من أجمل المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..12

نِكات العطف عند المسيح الموعود عليه السلام ..

يقول المسيح الموعود عليه السلام:”ومن آياته أنه علّمني لسانا عربية، وأعطاني نكاتا أدبية، وفضّلني على العالمين المعاصرين.”( مكتوب أحمد)

ويثبت صدق حضرته عليه السلام في قوله هذا، بالنظر إلى النكات الأدبية الواردة في الفقرات التالية:

  • وأن لكل إنسان لسانٌ وأذنين، وأنفٌ وعينين (حمامة البشرى)
  • وكان الميّت حيًّا ما دام عيسى قائمٌ عليه أو قاعدًا. (حمامة البشرى)

فللناظر في هاتين الفقرتين أن يلحظ أمرا غريبا وليس مألوفا في لغتنا المعاصرة، وهو عطف الكلمات أذنين، عينين، وقاعدا؛ بالنصب على كلمات مرفوعة وهي لسان، أنف، وقائم؛  وهو ما يناقض قواعد العطف المعروفة لنا بعطف النسق، والذي توجب أن يتبع المعطوفُ المعطوفَ عليه في حركته دائما.

وقد يظن البعض وقوع خطأ أو سهو في هاتين الفقرتين في مسألة العطف هذه، إلا أنه في الحقيقة لم يحدث أي خطأ فيهما وهذا ما سوف نبيّنه في هذا البحث.

سوف نقصر الحديث في هذا البحث على الفقرة الأولى، على أن نخصص مقالا خاصة للفقرة الثانية حتى نبيّن فيها أوّلا سبب الرفع الواقع فيها لكلمة “قائمٌ”، إلا أن مسألة العطف التي سنبيّنها هنا تنطبق عليها هي أيضا.

فأما بالنسبة للفقرة الأولى: وأن لكلِ إنسانٍ لسانٌ وأذنين، وأنفٌ وعينين (حمامة البشرى)

فقد كنّا قد بيّنا في مقالات “شبه الجملة” سبب رفع كلمتي “لسانٌ” و”أنفٌ”، وهو اعتبار شبه الجملة من الجار والمجرور “لكل إنسان” بأنها هي اسم “أن” وفق لغة من لغات العرب أقرّ بها العديد من علماء اللغة وثبتت في لغة الإمام الشافعي الحجة، فكانت وفقَها كلمتي “لسانٌ”  و”أنفٌ”خبرين لـ” أن” وجب رفعهما؛ وبذلك دحضنا الاعتراض القائل بوجوب نصبهما.

وقد يتساءل البعض أنه إذا كانت “لسانٌ” و”أنفٌ”خبرين مرفوعين لـ”أن”، فلماذا انتصبت كلمتا “أذنين”  و”عينين” بالياء على أنهما مثنى رغم عطفهما على كلمتي “لسانٌ” و”أنفٌ” المرفوعتين.

وللرد على هذا السؤال كان لا بد من البحث المستفيض في مسألة العطف أو ما يُعرف بعطف النسق، ليتضح بعدها أن ما قد يتوهمه البعض بأنه خطأ أو سهو ما هو إلا نكات أدبية ومظاهر إعجازية أخرى في لغة المسيح الموعود عليه السلام، جاءت لتؤكد صدق حضرته وصدق ادعائه بأن الله تعالى علمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة.

يتضح بعد البحث والتحري أن نكات العطف الواردة في الفقرات أعلاه تندرج تحت بعض الأحكام غير المألوفة في عطف النسق، وهو ما عرف عند كبار النحاة بالعطف على المحل والعطف على التوّهم والعطف على المعنى.

أسوق إليكم ملخصا لبحث مستفيض في هذا الموضوع من المصادر اللغوية والنحوية المختلفة. وبما أن المراجع عديدة والنصوص كثيرة عمدت على إبقائها في الهامش مع أرقام الصفحات، مشيرا في التلخيض إلى هذه المراجع وفق أرقام الصفحات فيها؛ حتى يتسنى لكل من يريد التدقيق فيها الرجوع إليها وقراءتها.

