمنثور.
  • يؤكد صحة هذا الأسلوب كبار النحاة واللغويين، مثل: سيبويه والفراء وابن مالك والشافعي وعباس حسن مؤلف النحو الوافي والقرطبي وأحمد شاكر محقق رسالة الشافعي.

وكل هذه الشواهد والمعايير تنطبق على كلام المسيح الموعود عليه السلام . ففي عباراته الآنفة الذكر :

  • وأما إقامته في مقام عيسى وتسميته باسمه فله ((وجهين)) {حمامة البشرى (2/ 39)}
  • ولك من الورق ((ألفين))، إن كنتَ تُثبتُ فضل الإنجيل بغير المَيْن. {نور الحق (3/ 10)}

نرى بأن حضرته قد نصب الكلمات ( وجهين) و( ألفين) بفعل محذوف تقديره (نذكُر) في الأولى و( نعطي/ نهبُ) في الثانية. وجاء هذا الحذف وفقا للدلائل والقرائن العقلية والحالية والسياقية واللفظية، ففي الأولى كان السياق في معرض ذكر وتفسير أوجه الأحاديث الشريفة المتعلقة بنزول المهدي والمسيح، وكل عاقل سوي باستطاعته بكل بساطة تقدير هذا المحذوف الذي لا يمكن أن يقدّر إلا هو أو ما كان بمعناه.

وفي الفقرة الثانية، فإن السياق والعقل يحتم تقدير الفعل المحذوف ( نعطي) أو ما كان بمعناه، حيث كان السياق في تحدّ لأحد القسس المتنصرين وهو الشيخ عماد الدين الذي طعن في القرآن وامتدح الإنجيل، فجاءه هذا التحدي من قبِل المسيح الموعود بأن يُثبت فضل الإنجيل دون اللجوء إلى الكذب؛ وإذا نجح في ذلك فسيعطي له المسيح الموعود عليه السلام مبلغا من المال قدره ألفا روبية، وهو ما عبّر عنه المسيح الموعود عليه السلام بالكلمات (ولك من الورق ألفين). فالقرائن العقلية والسياقية واللفظية والحالية المبنية على عرف الناس وعادتهم في مثل هذه التحديات تحتم أن القصد من الكلام هو إعطاء ومنح هذا العدو مبلغا من المال قدره الفا روبية إذا نجح في هذا التحدي؛ ولذلك يكون تقدير الفعل المحذوف ( نعطي) أو (نمنح أو نهبُ) أو ما بمعناه، ولا يمكن لأي عاقل سوي أن يقدّر غير هذا التقدير.

إذا، فالقرائن العقلية والحالية والسياقية تحتم تقدير الأفعال في هذه السياقات المختلفة بالأفعال ( نذكر) و(نعطي)، تماما كما حتّم السياق والحال والعقل والمنطق السوي السليم تقدير الفعل (تجده) أو  (تراه) قبل المفعول به (موجودا) في عبارة الإمام الشافعي : وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، ((وموْجوداً)) عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، {الرسالة للشافعي (1/ 358)}-   حيث لا نجد قرينة لفظية تدل على هذا التقدير في السياق نفسه، بل هي قرائن سياقية حالية وعقلية فقط تستنبط من سياق الكلام وأعراف الناس وعاداتهم والعقل والمنطق.

وهذا ما ينطبق على الآيات القرآنية :  { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ ((بَلْ مِلَّةَ)) إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } (البقرة 136) و { انْتَهُوا ((خيْرًا لَكُمْ ))} (النساء 172) ففيها قرائن حالية وعقلية ولفظية تستنبط من السياق في تقدير الأفعال( نتّبعُ) و (ائتوا) قبل المنصوبات (ملةَ) و (خيرًا).

وما كل هذا إلا البلاغة في أسمى مدارجها ومعانيها، حيث أوجز المسيح الموعود عليه السلام القول ودلّ على الكثير بقليل اللفظ، مع أمن اللبس ودون أن يتأثر المعنى، إذ لا لبس في معنى العبارات إطلاقا، ولا يمكن لأي عاقل سوي أن لا يفهم القصد من عبارات المسيح الموعود عليه السلام بوجود الحذف فيها. بل إنني أجزم أن أي تلميذ مدرسي إذا عُرضت عليه هذه العبارات باستطاعته أن يفهم القصد منها دون أن يلتبس عليه الأمر.

فثبت من كل هذا صحة عبارات المسيح الموعود عليه السلام، وأنه لا خطأ واقع فيها البتة. وثبت أنها على النصب بفعل محذوف تدل عليه القرائن اللفظية  العقلية والحالية المستنبطة من السياق نفسه وأعرافِ الناس وعاداتهم.

وبهذا تتجلى آية المسيح الموعود في تعلمه أربين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة من الله تعالى بأسمى حالاتها في واحدة من أجمل وأبلغ اللغات العربية وهي نصب المفعول به بفعل محذوف.