ملخص البحث:

يتضح من البحث في العديد من المراجع والمصادر اللغوية والتي تعتبر من أمهات المصادر النحوية الأمور التالية:

  • للعطف ثلاثة أقسام، عطف على اللفظ وعلى المحل وعلى التوهم، والفرق بين القسمين الأخيرين أن العامل في العطف على المحل موجود وفي التوهم مفقود. { ( المغني 615-620)، (حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (3/ 131)}
  • عند البحث في هذا الموضوع يتضح جليا تفاوت النحاة في هذه التعريفات لأنواع العطف المختلفة، فمنهم من سمَّى العطف على التّوهم أيضا بالعطف على المعنى خاصة في القرآن الكريم؛ لعدم إمكانية نسبة التوهم لله تعالى وفق رأي البعض أدبا. وهنالك من ذهب إلى تقسيم أوسع من هذا، فأضاف “العطف على المعنى” وفرّق بينه وبين العطف على التوهم، وقد جُعل مدار “العطف على المحل” كون المحل يستحق ذلك الإعراب في الحال أو بحسب الأصل، ومدار “العطف على المعنى” كون الكلام بمعنى كلام آخر وإن لم يكن له محل لا في الأصل ولا في الحال، وأما “العطف على التوهم” فمداره توهم دخول لفظة أو أداة عاملة على “المعطوف عليه” رغم عدم وجودها، فيُعطى المعطوف إعراب “المعطوف عليه” بتوهم وجود الأداة العاملة معه. وهنالك من اعتبر العطف على المعنى عاما يشمل العطف على المحل والتوهم معا. {(حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 233)، (شرح شذور الذهب للجوجري (1/ 214)}

 

  • فأما العطف على المحل فله ثلاثة شروط:1- إمكانية ظهور المحل في الفصيح، ولم يأخذ بهذا الشرط ابن جنيّ ولا أبو حيان؛ بل اشترط هذا الأخير أن يكون للمعطوف عليه لفظ وموضع 2- أن يكون المحل بحق الأصالة، أي لا بد أن يكون هو الأصل، ولم يأخذ بهذا الشرط البغداديون 3- وجود الطالب لذلك المحل، مثلا وجود الأداة العاملة فيه، ولم يأخذ بهذا الشرط الكوفيون وبعض البصريين.

وقد أكّد على جواز “العطف على المحل” العديد من كبار النحاة مثل سيبويه والجرمي والزجاج والفراء، وابن جني وابي حيان وابن مالك وابن هشام والكوفيين والبصريين والبغداديين؛ وكلٌّ له رأيه وشروطه في هذا الأمر. {(المغني 616-617)، (الخصائص (1/ 103)، (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 343)، (شرح أبيات سيبويه (1/ 233)}

 

  • ورد العطف على المحل في العديد من المواضع الإعرابية والنحوية كما يلي:
  • أجاز البعض العطف على محل اسم النواسخ والذي هو الابتداء، رغم عدم وجوده وزواله لدخول الناسخ، فمثلا: “إن زيدا قائمٌ وعمرٌو”، حيث عُطف عمرٌو بالرفع على محل اسم إن والذي هو الابتداء. وقد اختلف النحاة في هذا النوع من الرفع عطفا على اسم إن بجوازه قبل ذكر ومجيء الخبر. {(المغني 617-618)}

من أمثلة العطف على محل اسم إن ( أي المبتدأ ) بالرفع رغم عدم وجود الطالب للمحل وفق رأي الكوفيين والفراء والكسائي وغيرهم، هو بعض الآيات القرآنية  والأبيات الشعرية منها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} (المائدة 70) حيث عُطفت “الصابئون” بالرفع على محل اسم إن. و (خليلي هَل طبّ فَإِنِّي وأنتما … وَإِن لم تبوحا بالهوى دنفان)و (فَمن يَك أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله … فَإِنِّي وقيار بهَا لغريب) حيث عطف ضمير الرفع أنتما وكلمة قيارٌ بالرفع على محل اسم إن وهو الابتداء. {(المغني 617-618)}

وقوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُه} -و { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب 57) حيث قرأ ابن عباس وأبو عمرو “وملائكتُه” بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب-، و(فمن يك لم ينجب أبوه وأمه        فإنَّ لنا الأمَّ النجيبةَ والأبُ)، و (وما قصرت بي في التسامي خؤولة             ولكنَّ عمي الطيبُ الأصلِ والخالُ)؛ بعطف رسولُه والأبُ والخالُ رفعًا على محل اسم إن وهو المبتدأ، كما ذهب إليه ابن مالك وابن هشام في هذه المواضع. {أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 344-343-345-346 )}

ومن أمثلة العطف على المحل بالرفع، هو العطف على محل خبر النواسخ الفعلية، على اعتبار محله خبرا مرفوعا قبل دخول الناسخ الفعلي، نحو: ما زيد قائمًا ولا قاعدٌ ولا قاعدًا. والأرجح النصب. {حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 368)}

  • رغم ذلك فإن جمهور من النحاة لا يأخذ بهذا النوع من العطف بالرفع على محل اسم إن، ويحاول التأويل بتقديرات مختلفة، بل يأخذون بالعطف رفعا على المحل فقط عندما لا يمنع العامل اللفظي العامل المعنوي، مثلا حرف الجر الزائد الذي هو كالعدم، مثلما في: “ما جاءني من رجل ولا امرأةٌ”، بعطف امرأةٌ بالرفع على محل “من رجل” وهو الفاعل حيث لم يمنع العاملُ اللفظي ( حرف الجر الزائد) العاملَ المعنوي من العمل وهو الفاعل. ولكنّ غيرهم من النحاة مثل الكسائي والفراء وابن مالك وابن هشام والجرمي والزجاج لا يشترطون ذلك بل يعطفون على محل “اسم إن” وهو الابتداء.  وقد أقرّ “أوضح المسالك” أن رأي هؤلاء النحاة مثل ابن مالك وابن هشام أسلم ويريحنا من التأويلات العبثية.  {أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 345 و347)}

 

  • وقد أجاز البعض العطف بالنصب على محل معمول الأسماء المشبهة بالفعل مثل اسم الفاعل والمصدر، دون وجود المجوّز وطالب المحل-، مثلا: هَذَا ضَارب زيد وعمرًا بِالنّصب؛ وأعجبني ضرب زيد وَعَمْرو بِالرَّفْع أَو وعمرا بِالنّصب  {( المغني 617-618)}
  • ومن أمثلة العطف على المحل بالنصب، هو العطف على محل ظرف الزمان كما أقرّه الفارسي في الآية الكريمة { وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } (هود 61) بعطف “يومَ” بالنصب على محل “هذه” والذي هو ظرف زمان منصوب. ( المغني 616) وكما جاء عن سيبويه في شرح أبياته في البيت التالي: ألا حيَّ نَدْماني عميرَ بنَ عامرٍ … إذا ما تلاقَيْنا من اليوم أو غدا)، حيث عطف “غدا” بالنصب على محل ” من اليوم” والذي هو محل ظرف زمان منصوب. {شرح أبيات سيبويه (1/ 233)}
  • ومن أمثلة هذا العطف بالجزم على المحل، ما َقَالَه السيرافي والفارسي كَقَوْل الْجَمِيع فِي قِرَاءَة الْأَخَوَيْنِ {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (187)} حيث عطف “يذرْهم” بالجزم على محل “فلا هادي له” {( المغني 620)}

 

  • وأما العطف على التوهم فهو ما عرف عند البعض خاصة في القرآن الكريم بالعطف على المعنى، فهو بتوهم دخول الأداة العاملة على “المعطوف عليه”، نَحْو: “لَيْسَ زيد قَائِما وَلَا قَاعدٍ” بالخفض على توهم دُخُول الْبَاء فِي الْخَبَر؛ أي يكون توهم الجملة : ليس زيدٌ بقائمٍ” {( المغني ص619)}
  • وللعطف على التوّهم شرط للجواز وشرط للحُسن؛ وَشرط جَوَازه صِحَة دُخُول ذَلِك الْعَامِل المتوهَم، وَشرط حسنه كَثْرَة دُخُوله هُنَاكَ.{(المغني ص 619)}
  • وقد وقع هذا العطف كثيرا في العطف جرّا على خبر “ليس” و”ما” وكذلك “كان”، بتوهم دخول حرف جر على أخبارها، كما وقع هذا العطف في المجزوم والمرفوع والمنصوب اسما وفعلا، وفي المركبات كما في الأمثلة التالية: {(المغني 620)، ( همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (3/ 230)}
  • الجر: كقول زهير بن ابي سلمى: (بدا لي أَنِّي لست مدركَ مَا مضى … وَلَا سَابقٍ شَيْئا إِذا كَانَ جائيا)؛ عطف “سابقٍ” بالجر بتوهم ” بمدركٍ”.
  • الجزم: كقول الخليل وسيبويه في الآية الكريمة: { رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (11)} (المنافقون 11) فجزم “أكنْ” بتوهم دخول “إن” الشرطية أي عطف على معنى: “إن أخرتني أصّدقْ”
  • النصب: كقول سيبويه في : “قَامَ الْقَوْم غير زيد وعمْرًا” حيث نصب عَمْرًا عطفا على محل زيدٍ بتوهم دخول  “إلّا” بدلا من “غير”؛ أي بتوهم ” قام القوم إلا زيدا” .( المغني 620-621) وكقول الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } (هود 72) حيث عطف يعقوب بالنصب على توهم ” وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب”؛  إذ لا يمكن ليعقوب أن تكون معطوفة على “بإسحاق” جرا بالباء او نصبا على المحل، وذلك لأَنه لَا يجوز الْفَصْل بَين العاطف والمعطوف على الْمَجْرُور كمررت بزيد وَالْيَوْم عَمْرو؛ فلا بد من تقدير عامل دون حرف جر ليصح العطف عليه مع وجود الفاصل بين العاطف والموعطوف، فكان التوهم “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوبَ”  . (المغني 621-622)
  • الرفع: من الممكن للعطف على التوهم أن يكون بتوهم وجود العامل أو توهم عدم وجوده، كما في ” إنك وزيدٌ ذاهبان” فهنالك من أخذ عطف “زيدٌ” بالرفع على توهم عدم وجود “إن” ( المغني 618) وكما حكى سِيبَوَيْهٍ: إِنَّهُم أَجْمَعُونَ ذاهبون وَإنَّك وَزيد ذاهبان على توهم أَنه قَالَ (هم) {( همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (3/ 230)} فأجمعون توكيد مرفوع على توهّم حذف “إن” قبلها، وما سرى على التوكيد هنا هو قياسا على سَيَرانه في العطف، كما القياس على عطف المحل وفق ما جاء في أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 343)

ومن أمثلة العطف على المعنى أو التوهم التي أوردتها المصادر المتلفة ما يلي:

  • قراءة: {ودوا لَو تدهنُ فيدهنوا} (القلم 10) عطف على معنى ودّوا أَن تدهنَ بالنصب.

 

  • قِرَاءَة قنبل: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ } (يوسف 91). بِإِثْبَات الْيَاء فِي يَتَّقِي وَجزم يصبر ، فَزعم أَن مَن مَوْصُولَة فَلهَذَا ثبتَتْ يَاء يَتَّقِي، وَأَنَّهَا ضُمنت معنى الشَّرْط وَلذَلِك دخلت الْفَاء فِي الْخَبَر وَإِنَّمَا جزم يصبر على توهم معنى من.

 

  • وقد يصح في بعض الأحيان حمل العطف على الموضع وعلى التوهم في نفس الوقت ،كما في البيت التالي: (وَمَا زرت ليلى أَن تكون حَبِيبَة … إِلَيّ وَلَا دين بهَا أَنا طَالبه) بجرّ “دينٍ” عطفا على محل ” أن تكون” وفق أصلها “لأن تكون”، أو عطفا على توهم دخول اللام على ” أن تكون”. وقد اختُلف في مثل هذه المواضيع على ترجيح أحد هذين النوعين من العطف على الآخر، فهنالك من قال بترجيح العطف على المحل بأنه أولى من العطف على التوهم، وهنالك من رفض ذلك بالقول إن القواعد لا تثبت بالمحتملات. {(المغني 683)، (الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (1/ 326)}
  • نرى في المثال أعلاه: (وَمَا زرت ليلى أَن تكون حَبِيبَة … إِلَيّ وَلَا دين بهَا أَنا طَالبه) ورود العطف على المحل والعطف على التوهم في موضع المصدر المنسبك من أن المصدية وما بعدها .{( الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (1/ 326)}

ومن أمثلة جواز العطف على المحل والتوهم معًا، ما جاز في تابع المستثنى إذ جاء:  يجوز في تابع المستثنى بها مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، تقول: “قام القوم غير زيد وعمرو، وعمرا”، فالجر على اللفظ، والنصب على المعنى؛ لأن معنى “غير زيد”: “إلا زيدا”، وتقول: “ما قام أحد غير زيد وعمرو”، بالجر والرفع؛ لأنه على معنى: إلا زيد. وظاهر كلام سيبويه أنه من العطف على المحل، وذهب الشلوبيين إلى أنه من باب التوهم. {(شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 516)، ( حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 233)}

فنرى أن سيبويه يأخذه على المحل، والشلوبين على التوهم أو المعنى. لذا فوفق هذا قد يختلف الرأي في رد العطف، أهو على التوهم أو المحل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا، وِفقَ هذا البحث نَخلص إلى ما يلي:

  • إمكانية العطف على محلّ اسم النواسخ خاصة “اسم إن” بالرفع على اعتباره في الأصل مبتدأ.
  • كذلك إمكانية العطف بالرفع على محل خبر النواسخ، وبالذات النواسخ الفعلية ذات الأخبار المنصوبة على اعتبار أن أصلها ومحلها أخبارٌ مرفوعة.
  • إمكانية العطف على المحل والتّوهم في مواضع الإعراب المختلفة، رفعا وجزما ونصبا وجرا.
  • إمكانية العطف على المحلّ بإعراب معين، إذا كان المحل يستحق هذا الإعراب في الأصل أو في الحال، وليس بالضرورة في الأصل فقط؛ كما بيّناه في مدار هذا النوع من العطف، ونظرا لكون بعض النحاة كالبغداديين، لم يشترطوا شرط الأصالة على المحلّ حتى يصحّ هذا النوع من العطف عليه.
  • ومن هذا تثبت إمكانية العطف بالنصب على محل أسماء وأخبار النواسخ إذا ما كان هذا المحل يستحق هذا النصب في الأصل مقارنة بالقواعد الأخرى، أو يستحقه في الحال بناء على القواعد الأخرى.
  • وهنا لا بدّ أن نذكّر بالقواعد المختلفة المتعلقة بالنواسخ الحرفية عندما تكون شبه الجملة أحد معموليها ومقدَّما على المعمول الآخر؛ وهي أربع:
  • 1- اعتبار شبه الجملة خبرا مقدما مرفوعا والمعمول الآخر اسما مؤخرا منصوبا. وهي الأشهر وقد تكون الأصل من بين الثلاث.
  • 2- اعتبار شبه الجملة اسما منصوبا وما بعدها خبرا. وفق ما أثبتناه في مقالات سابقة وأقرّ به ثلة من النحويين واللغويين، وثبُت في لغة الإمام الشافعي الحجة.
  • 3- نصب المعمولين، شبه الجملة والمعمول الآخر، وفق لغة من لغات العرب أقرّ بها النحو الوافي. {{النحو الوافي (1/ 641)}}
  • 4- إضمار وحذف ضمير الشأن بعد إن على انه اسمها المنصوب والجملة بعده في محل رفع خبر إن.

 

  • فإذا أخذنا بعين الاعتبار تفاوت النحاة واختلافهم في تحديد هذه التعاريف للعطف، حيث منهم من أخذ بالعطف على المحل في مواضع العطف على التوهم، ومنهم من عرّف الاثنين أنهما عطف على المعنى؛ وبالأخذ بعين الاعتبار أن السليقة العربية سبقت هذه التعريفات كلها وهي ليست مقيدة بهذه التعريفات؛ فبإمكاننا والحال هذه أن نأخذ العطف في الفقرات أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام، على أنه عطف على المعنى أو التوهم. ليكون المسيح الموعود عليه السلام قد أجرى الفقرة: “وأن لكل إنسان لسانٌ” وفق القاعدة الثانية التي تعتبر شبه الجملة اسما للنواسخ، أو الرابعة ذات ضمير الشأن، ولكنه عند العطف على “لسانٌ” توهّم الجملة على القاعدة الأولى أو الثالثة التي تنصب “لسانا” فعطفها على هذا التّوهم والمعنى.

وما ينطبق على “لسان وأذنين” ينطبق على التوالي على “أنف وعينين” في الجملة التي بعدها، وذلك لأن عطف جملة “أنف وعينين” على “أن لكل إنسان لسان وأذنين” هو من قبيل عطف جملة اسمية على جملة اسمية أخرى، وذلك بتقدير حذف “أنّ” وأحد معموليها في الجملة الثانية؛ ليكون التقدير” وأن لكل إنسان لسانٌ وأذنين، وأن لكل إنسان أنفٌ وعينين”. وهذا وفق ما أقرّه النحو الوافي في إمكانية حذف الحروف الناسخة مع أحد معموليها، وإمكانية عطف الجملة الاسمية على الأخرى عند هذا الحذف.{ينظر:  (النحو الوافي (1/ 641)، ( النحو الوافي (1/ 666)}

 

  • وما ذكرناه بالنسبة للفقرات: وأن لكل إنسان لسانٌ وأذنين، وأنفٌ وعينين (حمامة البشرى)

ينطبق على عطف “قاعدا” على “قائمٌ” في الفقرة التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام: (وكان الميّت حيًّا ما دام عيسى قائمٌ عليه أو قاعدًا. (حمامة البشرى)

إلا أننا سنخصص لها مقالا لتبيين كلّ ذلك مع سبب الرفع في قائمٌ.

بقي أن أنوّه إلى أننا لسنا في صدد الجزم والقطع، تحت أي من أنواع العطف هذه تندرج فقرات المسيح الموعود عليه السلام، إذ ما يهمّنا من كل هذا البحث أن نثبت أن العطف الوارد في فقرات المسيح الموعود يندرج تحت لغة من لغات العرب يشهد على صحتها وفصاحتها وبلاغتها الوحي القرآني، لورودها بأمثلة كثيرة في القرآن الكريم، وأقر بها كبار  النحاة وعلماء اللغة، وبذلك نكون قد أدّينا مهمتنا.

فثبت من هذا البحث أنه لا خطأ ولا سهو واقع في فقرات المسيح الموعود عليه السلام، لا في معمولي أنّ ولا بالعطف الوارد في هذه الجمل. بل إن هذا العطف وكل هذه الدقائق اللغوية ما هي إلا مظاهر الإعجاز العظيم في لغته عليه السلام، ثبتت في لغات العرب وأقرّ بها كبار النحاة واللغويين؛ جاءت لتؤكد صدق حضرته عليه السلام وصدق نبوّته وصدق معجزته في تعلّمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة.